شهر انتحر من حياتي عندما أصابتني محنة الكاتب، وجدتُ فيه نفسي منوماً مغناطيسياً بالكوميديا الساحرة لـأعظم مسلسلات الكوميديا في تسعينات القرن الماضي. عادة ما أختفي عن العالم.. أبحث عن شيء يشغلني، أتغمنط وأعيش في قوقعته لأعود للحياة مجدداً، هذه المرة كان جيري ساينفيليد، جوليا لويس درايفوس، مايكل ريتشارد وجايسون آلكزاندر كجورج السمين، الأصلع، ضعيف النظر والأحمق – أو هكذا يُنظرُ إليْه- بصحبتي بعدما أتناول وجبة البيض، القهوة العربية، المربى والزبد والكرواسون – أو كما نقول هنا: بريوش- وسيجارتي الأولى لليوم، ويستمر انجذابي لشاشة اللابتوب من حلقة إلى أخرى، من موسم لآخر – لابد أنّ هناك “فريكس” آخرين يدخلون لهذه المرحلة من الروتين في حياتهم الخاصة، بأن تختصر الحياة في مسلسل تلفزيوني-، أعالج جسدي بالكوميديا.
ولأكون صادقاً، لم تربطني بمسلسل Seinfeld المنتج في الفترتين بين الـ1989 والـ1998 ذكريات أقدم من 2013 عندما عرفني به أحد الأصدقاء الذي لديه هذه الرابطة مع المسلسل في طفولته، ولكنني مؤمن أن الوقت ليس متأخراً دائماً من صنع الذكريات مع ما يستحق ذلك. أعتقد بأنني متابع جيد لمسلسلات الكوميديا الأمريكية، تلك الكوميديا النابعة من الحياة اليومية للأبطال كـ How I Met Your Mother و The Big Bang Theory وتعود إلى مسلسلات ديزني الكوميدية كـCory in The House وThat’s So Raven وLizzie McGuire وEven Stevens مسلسل المقالب الذي ترعرع النجم الشاب شيا لوبوف في حلقاته ومواسمه.
يكون لجيري ساينفيلد الفضل في تأسيس خط فني جديد للكوميديا عندما أطلق صحبة Larry David المسلسل التلفزيوني Seinfeld الذي يحكي كما لمح كاتبو المسلسل على لسان شخصية جورج في إحدى حلاقاته عن ” اللاشيء”، الحياة العادية وما يصاحبها من مواقف مضحكة، مليئة بسوء الحظ والكارما بكافة أشكالها التي تقع على شخصياتها، ولا ننسى : To Be Even وأن لا تخسر شيء كما يحدث لجيري.
لقد قام ساينفيلد بتغيير موازين اللعبة عند صناعة الـSetcomes، وقد كان المسلسل الكوميدي الأول الذي لا تتطور فيه الشخصيات ولا تتعلم من أخطائها، كما اتخذ منحى الحلقات غير المتصلة ببعضها البعض ليثبت أنه يمكن أن يوجد مسلسل ممتع وقوي البنية دون وجود كلمة ” يُتبع” في نهاية حلقاته، إذ يمكنك أن تبدأ من أي حلقة من حلقات المسلسل وتجد نفسك مرتبطاً ومتصلاً بقصته وشخصياته، لا شيء تحتاج لفهمه مسبقاً سوى الشخصيات سيئة الصيت داخله: جيري، جورج، كرايمير وإلاين.
يلعب جيري ساينفيلد دور الشخصية المحورية التي تجمع بقية الشخصيات مع بعضها البعض: ستاند آب كوميدي يهودي يعيش في شقة بنيويورك، متبجح، يعاني من رهاب الكمال والنظافة والسخرية اللاذعة من الجميع وشيء من الاعتزاز بالنفس وبرودة الأعصاب وتبلد المشاعر والتمحور حول النفس…كل ذلك يخلق منه بيئة خصبة لمواقف مضحكة طيلة المسلسل. لجيري جار يسكن في الشقة المقابلة له اسمه ” كرايمر”، الجار الغامض، المجنون، البوهيمي، صاحب الأفكار الغريبة، والحركات العشوائية وردود الفعل السريعة، شخصية ” هايبر” أكثر من اللازم يتخذ من شقة جيري مكانه المفضل للأكل، الطبخ، النوم، اللعب وحتى مواعدة النساء أحياناً. لجيري أيضاً صديق طفولته الذي لا تجمعه معه أية صفة أخرى سوى كونه قد اعتاد على وجوده في حياته، جورج كوستانزا…إحدى أعظم الشخصيات الكوميدية في تاريخ الكوميديا الأمريكية، على خلاف عظمته التي اكتسبها في هوليوود فجورج كوستانزا نذل، غبي، كاذب، سيء الصيت، مخادع، مراوغ، سيء الحظ، فاشل وعاطل عن العمل… يبدو كشخصية كريهة، كريهة جداً لدرجة لا يستطيع المشاهد للمسلسل إلا أن يحبها. ولأنّ الحضور الذكوري مركز جداً في المسلسل، فكان لابد من وجود شخصية أنثوية تضيف نكهة مختلفة من الكوميديا عليه، فكانت هناك إيلاين بينيس… حبيبة جيري السابقة وصديقة المجموعة، ابنة لكاتب مشهور ومحررة في دار نشر، شخصية إيلاين تمزج بين الإيروتيكا والحمق، النجاح والفشل، الخجل والجنون، الأنوثة والذكورة…خصوصاً عندما تعرف أنها صاحبة أكثر لقطة عنف جسدي في المسلسل بدفعها للشخصيات الأخرى.
إنّ هذه الشخصيات التي تلتقي في شقة جيري، المقهى، المطعم، الشارع، الميترو، الباص ومنزل أبوي جيري هي شخصيات واقعية يتناول المسلسل مواقفها وحياتها اليومية بطريقة كوميدية ساخرة، هم لا يأبهون بأحد، يجرحون بعضهم البعض دون أن يتأسفوا حتى، يمارسون السخرية من الناس، جرح مشاعر الآخرين، الأعمال الحمقاء والطفولية، ويعاودون فعلتهم حلقة تلو الأخرى دون أن يعتبر أي منهم من تجاربه….إن ساينفيلد هو مسلسل اللادراما، اللارومانسية، اللاشيء. هو مخصص للضحك والضحك والكثير من الضحك.
يتكون المسلسل من 9 فصول، وكل فصل به 24 حلقة ماعدا الأول (5 حلقات) والفصل الثاني ( 13 الحلقة)، يدخل فيها الأصدقاء الأربعة في مغامرات قميئة أشهرها: المطعم الصيني وهي الحلقة التي حرفياً لا يحدث فيها سوى انتظار الأصدقاء لدورهم في المطعم الصيني، حلقة قلم الحبر، مأوى السيارات، والحلقة العظيمة” المسابقة” التي يدخل فيها الأصدقاء في مسابقة مجنونة محورها أن يتوقفوا عن الاستمناء، حلقة المفاتيح، الليموزين، والفصل الرابع الذي يتمحور كامله في محاولة جيري وجورج كتابة مسلسل لقناة NBC يتمحور حول ” لا شيء”، وهكذا… حلقة وراء حلقة، يدهشك فيها الأصدقاء في كمية المواقف السيئة التي يمكن أن يدخلوا فيها ويخرجوا منها دون نهاية سعيدة لهم، دون أن يتعلموا أي شيء، دون أن يكون هناك أي معنى من دخولهم في المغامرة.
تتمحور مواضيع المسلسل غالباً في الحياة الاعتيادية للنيويوركيين بالإضافة للعلقات العاطفية والجنسية، الحياة الوظيفية، المواضيع الإثنية والفيمينزم بطريقة ذكية جداً، بإمكان حلقة واحدة عن المفاتيح، العلكة، قمصان القراصنة، الفواكه أن تجعلك تصرخ من الضحك. ساينفيلد، هو الدواء الملائم لكافة مشاكل الكآبة والضغوطات اليومية التي نعايشها كل يوم.
لا أعلم مالذي يمكنني قوله في الحقيقة، سوى انك جعلتني أزداد شغفاً بهذا المسلسل الجميل، الذي تكمن عظمته في كونه “لاشئ”. المقالة أقرب لأن تكون مراجعة فنية متقنة. أجدتَ كثيراً يا صديقي
LikeLike