هكذا يموت الفقير 1 – جورج أورويل


هكذا يموت الفقير- جورج أورويل.

ترجمة- محمد النعاس

george-orwell

لطالما كان عالم جورج أورويل مثيراً بالنسبة لي، ذلك الكاتب البريطاني الذي عانى كثيراً كمتشرد في فرنسا، والذي لم تكن حياته مليئة بما يكفي من الراحة، في يوم كنت أعتقد فيه أن حياة أغلب الكتاب هي حياة مريحة، بصحبة الكتب والمكتب والأوراق مع إضافات قليلة كحبيبة تجعلهم يكتبون بفاعلية أكثر، أو هوايات متخمة بالترف، ولكن عندما تعرفت على هذا الكاتب، دخلتُ عالماً جديداً لم أعهده، لم أعد أعترف بالصور النمطية، لكني لستُ الموضوع، بل هو جورج أورويل، صاحب الروايتين الشهيرتين 1984 ومزرعة الحيوان، وصاحب أعمال أخرى لم تنل حظها في الشهرة كما فعلت الروايتين، أعمال تكشف حقيقة ج.أورويل، تجاربه التي خاضها ليصبح كاتباً يسارياً رافضاً لليسار التقليدي الذي يرمز له ستالين وأشباهه،كان يسارياً شديداً، لكنه أكثر، كان إنسانياً أكثر… وهذا ما يظهر في أعماله الأخرى ( متشرداً في باريس ولندن كمثال)، وفي مقالاته، يتضح منه أنه صاحب تجربة إنسانية رغم تعاستها… إلا أنها كانت وقوداً لكتابة العمليْن العظيميْن، ليس أكثر من شخصية إيرك بلير ( المكنى بجورج أورويل) وأدبه الذين جعلانني أحاول – ولا ضير من المحاولة- في نقل أعماله للعربية، أقدم هنا… جزء من المقال الطويل ” هكذا يموت الفقير – How the poor die” على أمل أن أنشر ما تبقى منه في المدة القادمة.

————————

0,,15974632_303,00

قد قضيت أسابيع عدة من العام 1929 في المستشفى (  إيكس*) بالمنطقة الخامسة عشر  بباريس. قام الموظفون بوضعي في الدرجة الثالثة – المعتادة- بمكتب الاستقبال، كان عليْ أن أجيب على عدة أسئلة لمدة عشرين دقيقة قبل أن يسمحوا لي بالدخول. إذا اضطررتَ يوماً أن تملأ نماذجاً في بلد لاتينية ستعرف حتماً ذلك النوع من الأسئلة الذي أعنيه. بعد ذلك ولعدة أيام تالية، تحتم عليْ أن أترجم حرارتي  من ريومر* إلى فهرنهايت، ولكني علمتُ أن درجتي حرارتي كانت تقارب مئة وثلاث درجات، بعد انتهاء المقابلة واجهت صعوبة في الوقوف على قدميْ، خلفي زمرة من المرضى يحملون رزم داخل مناديل ملونة وينتظرون دورهم ليُسألوا.

بعد الأسئلة، جاء دور الحمام- روتين إلزامي لكل القادمين الجدد كما في السجن أو الإصلاحية-، أُخِذت ملابسي وبعد أن كنتُ أرتعش في حوض ماء دافئ بطول خمس إنشات لهنيهة من الدقائق، أُعطيتُ قميصَ نوم كتّاني وثوب فانيلي أزرق ولا شباشب – لم يكن لديهم ما يناسب حجم قدميْ-، هكذا قالوا، وأُخرجتُ للهواء الطلق.

كانت ليلة من ليالي فبراير وكنتُ أعاني من الالتهاب الرئوي، والجناح الذي كان علينا أن نصله كان يبعد ما يقارب المئتيْ ياردة، حيثُ اتضح لي بأنّه علينا أن نقطع ساحة المستشفى. تعثر شخصٌ أمامي حاملاً مصباح، الطريق المليء بالحصى كان بارداً جداً على الأقدام، أزاحت الريح القميصَ عن جلدي العاري. عندما وصلنا للجناح انتابني شعور غريب بالألفة، لم أتمكن من معرفة مصدره إلا متأخراً في الليل. كان الجناح عبارة عن غرفة طويلة ومنخفضة السطح مليئة بالأنين، بها ثلاثة صفوف من الأسرة المتقاربة جداً ببعضها البعض.

كان المكان يعج برائحة برازية كريهة لكن حلوة، وعندما استلمت السرير لاحظت وجود رجل صغير بأكتاف دائرية وشعر رملي جالساً مقابلي نصف عاري بينما يقوب طبيب وتلميذ بإجراء عملية غريبة عليه، في البداية، أخرج الطبيب دزينة من القناني الصغيرة كقناني النبيذ، بعد لك قام التلميذ بإشعال عود ثقاب داخل كل قنينة لاستنزاف الهواء، ومن ثم برزت القنينة على ظهر أو صدر الرجل لتخلف فقاعة صفراء مكانها، ولم أتمكن من معرفة ما صنعاه به إلا بعد دقائق، كانت العملية تدعى الحجامة، وهي علاج ما يمكنك أن تقرأ عنه في الكتب الطبية القديمة، ولكني كنتُ أعتقد أنها من الأمور الغامضة التي تُفعلُ بالأحصنة.

قلل – لربما- الهواء البارد بالخارج من درجة حرارتي، وكنتُ أشاهد العلاج البربري بتجرد وبنوع من التسلية، في اللحظة التالية، تحرك كل من الطبيب والتلميذ ناحية سريري، رفعاني عالياً وبدون أن ينطقا بشفة بدآ بوضع القنينات نفسها عليْ، تلك القنينات التي لم يتم تعقيمها بأية طريقة. ولم تنفع احتجاجاتي الواهنة التي تفوهت بها في لفت انتباههما، وكأنني كنتُ حيواناً ما. كنت مندهشاً بالطريقة التي ابتدآها بي. لم أكن في الجناح العام لمستشفى من ذي قبل، وكانت هذه تجربتي الأولى مع هذا النوع من الأطباء الذي يتعاملون معك بدون أن يتحدثوا، أو حتى – بأي حس إنساني- يأخذوا أية ملاحظات عنك. في حالتي، وضعوا ست قنينات فقط. ولكنهم خدشوا البقع الجلدية ووضعوها مرة أخرى. الآن، كل قنينة كانت تحتوي على مقدار ملعقة سكر من الدم غامق اللون،، وفي الوقت الذي كنت فيه مستلقياً بإذلال وتقزز مرتعداً من الذي صنعاه بي، خمنت أنهما سيتركانني وشأني، ولكن لا! ولا حتى لمقدار قليل، كان هنالك علاج آخر في الطريق، كانت هناك ممرضتان قد جهزتا مرهم الخردل – إجراء روتيني كالحمام الساخن-، وزعتا المرهم حول صدري بإحكام حتى بدا كالجاكيت الضيق بينما كان بعض الرجال الذين يحومون في الجناح بقمصان وسراويل بالتجمع حول سريري بابتسامات عريضة نصف متعاطفة. علمتُ لاحقاً أنّ مشاهدة مريض يتحل على علاج المرهم هي طريقة من الطرق المفضلة لتمضية الوقت بالجناح.

عادة ما تطبق هذه الأشياء لمدة ربع وهي مضحكة كفاية إن لم تكن الشخص الذي تُطبق عليه. كان الألم شديداً في الدقائق الخمس الأولى، وما إن تؤمن بامكانيتك على احتماله، يتلاشى هذا الإيمان في الدقائق الخمس التالية، المرهم مثبت خلفك بحيث لا يمكنك نزعه، وهذه أكثر اللحظات التي يستمتع بها المتطفلون. بعد نزع المرهم وضعوا مخدة مضادة للماء ومحشوة بالثلج تحت رأسي ثم تركوني لوحدي. لم أنم وعلى حد علمي أن تلك الليلة كانت الليلة الوحيدة في حياتي – أعني الليلة الوحيدة في السرير- التي لم أنم فيها أبداً، ولا حتى لدقيقة واحدة!

خلال ساعتي الأولى بالمستشفى ( إيكس) تحصلت على سلسلة كاملة من العلاجات المختلفة والمتناقضة، ولكنّ ذلك لم يكن إلا تضليلاً، حيث أنه وبصفة عامة لا يمكنك إلا أن تتحصل على القليل جداً من العلاج، سيئاً كان أم جيداً، إلا إذا كنت مريضاً بطريقة مثيرة وتعليمية. عند الخامسة صباحاً أتت الممرضات لإيقاظ المرضى وأخذ درجات حرارتهم، ولكن لم تقمن بغسلهم. إن كنتاً معافاً كفاية يمكنك أن تغسل نفسك بنفسك، عدا ذلك، عليك أن تعتمد على كرم بعض المرضى الذين باستطاعتهم المشي. عامةً المرضى أيضاً، هم الذين كانوا يحملون أكياس الأسرة وأحواض البراز الكالحة، المُسمى بالمقلاة*. وصل الفطور في الثامنة، يدعى – كنمط الجيش- لاسوب*، كان عبارة عن حساء خضروات بكتل دبقة من الخبز تطفو حوله. مؤخراً في النهار، قام الطبيب الرصين صاحب اللحية السوداء بجولاته، صحبة طبيب متمرن ومجموعة من التلاميذ تتبعه، ولكن كان هناك ما يقارب الستين منّا في الجناح وكان واضحاً أنه عليه أن يتابع جولته لعدة أجنحة أخرى. كان عليه أن يمر بالعديد من الأسرة اليوم تلو الآخر، متبوعاً – أحياناً- بتوسلات باكية. في الكفة الأخرى إذا كنت مصاباً بداء يريد التلاميذ أن يألفوه ستتحصل على الكثير من الانتباه من نوع ما. عن نفسي، بعينة استثنائية جيدة من الحشرجة الشُعَبِيَة، قد تحصلت على العديد من التلاميذ المتحلقين حولي للاستماع لصدري. كان شعوراً غريباً جداً-غريب، أعني. بسبب تركيزهم المكثف في تعلم عملهم، مع بعضهم بعدم إدراكهم أن المرضى كانوا مخلوقات بشرية. حكاية ذلك تبدو غريبة، ولكن في بعض الأحيان حيث يقوم طالب ما بالتقدم ليأخذ دوره في التلاعب بككان يرتعش بإثارة، كطفل قد وضع يداه للتو على قطعة آلية ثمينة. بعد ذلك، أذن تلو الأخرى- آذان شبان، فتيات، زنوج- تُضغط على ظهرك، تتناوبك الأصابع بطريقة رسمية لكنها خرقاء مطقطقة عليك، ولا تتحصل على أي كلمة أو نظرة مباشرة لوجهك من أي شخص منهم. كأي مريض يرتدي قميصه الليلي الرسمي، كنت… بصفة رئيسية: عينة، كان أمراً لم أمتعض منه ولكنني لم أتعود عليه بتاتاً.

  • إيكس: الحرف الفرنسي X

·        ريومر: تدريج لقياس درجة الحرارة نسبة إلى العالم Reaumer

·        المقلاة: بالفرنسية La Casserole واستعملها الكاتب هنا واصفاً لون الحوض.

·        لاسوب: الحساء بالفرنسية La soupe

1 Comment

Leave a Comment

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s