قصة كلب ليبي هاجر إلى سويسرا- محمد النّعاس
(2)
كان نهاراً صيفياً من تلك النهارات التي تطرأ بمدينة طرابلس حيث لا تدرِي لماذا يصر الغبار أن ينهش رموشك كجراد، تلك النهارات التي تكاد حرارة إسفلت الطريق السريع أن تحرق الإطارات، الرطوبة في الهواء تشعرك كأن وجهك يمتص ذرات الأكسجين الأخيرة بكيس من ذوات القِرشَيْن -كما يسمونهم هنا- الملفوف عليْه، السيارات التي يقودها قوم مخمورون أو يبدون كذلك من طريقة قيادتهم الخارجة عن المنطق، الشمس في أعلى السماء تجعل المقبلين على نواحي غروبها يمقتونها، سياراتان، إحداهما ألمانية الصنع Mercedes Benzموديل 2013 والأخرى كيا سبورتاج 2010 تقريباً، لا يمكنك أن تكون متأكداً من السيارات الكورية فكلها تشبه بعضها، لا غرابة فهي آسيوية، السيارة الألمانية كانت رمادية اللون تلاحقها الكورية البيضاء تسرعان بطريقة جنونية على الطريق السريع.
في السبورتاج يوجد ثلاث ركاب، مصري البشرة، أبيضٌ ضخم في الكرسي الخلفي وأبيض آخر كسائق يرتدي قبعة عسكرية، أما في المرسيدس كانت النوافذ العاتمة التي تحوم بها لا تتيح مجالاً لمعرفة السائق، ناور صاحبها السيارة التي تلحق به، كان يقودها بسرعة 140 كيلومتر في الساعة عندما حفت سيارة هامبورغا زرقاء تسير بأقل من نصف سرعتها، كانت الحركة التي اصطنعتها المرسيدس للهامبورغا كتلك التي يصنعها طائر الخطّاف عندما يقترب من سطح الماء؛ كان سائق الهامبورغا…يجاهد يوماً عصيباً لم يستطع طيلته أن يشعل سيجارة واحدة تريح خلاياه العصبية من متاعب العمل وقد تحصل أخيراً على فرصة إشعالها في تلك اللحظة بالضبط، جهز الجو الخاص به مشترياً كوب من المكياطة التي يشتهي، واضعاً الديسكو خاصته في السيارة على أغنية للفنانة الجزائريْة سعاد ماسي تُدعى ” زهري” كان يعتقد أنّها مغربية – كان من عشّاق الفني المغربي ولا أحد يدري كيف تسللت هذه الأغنية لمسجله ولا حتى هو- فهو لا يفرق كثيراً بين أيةِ لهجة بعيدة عن أزقة الحيْ الذي يقطنه، المهم… في تلك اللحظة بالذات في التسامي مع النفسْ، هُزّت حوائط سيارته، وإذا عرفت أنّه كان قد ترك المقود ليشعل سيجارته، فعليك أن تعرف أيضاً أنّ السيجارة لم تحترق بالقداحة بالطريقة التي يريدها، بعيداً عن اهتزاز السيارة وانحرافها عن طريقها مسافة سيجارته إلى اليمين، لتأتي السبورتاج الكورية البيضاء من اليسار بسرعة 135 كيلومتر في الساعة لتعيد الهزة الأرضية، طائر خطاف آخر يلاحق الأول، الآن فقط…حان له أن يسب آلهتهم وأكساس أمهاتهم متابعاً بعينيه السيارتين تتلاحقان، ضغط على البنزين محاولاً أن يلحق بهما.
كان كل ذلك مجتمعاً مع حرارة النهار قد جعله مستاءً جداً، أراد أن ينقل شتائمه إلى أذنِ أحدهما على الأقل، تابع الأجساد الثلاثة في السبورتاج، جثة الرجل الضخم تبدو غير مرتاحة في الكرسي الخلفي، زاد على ذلك تحركه بطريقة غريبة داخله، تحرك مسرعاً نحو النافذة اليسرى خلف السائق، أخرج نصف جسده من النافذة، حمل شيئاً وضعه بين فخذيْه، كانت السياراتان تتناوران، إقترب صاحب المرسيدس من إحدى مخارج الطريق المطلة على وسط المدينة، ناور السبورتاج ودخل، ولكن الأخير لحقه في آخر اللحظات بمناورة كاد يؤدي بها بحياة أحدِ السائقين في الطريق، تابع الرجل الغاضب بالهامبورغا المشهد، جذبه منظر الرجل الضخم في الخلف وقد أخرج ” الشيء”، كان بندقية AK-47 المسماة كلاشن، صوّب بإتجاه المرسيدس. واختفى الإثنان في الفتحة…هدأ صاحبنا الغاضب داخل الهامبورغا، تذكر سيجارته….جذب نفساً، وعاد إلى القيادة ناسياً أمرهما.
والآن أعلم أنّك تريد معرفة ماذا حدث في السيارتيْن، لكن دعنا من ذلك قليلاً….لأنّه وكما قالت فابيين: من ليبيا يأتي الجديد.
(3)
– هاهاهاهاهاهاها الزّب، من ليبيا يأتي الجديد يا سيدي الكاتب، من ليبيا يأتي الجديد، ومن ليبيا أيضاً كيْ لا ننسى أتى مسعود الكلبْ هاهاهاهاها، دعني أحكِي القصة كاملة، هاتِ قلمك يا صديقي، استرح قليلاً، سأعلمك الآن درساً في كيفية سرد قصةٍ كهذه، صدقني، ستصبح أروع، أعظم….ما سأحكيه الآن، ستخلده الأجيال، ستخلده باسمك….باسمك أنت يا صديقي العزيز هاهاهاهاها.
إذاً، فهذه هي زُبدَة الحديث:
مسعود الجديد، الملقب الطلياني، له من السنوات 33 سنة، تافه ولا محل له من الإعراب، ملابسه وسيارته والحياة التي يعيشها هي أغلى ما يملك وأكثر ما يمكنه أن يفخر به، ” أبوه” كما يطلق عليه وهو جده مسعود الجديد الكبير أحد الذين عرفوا السر داخل هذه البلد فكان زلماً لمقبورين عدة هاهاهاهاها، تزوج مسعود الأول إيطالية صقليّة بالضبط في 1950 حيث كان الإيطاليون لازالون يحيون صحبة المجتمع الليبي، والد مسعود الأول لم يكن متطليناً بالثقافة بل إنّ ثقافته ليبيةً قح ولكنه صادق أحد الضباط الصقليين لفترة طويلة خصوصاً كونه أحدِ أهم شيوخ قبائل مدينته التي جاء منها، لجد مسعود قصة طويلة….فمنذ العشرين من عمره كان إنتهازياً، إستغلالياً يقتنص الفرص، يفعل أي شيء للوصول لهدفه كما أنّه ورث طباعاً بدويةً خشنةً رغم معرفته بالثقافة الإيطالية واختلاطه بالإيطاليين منذ طفولته، رغم محاولات أبيه دمجه في الثقافة الإيطالية بعد أن إعتقد أنّ إيطاليا هي الحاكم الجديد للمئة عام الليبية المقبلة قبل سقوطها، وأقصد بأنّ لجده طباعاً بدوية خشنة…. فإنني أقصد خشنة جداً لن تستطيع كسرها مهما فعلت.
مسعود الأول كان رجلاً غرائزياً، من ما يعني أنّه يتبع عبارة ” الدنيا مع الواقف”، تزوّج إنجلينا الإيطالية تلك الفتاة التي تشبه العربيات في سمرتهنّ القاتلة وجمالهنّ الخلّاب بعينيها البنيتين وشعرها الأسود، إلا أنّها بها مسحة إيطالية واضحةً في شفتيْها، في حاجبيها المرسوميْن بفرشاةِ لدافينشي، لا ترتدي إلا الفساتين القصيرة، لم يتسنى لها العمر لتضع أحمراً للشفاه على شفتيْها الباذختيْن لتكون أكثر جاذبية، جسدها كان في مرحلة النضوج، فتاة في الخامسة عشر من عمرها أتت عبر باخرة إلى السبوندا الرابعة لإيطاليا صحبة عائلتها، لم تطأ قدامها طرابلس إلا قليلاً حتى وجدت نفسها في بيت جديد داخل قطعة من الأرض مساحتها عشرة هكتارات مليئة بالزيتون، العِنب والكرم والتوت مع والدها الضابط الذي كان في ليبيا أيام ” فتح البلاد” وصادق مجموعة من الزعماء كان أحدهم الشيخ سعد الجدِيد – الذي لم يكن الجديد سوى لقب له لقبوه به أهل بلدته لكونه الزعيم الجديد للقبيلة بعد سميْه- كان قد اشترى منه أكبر مزارعه بكامل خدمها وما فيها – المزرعة ذاتها التي زرعها ضابط إيطالي آخر استولى سعد على مقداراتها بعد مقتل الضابط – على أن يزوّج ابنه الكبير لابنته، وقد صادف أن لا يكون مسعود الأول هو الابن الكبير بل الثاني، كان مسعود قد رأى زوجة أخيه أول أمره حيث كان مرافقاً للعائلة من طرابلس إلى القرية – حيث كان مستبعداً أن يكون العريس الذي لا يجب أن يرى زوجته إلا في الليلة الأولى- فوقع في غرامها، وقع في غرام شفتيْها القاتلتين الورديتين، في عنقها النافر من فستانها، في ذقنها المستدق، في حاجبيها الغليظين الفاتينيْن، في نواجذها المزهرة، في شعرها الذي لا يكاد يبتعد عن جيدها، في المسافة التي يغطيها الكُحل فوق عينيها، كل ذلك أشعله ليقوم بمغامرة، قام بإزاحة أخيه بحركة بسيطة: ترصده في إحدى الليالي وهو سكران وغرس سكيناً في قلبه. بهذه البساطة انسكب الدم على ملابس أخيه وتلوثت فرملته الزرقاء وقميصه الأبيْض، وجد ملقياً في الطريق الموحشة بالقرية تحت إحدى أشجار النخيل واضعاً يده الملوثة على صدره ينظر بوجهه المخمور نحو الفراغ، ولحسن الحظ كان لسعد الجديد أعداء في القرية يترصدون به دماً قديماً، ولحسن الحظ أنّ مسعود الأول كان أول من نادى بقتال هؤلاء الأعداء قتلة أخيه، رفع بندقية أخيه عالياً وصرخ في الأعراب: أقرب للجنة، اللي قتلونا، جلاهم عندنا.
لم يمضِ إلا شهور بعد ” الفزعة” وموت أخيه حتى اختاره أبوه ليكون زوجاً لأنجلينا، هو في الثلاثين من عمره وهي في الخامسة عشر، دخل عليها، كانت يداه التي تعودتا الخشونة تلمسان ولأول مرة جسداً طرياً، لم يصدق ما شاهده، حلمتان تُرابيتا اللون في نتوء بسيط عن الجسدِ، منزوعة الشعر في كل أماكن اللحم الطريْ، نزع عنها فستانها، كانت نائمة على السرير بدون حراك تنتظر منه أن يدخل فيها كما أخبروها، نزع ملابسه وألقى بنفسه في غياهب جنتها، قالوا له: انظر الدم هل يخرج أم لا، نظره….خرج، لطخ الشرشاف، نجح! كان اسمها أنجلينا، سماها من تلك الليلة: شريفة، كان يعتقد أنّ الإيطاليات غالبيتهن غير شريفات، عاشت انجلينا الشريفة زوجةً له لا تلتقِ مع زوجها كثيراً، لا تحادثه كثيراً فهو لم يكن يحبذ الحديث بالإيطالية، فقد حاول أن يعلمها العربية دون فائدة، وجدت أنّ اللغة صعبة لم تستطع إلتقامها، حاولت لكن دون جدوى، اكتفت بمجموعة من الكلمات العربية التي تفي بالغرض مع زوجها، أنجبت منه ابنها سعد الذي قامت هي بتسميته: فرانشسكو، كان بمثابة كل شيء في حياتها، أملها في الأُنس والطمأنينة في أرض ترى نفسها غريبةً عليها، لم يمضِ الوقت على أبيها والشيخ سعد حتى وافتهما المنيّة بعد سنة من زواجها بمسعود الأول، ورث مسعود والدها كما ورث جزءاً كبيراً من مال والده، كان أعقاب بداية المملكة الليبية أحد أبناء القبيلة الذين سجلوا في الجيش الليبي، كان يسعى لسلطة، وجد أنّ الجيش هو أفضل طريقة لتكون مسئولاً، بعد ليلة زواجهما لم يكن يجالس زوجته إلا قليلاً، الفارس يجب أن يكون فارساً للأبد ولو بتعليق النياشين، كان يرى نفسه فارس القبيلة، بعد عام من زواجهما رزق بسعد.
سعد مسعود الجديد، فرانشسكو كما تحب أن تناديه أمه التي تربى على عاداتها وتقاليدها وثقافتها بعيداً عن أب لم يطل به الزمان كثيراً حتى صار ضابطاً عُيّن مسئولاً وهو في العاشرة من عمره، في 1961 بالضبط، رحلة الإرتقاء إلى السلطة التي عاشها والده جعلته قريباً منه وبعيداً عنه، لم يكن الرجل ليعير الإهتمام لإبنه، فهو كان يناديه: ولد الطليانية، لم يحب مسعود الأول زوجته الإيطالية؛ كل ما أراده منها تحصل عليه…أراد وببساطة أن يمتلك إيطالية ذات جمالٍ خلاب وأن يعاشرها متى شاء، لم يكن يريد منها الشيء الكثير لأنّه سرعان ما تزوج فتاة ليبية من فتيات القبيلة، كان يتطلع لابن منها لم يأته بعد. في 1969 تمكن مجموعة من الضباط من الإنقلاب على السلطة في البلاد، استيقظ مسعود الأول على الخبر فزعاً، وقبل أن يصنع أي شيء، أرسل رسالة يعلن تأييده للثورة العظيمة، وعندما علت صيحات طرد الإيطالين، كان أول شيءٍ فعله: أن يتخلص من الإيطالية، كانت أنجلينا عندها في السادسة والثلاثين من عمرها صحبتها ابن شاب في العشرينات من عمره، كانت تريد أن تأخذ فتاها الإيطالي معها لكنّ مسعود حبس ابنه بعد أن أحس أن زوجته الليبية لن تنجب له أولاد، رحّل زوجته صحبة ورقة الطلاق بعد أن استولى على مالها قبل ذلك بحجةِ أنّ الثوريين يريدون أن يأخذوا أملاك الطليان كلها ألقاها على قلبها المرتجف على مستقبل ابنها، ضرب عصافير عدة بحجر واحد.
أعلم أنّك تريد معرفة ما حدث للسيارتين…ولكن دعنا من ذلك.
جدّه ابن قحبة كبير يا سيدي الكاتب، سأقول لك لماذا، لأنّ الرجل لم يتوقف عن ذلك، بل منع ابنه من السفر، كان لحسن حظه مسئولاً كبيراً في مصلحة الجوازات، كان يخاف أن يهرب الفتى أن يسافر حاضناً أمه انجلينا شريفة التي طردها هو، نمى حقد ما داخل الشاب على أبيه لكنه لم يستطع أن يعارضه، كان عاراً على الفتى أن يرفع صوته على أبيه، تحمله ورغم زواجه إلا أنّه أفنى جسده وعقله في حفلات الخمر والعاهرات، كان لا يعود لبيته إلا آخر الليلِ مخموراً يغط في نومٍ عميق حتى منتصف النهار، يراقب مسعود أفعال ابنه ويتحدث داخله: المهم أن لا يهرب إليها، الطليانية العاهرة خربت عقله. كان يناديها شريفة، بعد ذلك الطليانية ولكن بعد مشاهدته ابنه يضيع أمامه دون أن يقوم بأي شيء ضده لم يكن يناديها إلا بالبوطانة التي أفسدت أخلاقه. كان كارهاً للكحول، والده الشيخ سعد كان سكيراً شهيراً في القرية…كان أحياناَ يضربه هو وإخوته البقية تحت تأثير البوخة فكرهها.
في 1980 تماماً وُلِد مسعود آخر…. مسعود أكثر حدّة، وبعد ذلك بعشرِ سنوات بالضبط انتهت حياة شريفة أنجلينا الصقليّة حزناً على ابنها التي رغم كل محاولاتها، فقدت الأمل في ملاقاته وذبلت، بعد عامٍ بالضبط….وُجِد سعد مسعود سعد الجديد معلقاً في سقفِ غرفته يحملِ في يده قنينة ويسكي ببدلته التي اشترتها له أمه قبل أن ترحل عن هذه البلاد، معلقاً ربطة عنقه بحبل بالثريّا دافعاً كرسياً خلفه، لابد أنّ الرجل شاهد ذلك في أحدِ أفلام السينما، كما شاهد الكتابة التي كتبها بقطعة من الفحم على الحائط بإيطالية:
tutto la nazione è il mio cazzo
كان مسعود ابنه في العاشرة آنذاك قد تربى منذ طفولته على تعاليم جده، لم يكن لأم مسعود الثاني أي تأثير، بل إن جده تمادى بعد موت ابنه متهماً إياها بقتله، صرفها وأرسل لها ثروةً تعولها؛ خاف أن يلوث الجميع حفيده الوحيد فكفله، رباه، علمه وكل ذلك على طريقته، زرع فكرة الأب الجبان الذي تخلى عن ابنه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في عقل الفتى الذي أحب ” أباه” مسعود الجديد الضابط في جهاز الأمن الداخلي، يعمل على أن يتصرف كل إنسان بهذه الأرض كما يتوقع منه، أو لأقل لا يتصرف كما يتوقع منه بل كما تريد القيادة العامة منه أن يتصرف، كان من السهل عليه أن يتحكم بأفراد عائلته، لديه عيون لتتبع حركاتهم، كلماتهم وأفعالهم وأنفاسهم، كان يبحث دائماً عن الوريث الشرعي له، لم يجد في ابنه وريثاً، ولم تنجب له زوجته الليبية وريثاً، طلقها بعد عاميْن تزوج أخرى لم تنجب منه فطلقها هي أيضاً، كان وريثه الوحيد: مسعود سعد مسعود سعد الجديد، الذي عمل على تلقينه كل شيء: انتهازيته، استغلاليته للفرص التي تأتيه؛ لكن دون جدوى.
الجد لم يكن مطمئناً، إنّ رؤيا ما تقول ” على ابنك أن يكبر معك” تلاحقه، فهو في الثمانين من عمره ومسعود في العاشرة، بينهما زمن كان يخاف منه أن يجعل الفتى صاحب طباع تمردية لن يستطيع أن يتحكم بها كما فعل مع ابنه، كان ذلك المؤرق الوحيد له، لذا اتخذ احتياطه في تشديد المراقبة أضعافاً عليه.
ولكن رغم ذلك ورغم كون مسعود الطلياني إنسان يمكنه أن يملك ربع حي التوت إذا أراد ذلك إلا أنه كان به داء، داء جعله يشتهي الحياة بكل الفساد الذي فيها، سمّي المتع كلها….كان سكيراً فاسداً، فاسقاً، يتبع نزواته كالخراف تتبع مزمار الراعي، كان العلامة المميزة للبدوي الذي يملك قطيعاً مئوياً من الجمال ولازال لا يعرف كيف يعيش من دونها، ستسألني: كيف أصبح هكذا وهو ابن جده الذي كره تصرفات أبيه المشابهة؟ سأقولها ببساطة: الحياة قحبة هاهاهاهاهاهاها.
(4)
مشهد آخر عليك أن لا تنساه:
حيْ التوت، طرابلس- ليبيا.
الساعة الواحدة ونصف ليلاً. الحيْ هادئ تماماً، الظلام يلف المنازل، ليلة بلا قمر، كان هناك ضوء صغير تحت شجرة التوت؛ ” الخير للخدمات العامة” لوحة تحت الشجرة العظيمة يتسلط عليها الضوء، كلب مربوط تحت الشجرة تبدو عليه علامات الحُزن مستلقياً على قدم بثقله لاعقاً الأخرى تحته، كانت ملامح الكلب لا يوجد بها شيء مميز…إنّه كغيره من الكلاب التي تراها كل يوم في الشوارع، وعلى بعد خطوات منه كان هنالك رجل يبول على جذع الشجرة باخاً الزهور المزروعة تحتها ببوله، كان الليل نزِقاً، اخترقت حاجز الصمت حركة أحس الكلب بها، نهض متثاقلاً رافعاً قدمه التي كان يلعقها مسافة قدم إلى الأعلى مثنيةً يركز ناظريْه نحو مصدر الصوت، أحس الرجل بحركة الكلب فأوقف عمليته ونظر حيث ينظر الكلب، خرج من الظلام إلى ضوء الشجرة البسيط رجل كأنه ملك الموت.
نصف ساعة بعد ذلك:
حسناً، غداً صباحاً هي رحلتك، خذ معك الكلب واصنع ما علمتك إياه….كما قلتُ لك، سويسرا ! غيرها من البلدان يمكنه أن ينتظر.
نظر الرجل إلى الشبح الذي خرج من الظلام مبتسماً، ثم أضاف قائلاً:
لا تخشى شيئاً، أنت في حمايتي… سيأتي الشباب ليقلوك الآن.
مدّ الشبح يده له مرتعشاً، غير قادر حتى الآن على التنفس، قال له باقتضاب:
شكراً.
لا شكر على واجب يا عزيزي، سعدتُ بالتعامل مع حضرتك!
(5)
عاش مسعود يا سيدي الكاتب قبل تحولاته إلى الكلب مرحلة كانت قاتلة لروحه الأولى، فقد واجهت روحه الحصار الأسود لثلاثين يوماً، كان لسوء حظه ابن مدينة واجهت كتائب القذافي بحرارة الموت، حاصرتها الكتائب من كل جانب، حرب شنيعة حدثت هنالك، قصص مخيفة ومرعبة لن تصدق ما جاء فيها من أخبار، أنا متأكد أن ما جاء في مذكرات حميد الكتائبي التي سلمتها لك هي حقيقة وليست من خيال أحدهم أحس بمتعةِ قص قصص لا محل لها من الإعراب؛ أعرف مجانين خرجوا من تلك الحرب، أغنياء جدد، أجساد مقطوعة الأطرف، أنواع من الخوف تولدت في ذلك العام، الخوف من نوافذ المباني العالية، الخوف من السيارات المعتمة، الخوف من الـToyota تندرا، بعضهم أصبح يخاف من أنابيب الغاز، والآخر من البدل العسكرية، من السود، البيض، أصحاب الشوارب، أصحاب اللحى، بل إن أنواع غريبة من الخوف تولدت لو بحثت عنها في العالم أجمع لن تجدها، الليبيون سيلهمون العالم كما قيل هاهاهاهاها.
إلا أنّ حياة مسعود في تلك الأيام لم تكن بالوحشية التي قد تتصورها، بل إنها كانت عبارة عن جنة يتمناها العديدون من الطرفيْن، كان قصر جده في آخر الأحياء التي يمكن للحرب أن تنشأ فيها بالمدينة، كان القصر ملاذا لمن أراد الأمان، أقول أمان لأنه حتى وفي ظل طلقات رصاص مضاد الطيارات التي يمكنك أن تراها مزروعة بين تارة وأخرى في حوائط القصر فكان المكان بعيداً عن الحرب الحقيقية، الحرب الموحشة والقاتلة، ما كان قاتلاً في المكان هو الكدر والوحشة والتكرار الذين عاشهم مسعود طيلة أيام الحرب.
يستيقظ ظهيرةً، يخرج من داره ليجد جده مستلقياً أمام التلفاز مصوباً نظره نحو شاشة نقاله كأنه ينتظر أمراً ما؛ يتبادلا النظرات…يبتسم مسعود رغماً عنه، يخرج إلى المزرعة، كانوا يستيضفون بعض سكان المدينة من أبناء قبيلته، يجلس معهم لساعة، كان كل ما يتحدثون عنه هو حصيلة ضحايا اليوم، أخبار عن جندي أعتقل، جريح من الأبطال، أسلحة غُنِمت، يتململ مسعود من الأحاديث المتكررة ثم يعود للقصر، يحادث جده على الرحيل من المدينة كل يوم لمدة عشرين يوماً يروي له ما سمعه: إن الوضع متأزم، يا أبي، الطرفان أصبحا يملكان أسلحة ثقيلة، دبابات وقاذفات وأشياء مرعبة، يجب أن نرحل يا أبي! ولا يجد إجابة من الرجل الذي يحدق في شاشة الهاتف النقال، يعود مغاضباً لداره، كانت القصص تتكرر في دماغه وتُسجل في تلك الظهيرة، يلقي بجسده على الفراش ويضيع في مشاهدة الفراغ منتظراً من يومٍ آخر أن ينتهي؛ تذكر قصصاً حكاها له جده عن أبيه، رجل نزق وفاسق لا تصبح مثله؛ إن جدتك الإيطالية لم تكن إمرأة صالحة، لا تذهب هناك، لا تذهب إلى تلك المنطقة أو تلك الناحية، لا تصادق أولئك الناس، لا تصدق ما يقوله البشر، إنهم ينتظرون منك أن تسقط يا ابني، دعك منهم ومن قصصهم إنهم حفنة من الجبناء الكاذبين أعرف ماذا يفعلونه؛ كلهم تحت مراقبتي….المنافقون، تتكرر كلمات ووصايا جده في عقله وهو واضع رأسه على الوسادة ينظر إلى السقف، انتابه نزق، كانت عيناه تدعوانه للنوم إلا أنه قاوم ذلك، لا يريد أن يستيقظ مبكراً، شعر للحظة بأنّه سينبتُ فطراً أو طحالب في سريره إذا بقيَ على هذه الحالة كل يوم، قرر أن يخرج بسيارته حتى منتصف المدينة، هكذا: ليغير المزاج السيء الذي أصابه، تسلل مغاضباً وكدِراً إلى الخارج بعيداً عن جده.
في الطريق، كانت الشوارع مضمحلةً في الخفوت، بالقرب من قصرهم كان يمكنه أن يرى بعض الحوانيت مفتوحة وكلما ابتعد عن منطقتهم خفّت الحياة، كاد يقترب من المنطقة الحمراء التي لا يجدر به أن يقترب منها حتى، كان يراقب الدمار والخفوت الذي حلّ بالمدينة، منازل في المنطقة الخضراء وصلت إليها آثار القصف العشوائي، شوارع لا تتحرك وسطها حتى القطط والكلاب، أحسّ بالأدرينالين يمر في جسده، شعر بلذة الحرب؛ قصصاً بدأ ينسجها عقله، نزل من السيارة وتحرك وسط الشارع يبحث بأعينه في المكان، عشرات البنايات والمنازل يمكنه أن يدخل لها قد تركها أهلوها رغم أنها ليست في المنطقة الحمراء خوفاً من أن يأتي السيْل ليلاحقها، دخل مسعود شارعاً فرعياً، كان الشارع عديم الرائحة، الحوانيت مليئة بالأوساخ والغبار أمامها، أكياس قمامة ممزقة، الشمس خافتة، الأرض تلفظ وحدتها، سيارات ملأها الغبار طبقةً لا يمكنك أن تتعرف عليها، وقف أمام أحد المنازل، أراد أن يدخله؛ أخذ قطعة من الحديد وضرب بها الباب الحديدي، أحس بالأدرينالين مرة أخرى… كانت يداه ترتعشان، ابتسم، تذكر أمراً ما فانتصب قضيبه. هكذا بدون سبب.
ولج المكان، لم يكن البيت بجديد عليه، كان به شيء يعرفه، أحس بأنّه يعرفه؛ دخل إلى الحوش، لا توجد أضواء في المكان، كان المكان مليء برائحة الياسمين بفضل الشجرة المزروعة وسط الجنان، بحث عن الضوء داخل الحوش، كان في إحدى الغرف عندما لاحظ سقوط ضوء الشمس على صورة كأنّه يعرف صاحبتها كانت مثبتة على حائط فوق سرير قديم جداً، جال بنظره نحو الغرفة ، كانت أنتيكية….تلك التي لن ترى أثاثها في أي بيت ليبي الآن، قطعة من الخمسينات وجدت في القرن الواحد والعشرين، لم يجذبه شيء بل عاد يجيل النظر في صاحبة الصورة، كان عقله يقول له: لابد أنني أعرف صاحبة الصورة، إنّ شيئاً ما يقول لي أنني أعرفها؛ إنها تبدو كعرّافة غابة قاتلة الجمال.
ترك الغرفة، راح يجول في بقية غرف المنزل، متلمساً المكان وسط الظلام بيديه على الحائط حتى لا يرتطم بشيء لا يعرف كنهه، يقترب من النافذة، يشرعها، ويتحول إلى مشاهدة محتويات الغرفة…. كان البيت مليء بالغرف، إمتلأت روحه بحمى الإكتشاف، غرفة، تلو الغرفة، تلو الغرفة حتى دخل إلى غرفة واسعة، ركض نحو النافذة، فتحها، نظر خلفه، كانت هناك جثة معلقة في السقف، صرخ…. ألقته الفزعة على الأرض، حدق بخوفه، بفزع، بجزع فيها، التمست يداه الأرض، كانتا الآن في حالة هستيرية، قلبه كان يريد أن يخترق جسده، حدقتاه اتسعتا، كان يصرخ، يصرخ، يصرخ…حاول أن يلملم نفسه، أسرع خارجاً من الحوش إلى جنان البيت إلى الشارع إلى سيارته، سمع صوت قرقعة قوي، إنفجار، سقطت قذيفة!
استيقظ هلعاً، اللعنة….إنّه مجرد حلم؟ لم يكن حلما، هاهو ملقاً على الأرض، جسده مليء بالدم، هاهو يشعر بالألم، هاهو لا يكاد يسمع شيئاً، هاهو الضوء يحاول أن يغادر عينيه، سيموت؟ بالطبع ستموت يا مسعود، حدثته نفسه، كان يريد أن يحيى، يرغب في الحياة…. ولكن أين هو؟ أين سيارته؟ شعر بأيدي تلتقم جسده المحطم، شعر بالغبار يملأه، كان خيط من الدم يخرج من يده ووجهه يحس بحرارته، ماذا حدث بالضبط؟
ما حدث بالضبط أنّ مسعود كان نائماً في غرفته مصاباً بالجُثام فيما يخص كابوس قبض على صدره حتى أيقظته قذيفة نزلت بالقرب من غرفته فانفجر جزء من الجدار الذي كان سريره عليه، سقطت الحجارة على جسده الذي يخوض في حالة حلم رهيبة، لم يصب تلك الإصابة الحرجة إلا أنّه أحس بآثارها لاحقاً، كان مسجىً وسط المنزل حوله المريدون ” ليطمئنوا على صحته”، وكان هناك الرجل العجوز ذاته جالساً ينظر إلى شاشة النقال خاصته.
الحمدلله على السلامة يا مسعود، هذا حد السوء. سمع العبارات…ملّ منها.
تذكر الحُلم، الجثة المعلقة على الحائط، كانت جثة والده سعد الجديد، إنه متأكد من ذلك، البيت هو البيت القديم في المزرعة الذي كان محرماً عليه أن يزوره: تسكنه الأرواح، روح أبيك الشريرة يا مسعود لا تذهب هناك!
أسرع رغم الألم يغير ملابسه، تسلل في الظلام نحو البيت القديم….دخل الغرفة المنشودة، أشعل الأضواء، أحس برائحة الياسمين والموت تختلطان لم يعرف هل هو مغموم أم في راحة، كان هناك حبل يتدلدل في السقف بدون الجثة، ارتعد، بكى في ذلك النهار، بكى بحرقة، هاهو مكان الجريمة، هاهو المكان الذي قام فيه الرجل الذي خاف من معرفة حقيقته في يوم ما بفعلته، كان يسمع القصص عنه وعن بشاعته وأنانيته ولا يصدقها، إنهم جميعاً كاذبون، إنهم يحسدونه لأنه ملك المدينة، لأنه لم يكن جباناً مثلهم، كان يقول؛ لم يقتل أخاه، لم يطلق زوجته لمجرد العبث، لم يمنع ابنه من ملاقاة أمه حتى عند وفاتها، لم يدفعه للإنتحار، لم….لم يكذب عليه! بات تلك الليلة والليالي التي تليها في تلك الغرفة ينظر إلى الحبل في السقف يبكي بحرقة.
لقد حوّل العجوز مكان نومه خوفاً من أن تسقط عليه قذيفة وهو نائم، انتبه لذلك عندما رآه ينام في منتصف المنزل ولا يتحرك منه، كان احتقاره له يزيد في كل يوم حتى اليوم الثلاثين، عندما كاد الكلل يقتل روح العجوز الذي اضطر أن يخرج في جولة تفقدية على أحوال المزرعة عندما سمع أنّ بعض العمال يتهرب من العمل، خرج ليرى بنفسه، لم يطل المقام حتى عاد لاهثاً مسرعاً: رصاصة حفّت من فوقه فأسقطت طاقيته البيضاء. لاعبه ملك الموت! في اليوم التالي، خرجت العائلة بأجمعها من المدينة.
(6)
والآن شوف يا سيدي الكاتب، بعدما رسمت البعد التاريخي للشخصية وعرّفت بيها تعريفاً جيداً ومناسب، يمكن لك بسهولة أن تبدأ التحدث عن النيك اللي صاير في حياته هاهاهاهاها.
مسعود الكلب حس بإنه جده حيخلّد في الدنيا لما وصل الشيباني 90 عام وبصحة أفضل من نص البشرية، حتى بعد الثورة وبعد أن أضطر جده أن يبقى بعيداً عن ممارسة مسئولياته الحكومية كان لايزال يمارس مهنته المفضلة: التسلّط على أبناء القبيلة كلهم، وذوي القرابة بالخصوص، حاول مسعود أن يتحصل على جواز سفر بكافة الطرق، بالرشاوي، بالواسطة، كان فضل جده يعمّ جميعَ من في المصلحة ولم يتمكن أبداً من الحصول عليه، كان الرجل العجوز يسبقه خطوتين للأمام كأنه يقرأ أفكاره؛ كان مسعود يحقد عليه في كل يوم، في كل يوم يدرك أنه محاصر، وانطلقت رغبته في التمرد؛ كان قلبه يحترق وعيناه تتمزق، بحث عن أسوءِ شيءٍ يخاف منه جده: تذكر والده، تذكر جدته انجلينا الإيطالية، لفظ مسعود لغته كما لفظ ملابسه، وتحول من مسعود الليبي إلى مسعود الإيطالي، أصبح استمراراً لمئة عامٍ من المهزلة.
” كنتُ أمارس طقوسي الخاصة عند بداية كل يوم، أنا إنسان أغرق في الصباح، أنام أربع ساعات في الليل فقط، وثلاث ساعات في العشية، أستيقظ السادسة، قبل وجبة الإفطار المتكونة من البيض والشايْ، أنغرس كشجرة نخيل تحت الدوش، أفكر في المشاريع التي لديْ في ذلك اليوم، أناس يحتاجون لبعض الوهم فيما يخص السوق السوداء وكيفية تحقيق ربح سريع، تنزل قطرات الماء على جسدي حارقة، ينتشر البخار في الحمام، فلان يحتاج لي أن أجد له طريقة تمكنه من أن يصبح فناناً شهيراً، أنسى نفسي إلى يدخل الصابون في عينيْ، أدمع، ألعنُ الحياة، عليْ أن أتواصل مع إحدى المراهقات التي تريد حباً جميلاً رومانسياً، ألاعب قضيبي عندما أتذكر الصور التي أرسلتها لي وهي عارية، أتذكر أحدهم….تنطفئ شهوتي، السافل يجب أن أتخلص منه، أغلق الصنبور…. أخرج من الدش، ضباب، أبتسم؛ سأصنعُ ضباباً آخراً.
أعد إفطاراً جيداً، لا آكل إلا البيض، بالبيض يا سيدي الكاتب تصبح الحياة أسهل وأكثر وضوحاً، أقلي بيضتيْن، أضع قطعة من الزُبد على المقلاة، أشاهدها تنزلق على المعدن حتى تصبح سائلاً، أشاهد ثورانه، أنشر الثورة في المقلاة كلها بتحريكها حتى يتسنى للزبد أن تتحرك ناحية الجوانب كلها، إذاً….الثورة وصلت كل النواحي، أبتسم؛ أمسك البيضة الأولى، أضربها ثم أفقسها، أمسك الأخرى، أضربها؛ وأفقسها، إذاً…. دع ثورة الزُبد تتلاصق بالبيْض، عملية صناعة البيْض كالثورات بالضبط…عليك أن تعرف كيف تحبها أن تكون، البعض يحبها شكشوكة، البعض نصف مستوية، البعض ربع مستوية، لا تأتي بثورات نصف مستوية لشعوب يجب أن تقدم لهم ثورات ربع مستوية، سترهقهم!
بعد أن أنتهي من الإفطار، أشعلُ ” جونتة العمل”، أراجع قائمة الأعمال لهذا اليوم في دماغي مرةً أخرى، أرتبها، أمرُ عند السابعة تماماً على الهامبورغا، نصتبح على الرزق وندعو الله الفضل، أرش الماء أمام عزيزتي الصغيرة، أنظر إلى التوتة العظيمة مصلياً على روح جدي بركة، أسقي النباتات في الحديقة، أغسل الهامبورغا، التوتة بطيورها النزقة وأوراقها ودودها وكائناتها والبشر الذين يحجون لها تجعل من عزيزتي الهامبورغا متسخة كل يوم، أنا إنسان حساس للقذارة والغبار؛ ينتابني الجنون عندما أجد بقعة براز لعصفور سافل على سطح السيارة، ألعن التوتة عندما تسقط شيئاً من بين جذوعها وأسمعه يرتطم بسيارتي، أنا عبد للنظافة كما ترى يا سيدي الكاتب.
عند الثامنة تماماً أكون قد أنهيت العمل الروتيني، جلستُ في كرسي الحديقة خاصتي وأحتسي الشايْ الذي أكون قد حضرته مسبقاً، أنتظر المريدين.
ويأتي المريدون كالعادة، يأتي القديم طلباً لما هو معتاد، أحدهم يريد أن يفشي سراً لا يستطيع كتمانه، دود يأكل فمه يجعله يحتاج أن يفشيه، لكنه لا يريد منه أن ينتشر حتى لا يقال عنه سافل وخائن للأمانة فيستودعه عندي،بعضهم يريد أن أتوسط له عند أحد المعارف، البعض يريدون إرشادات لكيفية تمضية يومهم، بعضهم يحتاج لأحدهم أن يخبره بأنه هو الأفضل، الأذكى، المتميز، الفالح، الرومنسي، المتدين الوحيد، الذي لا تفوته فائتة، الشاعر، الكاتب الأبرع – طبعاً أنت لست من ضمنهم يا صديقي، أنت لست منهم-، المثقف، السياسي المحنك، الرياضي النجم، المتأدب، المحترم، التاجر الفالح، الأم المثالية، الزوجة المطيعة والبعض يريد أن يعرف كيف يمكنه التصرف في بقية عمره، الكل يريد أوراق توت تغطيه، لكنه أيضاً لا يريد أن يخسر شيئاً من ما عنده، الجديد منهم يأتي، وكان الجديد من هؤلاء في ذلك الصباح الخريفي، أغلب مريدي الصباح هم من الحمقى.
المال وفير، هذا ما اشتممته من ثيابه، وجهه، شعره، نظاراته الشمسية وحذاءه، وبالطبع سيارته؛ وحتى طريقة كلامه، جاءني وقال:
لديْ مال، لا أعرف أين أضعه! ممتعضاً من قلة حيلته…
ابتسمت، كدت أطير من الفرح أقولها؛ ذلك أنّه في تلك الفترة كنتُ في بداياتي وأن يأتيني لأول مرة زبون كالجديد يريد من أحدهم أن يتصرف في ماله لهو حظ عظيم، انتظرتُ هذه اللحظة لألاف السنين ربما، قلتُ له مخرجاً سيجارتي الخاصة التي أحفظها في صندوق التوت خاصتي، قلتُ له : دخن! أشعلتُ له السيجارة، وقلتُ له بعد أن تأكدتُ أنّه سحب الأنفاس الثلاث جاذبة الشهية، انتابه السُعال، احمرّت عيناه، وقبض على صدره بيده، كاد يسقط سيجارتي الثمينة، أخذتها منه و قلتُ:
أهلين وسهلين، أنت جيت للمكان المناسب، أنت يا صديقي اخترت صح! عرفني بنفسك.. وسحبتُ الدخان إلى صدري، كتمته ثم أخرجتُه كثيفاً.
مسعود الجديد، ينادونني الطلياني.
اوه… آريفاديتشي. وصنعتُ تحية فاشية له ولروح الأخ القائد موسيليني، ثم أضفت:
برونتو! عرفني بنفسك يا بيلّو!
ومضى يحكي ما قلته لك، جده الذي وصفه بالبصطاردي ابن البوطانة، جدته الإيطالية انجلينا شريفة الجديد، والده أسعد ضحية ” القبح البدوي” الذي مارسه جده، كان ببساطة من القلائل الذين يفضحون حياتهم الشخصية بأدق تفاصيلها – أنت تعرف أن لي القدرة على جعل الجميع مهما كانوا أن يفضوا إليْ ما أريد معرفته، لكن مسعود كان يفضي بكل شيءْ-، تحدث عن حقده لكل أبناء المدينة الذين حاصروا مدينته وأنّه يتمنى لو استطاع أن ينتقم منهم جميعاً، امتصت الحرب كل مقدرات الحياة الطبيعية من جسده وروحه، أنانيته، رغبته المتوحشة في التمرد على كل ما يدعيه جده، رغبته في الهجرة إلى إيطاليا ( ماما) كما كان يسميها، حدثني عن حكايات الطفولة التي رسمها الرجل العجوز في ذاكرته: الطليان….أبناء كلب، حقودين، غدروا بأجدادك وغدروا بي وبوالدك. الطليان، لا أمان لهم…إنهم فسقة وفجرة. الطليان… عليهم اللعنة عاملونا كالكلاب المسعورة. هكذا ما كان يخزنه الجد، حكايات عن الطائرات الإيطالية التي أنزلت قذائفها بقريته، جهاد أبطال القبيلة ضدهم؛ إنّ الرجل كاد يحدثني عن عدد حشرات الناموس اللائي قمن بلسعه، كم مرة تبول فيها في سرواله، عدد شعرات عانته، طول زبه، الأطعمة التي لا يحبها، واصل حديثه لثلاث ساعات، كدتُ أموت من كثرة الكلام ولولا أنني كنتُ أرفه عن نفسي بمراقبة حركاته وسكناته وتلهفي للكم الهائل من المال الذي سأجنيه منه لطردته، استنتجت من مراقبته عدة أمور:
مسعود الجديد، الطلياني، تافه، لا يملك زمام أمره، مريض نفسي، كثير الإلتفات، كثير الإنصات للطريقة التي تتحدث بها ربما يريد أن يكتشف منك من أين أنت، يحدق في وجهك عندما يتحدث إليك، كنت تراه يلتفت يمنة ويسرة وكأنه يبحث عن عيون جده التي تراقبه، حدث أمر جعلني أنجذب إلى معرفة الكثير عنه: كان هناك مجموعة أطفال يقومون يومياً بتفجير مجموعة من الألعاب النارية في وضح النهار، كان الأمر اعتيادياً بالنسبة لي، لكنّ مسعود عندما سمع صوت الألعاب النارية تتفجر انتابته لوهلة حالة نفسية، تلعثم في الكلام إلى أن توقف، لم يستطع أن يستجمع أفكاره، ركزت في ملامحه، كان هناك عرق بسيط بدأ بالخروج من جبهته، كان يحاول أن يلتقط الكلمات لكن دون فائدة، ظل على هذا الحال حتى انتهت الدفعة الأولى من الألعاب النارية، قلتُ له واضعاً يدي على يده – حركة أفعلها كثيراً هاهاهاهاها- ” لا تقلق، إنها مجرد ألعاب نارية….أبناء الحومة أشقياء، سأعود لك- خرجتُ أشعل سيجارة، حدقت في الأطفال من بعيد، ناديت على أحدهم، كان أحد أعيني من أبناء الحيْ؛ أعطيته مجموعة من الدنانير وقلتُ له بصوتٍ عالٍ بعد أن صفعته حتى يسمع مسعود حديثي – كنت أعلم أنه يراقبني- ” إياكم والمجيء هنا مجدداً يا سفلة”، عدتُ له، كان يحاول ترتيب ملابسه، فتح زر قميصه العلوي محاولاً أن يتنفس، قلتُ له: لا تقلق إعتنيت بالأمر، راحة زبائني هو ما يهمني!
قال لي مسعود بعد أن عاد إلى هدوئه:
هناك فتاة، أريد أن أتقرب لها، لا أعرف كيف، لا تبدو كبقية الفتيات اللائي استطعتُ بسهولة أن أدخلهن إلى أماكني الشخصية.
ماذا تريد من فتاة ليست كبقية الفتيات وأنت كما تقول ليست لديك مشكلة في جعل معظمهن يقعن في حبك؟
لا أعرف!
إيتاليانو، إيتاليانو… تتوبن عليا، نتوبن عليك، ببساطة يا بيلّو.
إنساها، نبي انيكها مع بوي!
البنت؟! قلت ببلاهة!
لا! نبي نتخلص من جدي…
الشيباني مزاله خطوتين للقبر وتكون حياتك كلها ليك، لكن عادي ما يحشمك شي.
اممممم….حسناً، أريد جواز سفر!
…………….
أريد أن أهاجر، لا لا…أريد أن أغيّر اسمي، لا يعجبني مسعود، أريد شيئاً مناسباً لكوني إيطالياً في الدم، فرانشسكو مثلا!
لم أتمكن من الحديث أبداً، كنت أحاول أن أستجمع أفكاري، لكن الرجل لم يتوقف على تغيير جميع القرارات، في كل مرة يريد شيء ما، ويرفضه بعد ما يلفظه، أريد هذا، لا لا لا أريد هذا بل ذاك، انسى الأمر، أريد هذا وذاك، وذاك؛ أريد، أريد، لا أريد، قلتُ له:
اللعنة! أرزن، ونظملي أفكارك، شن تبي يا حبيبي؟
” عرفت شن مشكلته البرذر يا سيدي الكاتب؟ مشكلته أن التافه لم يكن يعرف كيف يواري ما يحتاجه وأعتقد أنه قد أخبر جده مراراً بما يريد ولابد أن العجوز قد وضع علامات لكفه على وجهه، إنه يضع كل شيء على الطاولة، مليء جداً بالعقد النفسية، ربما لأنه ماكانش محتاج إنه يكذب باش يحصل حاجته، ماكانش ناقصه شيء، مش محتاج يخدم طول حياته، حياته كلها مرت بأمر من مسعود الأول، هذا هو…ربك يعطي للي ما يستحقش، الطلياني كان إنسان عقله في جيبه أو خلي نقولوا في جيب جده، وتوا بعد بداية تمرده عليه يبي حد ثاني يفكرله، ويا سلام…. طاح وين استراح هاهاهاهاها، رسملته سيناريو حياته، عطيته الإرشادات”
ولكن كما تعلم، إنه ليس من السهل أن تقنع أحدهم بعدم جدواه كإنسان، عليك دائماً أن تمجده قليلاً، أحياناً عليك أن تكون صريحاً مع أناس مثلك سيدي الكاتب، وأحياناً أخرى وفي حالات كمسعود، الصراحة لن تكون جيدة…أحياناً وفي الغالب التجار الصريحون هم أقل التجار نجاحاً، لذا، فالطلياني احتاج لدفعة من نوع خاص، مجدته؟! جعلت منه إلهاً إذا أردت القول، هدأت نفسي بعدما لاحظت ردة فعله على كلماتي التي شعرتُ أنها قاسية قليلاً عليه، قلتُ له مبتسماً:
خليك انت يا عزيزي من هالكلام، انت وراك حياة لازم تعيشها صح، إملا شن، وراك خطط لازم ترسمها لما تطلع من البلاد الخمر هذي، خليني أنا انظملك الأمور كلها ومش حتطلع مني إلا راضي، خليني أولاً نرتب أفكاري، ونحيه هالكاتسو من دماغك….بيني؟
بيني. قال ورتب ملابسه، تحسس نظارته الدولتشي، مسح حذاءه القبانّا، وأنصت لما قلته له.
” وهكي يا سيدي الكاتب، تقدر تقول إنه ومن هنا تبدأ قصة الكلب الليبي الذي هاجر إلى سويسرا، لكن قولي… نسيت قصتك أنت، كيف قلتلي؟ قتلت خوك؟ هاهاهاهاهاها قولي قولي، نبي نسمع!!”