حبر التوت، الجذر الأول (9)


 

PICT0098

استيقظت، كان الألم مبرحاً لأقول الحقيقة، لم استيقظ من الوجع منذ مدة حتى أنني نسيتُ حقاً ماذا يعني أن تستيقظ ورأسك يكاد يضعه الطين المكسو به وسط حقيقة بردٍ ما ينخره، ينخر عظامك الطينية وينخر كل تلك الأحلام التي كنتَ تعتقد بأنها حقيقةً وتمنيت أن تبقى ولو قليلاً لتؤنسك، ذلك الشعور الرهيب بأن عقلك يعيش في أرض لا تعيش فيها، في الجبال بعيداً عن الصحراء وحرارتها وهوجائها، أن أحدا ما يحاول أن يبني عمارةً جديدةً له فيه فيدق مساميراً في عقلك لا تتوقف، ذلك الوجع الذي أتحدث عنه. لم أشعر به منذ مدة، منذ آخر خريفٍ عشته ربما، سقطت الأوراق أمامي، كما سقط حاجبيْ على عيني يطبقان ببطء على نشاط الخيال الذي تحاول أن تكبحه  ولا يتوقف من الهيجان، الخريف…ذلك الفصل، صدقني…إنّه رهيب، عندما ينتهي فقط تشعر بالبرد، لا أقصد برد الجسد….بل برد الروح، العقل، النفس والقلب، ذلك البرد الذي يحجبك عن ما يدور حولك،  ويعريك تماماً من كامل أوراقك، إنّ القدر منيّك…إنه ضبط روحك وكل ما فيك بالفصول الأربعة، ضبط حياتك كلها على هذه الخريطة حتى أنّك كنتَ تفكر…متى، متى سينتهي التاجر من أحلامه وقصصه التي ظل لتسعةِ أشهرٍ يحكيها لك  وتزداد جموحاً معه وتزداد هياجناً وإحساساً بالعظمة التي وصفها لك، لقد رأيت نفسك أفضل من الجميع لا تنكر ذلك، أفضل منه أحياناً…لا تكذب، أنت صريح، أنا معك صريح، أنت عظيم، أنا معك مخلد، أنت أفضلهم، أنا سأنبئك بأخبارهم أجمعين وستكون من الرابحين….صدقني، وصدقته، وعشت الأحلام، عشت صحبة أشرف ومؤخرة المدام حياة وسخرت كثيراً من الكيفية التي يمكن عن طريقها بالإمكان لرجل أن يطلق النار في كس الحياة، عشتَ صحبة داوود وأعجبك كثيراً ذلك الجنون الذي انتهى إليْه، عشتَ مع بلال وأرهبك ما تحول إليه، عشتَ مع كمال وشعرت باللذة عندما انجرّ الموسى على عنقه، عشتَ مع نجيب واحتقرت كل بذرة فيه، جنسيته، الإنتقام، عنصريته، ربوبيته، انتهاكه لعرضِ القبيلة بعدما أنعمت عليه هو الغريب، عشتَ مع مسعود وشعرت بحقارتك أنت، سفالتك أنت، سؤمكَ أنت كليبي، لا تقل لي لم تشعر بذلك. ومع ذلك تناسيت أنه في كل مرة يغذيك، يتغذى منك، في كل مرة يمليك، يمتلئ منك، أقول تناسيت لأنك تعلم منذ البداية أنه كذلك لكنك قلت: هاه؟! ما المخاطرة، لا وجود لذلك، ثم ما أسوء ما يمكن أن يحدث؟ قلت لنفسك، أنا لم أعد أعرف أنني أحلم أو أعيش الحقيقة حقاً، أضفتَ، لا تقل لي لم تفعل ذلك، إنني أعرفك…لقد فعلت أيها الأحمق، وهذا هو أسوء ما يمكن أن يحدث، أنت تستيقظ دون أن تدري هل ما تمر به حقيقةً أم خيالاً، ما رأيك الآن؟ أيهما الحقيقة؟ الألم الذي تشعر به في رأسك الآن؟ المسمار يدق، يدق، ويدق، صوته يدق، الحديد الذي يتألف منه يدق، الوخز الذي في رأسه، يدق، البرودة التي تلفه تدق، إنّ ألم رأسك لا يحتمل، تستيقظ…هكذا، استيقظتُ هكذا في غرفةٍ لا أعلم ما الذي جاء بي إلى حيطانها، كان ضوءُ الشمسِ يخترق بخفوت شمس الشتاء في عيني، وكان السرير الذي أنام عليه يحاول أن يضيف ألماً جسدياً جديداً في كتفي، أن ” يطيحلك لحمة” كما كانت تقول أمي، أحاول أن أتعرف على المكان من الألم، أمد يدي أتلمس السرير لأعرف أنه ليس لي، أتحسس الغطاء والوسادة وكمية الضوء ومصدرها، أبحث بناظريْ المكان، لم يلفت نظري وأنا أحاول أن أتخلص من ألمِ رأسي سوى الحوائط التي كانت مصنوعةً من الخشب ورائحة جديدة على أنفي  عبارة عن خليط بين اللوح، الهواء المعتق داخل البيت دون أن يجد له مخرجاً، ورائحة الأثاث التي تحتاج للهواء أن يخرج لتتنفس الهواء النظيف مجدداً، حاولت أن أتلمس الطريق للخروج، تفقدتُ مكان الباب، وخرجتُ من الغرفة أبحث في الطريق بيد، أتحسس ألم رأسي بيدٍ أخرى أبحث ممرراً رأسي الباكي بين الغرف، متفحصاً ما بداخل كل منها، كانت إحداهنّ عبارة عن غرفةٍ أخرى فارغة بها سلتة في إحدى الزوايا على أرضيتها الخشبيةِ المليئة بالغبار، في الغرفة الأخرى التي دفعتُ بابها المغلق كان الحمام، ثم في نهاية الممر اللوحي المزعج كانت صالة في مساحة  أشرف الجريمة مستلقياً مرتيْن طوليا ومستلقياً أربع مرات أفقيا، مفصولةً إلى جلسة ومطبخ عن طريق بارٍ لوحيْ من الماهوجني بلونه البني الغامق، بحثتُ عن الباب في المكان حتى وجدته وركضتُ أفتحه، لكن وكما كنت أخشى فقد كان مقفلاً، ابتسمت وضحكتُ من نفسي، حاولت واقفاً أمامه أن أسترجع ما حدث وتذكرت آخر ما حدث، كنتُ أنا وهو نجلس مشاهديْن للشمسِ الخريفية الدافئة تسقطُ على أشجار العنب والسرول والتوت والكرم والياسمين والصنوبر مسلطةً بلونها الأحمر بهجتها، كنتُ أنصتُ له وهو يحدثني عن ما حدث للطلياني، آه ذلك اللعين…نال ما يستحق، ثم اختفى كل شيء…. آخر ما رأيته، كان يلقي بنظرة اتجاه جسدي الملووح أمامه بابتسامة لم أرى مثلها أبداً، كان يبتسمُ….يفرج عن أسنانه الأمامية الصفراء، يخفي ضوء الشمس بسحنته تماماً ويجعله كظل، هل كان ظلاً؟ أين هو؟ بالأحرى، أين أنا؟ وتذكرت أيضاً ذلك البيت الذي كنا نجلس أمامه، الذي أغرتني نفسي أن أعيش فيه للأبد، لا أعرف تماماً لماذا تخيلتُ دائماً أن بيتي المثالي سيكون بيتاً كهذا بالضبط، أمريكياً تطل عليه هذه الطلة بالضبط، اندهشتُ من رؤيته، إذاً هل أنا داخله؟ بحثت في المكان، كان مجهزاً تماماً، كل شيء فيه، ثلاجتان إحداهما كبيرة مليئة بالطعام، بكل ما أحب، ثلاجة أخرى بها زجاجات كحول وعلب سجائر وحتى العشبة التي يستطعم منها التاجر دائماً، كان مثالياً…. أخبرتُ نفسي ضاحكاً ” ، يبدو أنّ الكثير من الأمور قد تطورت فيما يخص حقوق المخطوفين، حسناً… إن كان قد خطفني فإنني أدعو الله أن أبقى مخطوفاً طيلة العمر، لقد وجدتُ الجنة” كان كل شيء موضوعاً لي بالضبط حيث أريده، إنّه يعلم عني أكثر ما أعلم أنا، جلستُ أحتسي كوباً من الماء على الأريكة أحاول أن أفكر فيما يحدث، أحادث نفسي وأراجع كل ذكرياتي التي تبقت قبل أن يأتيني هذا الصداع الرهيب، وأطمئن أن جميعها في مكانها، حيث وضعتها، حينها لفتت نظري رسالة موضوعة على الطاولة لم أشعر بوجودها فوق المجلات التي يعتليها تمثال لسلحفاة صغير كأنه يحميها من أن لا تهرب وأن لا تطير إلى الخيال، أمسكت التمثال وتفرجت عليه، كان مفصولاً إلى جزئين، جزء علوي متحرك حيث صدفة السلحفاة متصل بالجزء السفلي في الذيل وجزء سفلي به بقية جسد السلحفاة الذي يشبه منفضة السجائر، كان التمثال نحاسي اللون، وضعته جانباً ثم أخذت الورقة التي تحته لألحظ أنها كتبت بخطِ يده الذي تعرفتُ عليه، قرأت باهتمام:

(( عزيزي، أيها الرائع، أيها الكاتب العظيم، لا تخش….لم أقم بخطفك إن كان هذا ما تفكر فيه، أعتذر حقاً على الإزعاج، أنت زابط الوضع يا حبيبي، الدنيا منيْكة ولازم تنيك لقطة باش ولاد القحبة ما يزبطوش شن إدير فهمتا كيف؟ الواحد لازم ديما يخلي الحس الأمن عالي، لذا كان عليْ أن أفعل ما فعلته، ما فعلته كان مصلحة لك صدقني، ستشكرني لأنني لم أخطفك، ولكن… باش نخليك مستريْح من الناحية هذي خلي نشرحلك إني نخطفك مش مشروعي وآخر اهتماماتي، أنا صريح يا سيدي الكاتب لأنك أنت صريح، لذا دعني أقول أنني لم أخطفك وأنه عليك أن تصدقني حقاً فيما يخص هذا الأمر، فأنتَ من أنتَ، الكاتب العظيم الذي قطن حيْ التوت فجأة دون سابق إنذار يبحث عن القصص وما يمكن أن يُروى ولا يتذكر حتى اسمه أو حياته القديمة سواء أنه قتل أخاه أو أنّ أخوه قتله، يا سيدي إن لم تكن مقطوعاً من شجرة، فأنت فرع قد سقط من شجرةٍ تريد أن تنتقم منه، يعني إن كان لك عائلة ستكون أول الفرحين بأنّك خطفت هذا إذا لم تطالب الخاطف أن يقتله ويريحهم منه ومن ما فعله، لا يأتِ مثلك إلى حي التوت هكذا إلا راحة من شيء يطارده في بلده، من جحيم يحاول أن يقتله وهو هارب منه ولا يستطيع أن يذهب أكثر من حي التوت لأنه بلا شيء، بلا هوية، بلا حياة، بلا شيء يربطه بالأمل، ثم إنّك كاتب يا صديقي…مع احترامي القدير لك، أنت تعلم أنني معجب بك، وأنني أراك عظيماً، أنت كاتب… من سيدفع لي المصاريف؟ قراءك؟ هاهاهاهاهاهاهاهاهاهااها الزّب!! أما اللي بيدفعولي وزارة الردافة والمجتمع المتدني؟ هاهاهاهاهاهاهاها آه يا دولة، مافيش حد حيدفع يا سيدي الكاتب…مافيش صدقني، لن تجد أحد سيخرجك من الجحيم وستموت متعفناً كالأمريكي دون أن أستفيد بأي شيء منك، وسأندم كثيراً عن المال الذي ضيعته في تغذيتك حتى لا تموت، وكل الجهد والوقت الذي وضعته فيك، وأنت كما تعلم، لا أحب الندم؛ لقد نسيته… إنّ آخر همومي هو أن أندم على شيءٍ أفعله لأنّه آخر همومي، لذا إطمئن يا سيدي الكاتب، إطئمن…ثم انظر حولك، كل شيء متوفر والحمد لله….بحبح هيْ! هاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاها.

 توا ركز معاي… بعد ما عرفت إني ما خطفتكش، خلي نقولك علاش أنت هني، أنت هني باش تكتب!! هاهاهاهاهاهاها هكي بالبساطة هي، اكتب يا راجل وفرهد علي روحك ياسرك من الحياة القحبة والبشرية المنيكة، اكتب الزب وخليني نعرف شن آخرتها معاك لأنك نكتلي خط في دماغي، كل شيء متوفر… وسأسعى إلى توفيره، خوذ راحتك وما ادور شيء كله حسابه علي، قصدي علي مسعود الطلياني هاهاهاهاهاهاهاهاها، المهم… بس أحتاج لأن أتحداك قليلاً، القصة التالية هي: قصة فتاة، ستجد في البيت بعض المواد التي قد تساعدك على كتابة قصتها هاهاهاهاهاهاهاهاها، حسناً… خوذ الوقت كله هاهاهاهاهاهاهاها إن أعجبتني سأبعث لك بهدية خاصة وإن لم تعجبني، لا تريد حقاً أن تعرف ما سأفعل هاهاهاهاهاهاها)).

ألقيتُ بالورقة، كنتُ فارغاً تماماً، هذه هي المرة الأولى منذ سنوات أشعر بأنني لا أملك حتى حق الإحساس برئتيْ تكادان تنسحبان للداخل وأن أفكر بعد ذلك بالذي ينقله هذا الإحساس، هذا الهواء داخلي رئتيْ، هذه الأفكار التي تلعب برأسي، هل حزن، خوف، فرح أم خشية وانعدام آمان مع انعدامي عن العالم؟ هل يبحثون عني؟ هل هناك حقاً من قد يهمه أمري في هذا العالم غير ما يظهره التاجر؟ ذاك الذي على أية حال كان مصدري الوحيد الذي أستسقي منه حكاياتي ورغبتي في الحياة وشعوري بالانتماء لها، أحاول صحبته أن أسترجع ذكرياتي وأهرب منها في الوقت ذاته، متى كانت تلك المرة التي تذكرت فيها أن عندي حياة أخرى هربت مني أو هربتُ منها؟ ألقيتُ بكامل ثقلي لساعات على الكنبة الجلدية أنظر السقف اللوحي فوقي، كان هناك سلم بالقرب من الباب يفضي للعلية المغلقة، باب لوحي يفتح على عالم آخر فوقي يمكن لرجلين بالغين المرور من الفتحة في آن واحد، فكرت في البشر والحكايات التي تتكئ فوقي، الجدار المقابل لي تتخلله نافذة صغيرة تلتحف الستائر، النافذة محمية بمشبك صغير من الحديد، ” رغم أنّ البيت أمريكي إلا أن صاحبه ليبي لا شك”، فكرت في سخرية القدر التي جعلت من الليبيين يحصنون نوافذهم من الهاربين أو المقتحمين على حد سواء، كأنهم يخشون من تحررهم أو حرية الآخرين في الدخول متى ما شاؤوا إلى حياتهم الأخرى داخل جدران منازلهم، لهذا… لم يتمكن أحد من الكتابة بشكل جيد عن ما يجول وراء جدران المنازل في المدينة. في الزاوية بجانب النافذة كان هناك شاشة تلفاز بجانبها مشغل أقراص، ولا أقراص. كان يمكنني أن أرى كل زوايا المنزل من حيث أتكئ، أن أشعر بأنني أملك زمام الأمور في مراقبة ما يجري حولي. الممر الصغير المطل على الغرفتيْن والحمام، المطبخ على يساري، الباب، العلية. كل شيء تحت قبضتي. شعرت بكم جيد من الرائحة، بالقدرة على أن أتحد مع نفسي ربما، أن أفعل ما أشاء داخل البيت بعدما زال عني شعوري الجاثم فوقي، حملت نفسي إلى المطبخ، فتحت الثلاجة الصغيرة حيث المشروبات والطعام، أخذت قنينة ” الرقم 7″، واصطحبتها معي عودة إلى الكنبة الجلدية الخضراء من جديد، شربت…شربت إلى أن تململت أطرافي بالخذر، حلمت.

  • أهلاً مجدداً، موسى أم حبل؟ دعني اختار لك اليوم ما تحتاجه، امممم… آها، انظر، هذه قطعة فنية، إن الذي في الزجاجة سم ذي تاريخ مثير للاهتمام، إنه أنهى مسيرة عظماء كثيرين، وعظيم مثلك…

وتنفلت منه ضحكة مزعجة، كادت عيناه تدمع، أعتقد أنه تذكر شيئاً ما عندما قال تلك الكلمة، اللعين، دائماً ما يأتي ساخراً، يرمقني بعينيه العسليتيْن، شعره يجعله يبدو كأغريقي، تلك اللفلفات التي يصنعها شعره الأسود تصبغ عنه أفكاراً عديدة، خصوصاً صحبة لحيته العبثية التي تجعله يشبه تجيفارا إن أمسك غليوناً، نظرته الحادة، وذوقه في اللباس، أحياناً يأتيني مرهل الثياب كشيوعي مترمغاً في يساريته، أحياناً يأتيني كرجل أعمال، شخص مهم يحب أن يحافظ على مظهره، ككاتب، كمجرد مدخن للحشيش يضمحل في جسده، احترت… لم أفهم شخصيته، والآن ابن العاهرة، يضحك في وجهي كشيطان، ربما هو الشيطان، يقولون أنه يمكن أن يخرج في جسد عابد، اللعين.

عندما أنهكه الضحك، حرك يده إلى الأعلى، ونظر نحوها، ارتفع بيده الأخرى ناحيتها، مرر أصابع اليسرى بين أصابع اليمنى، كان هنالك اختلاف بين يديه، اليمنى بيضاء وفي السبابة شرخ يمر من أوسط الإصبع حتى يندحر كمحاولة للانهيار إلى مجموعة من تفاصيل الإصبع الأفقية، اليمنى كانت تمرية اللون مليئة بالشعر بالخنصر خاتم من الفضة، كان يحركهما ونظرة جنسية في وجهه، يخرج لسانه ببطء، محولاً نظره ناحيتي، ثم نزل بيده اليسرى ببطء ناحية منبت ذراعه، ثم عاد للضحك..

  • أقول عظيم مثلك، نعم، عظيم جهل البشر قدره، أقصد أنك ستكون مادة رائعة للدراسة، إنك تجهل قدر نفسك! اوه…نسيت أنت تعتقد أنك شيء آخر يا صديقي، وأنت لست إلا، ها ها ها ها، لست إلا كما قال أحدهم: شاعر، وكاتب!

أرمقه، أجد في وجهه ملامح عرفتها، إنه لم يعد كما رأيته أول مرة، أصبح شخصاً آخراً، يزيدني طولاً بإنش واحد، أكثر نحافةً، شعره الغجري يصل إلى كتفيه، ولحية شعتاء، يرتدي بذلة أظنني أعرفها… غير من نبرة صوته وقال:

  • ولكن أتذكر من صنعك؟ لن تنسى من صنعك، أعرف أنك تعلم في داخلك أنك لن تستطيع، أنا صنعتك يا صديقي، جعلتك الهيئة التي أنت عليها، وعندما يسلمك العالم الجوائز وعندما يكرمون عظمتك، عليك أن تتذكرني، اتصل بي، أكتب قصيدة مدحٍ في حضرتي، سأسعد عندها أن أحد تلاميذي صار شيئاً ذي قيمة، أنت تعلم بأنني أحب أن أدعم الشباب، أن أطرح أمامهم الفرص، أن أشد على أيديهم للدخول في عالمي، كما تعلم بأنني بذلت وقتاً في تفقيهك، تثقيفك، وأنني شددت على يدك ها ها ها.

ثم عاد ليرسم الحركة أمامي مسبقاً، شعرتُ برغبة في لكمه، شيءٌ داخلي يحز، أمرٌ أحاول البحث عنه في مخازن ذاكرتي دون جدوى، مشهدٌ ربما، قصة سمعتها، أبحث عن معنى الشعور الذي يثير في رغبة التقيؤ، أريد النهوض للكمه، إلا أن جسدي مجلداً في هذا الكرسي، غرفة ضيقة لا تسع إلا شخصين، كأنها غرفة احتجاز، أو ربما هي كذلك، النافذة الصغيرة، مصباح النيون الذي يشتعل ويختفي ضوءه بين التارة والأخرى، أثر اللكمة التي أشعر بها في وجهي، وعينايْ الكسولتيْن، العقد المربوط بها ساعديْ والحبال التي تلف الذراعيْن، كأنه يخاف أن أنقض عليه، إنه يحسب لهذا الأمر، أأنا عدواني؟ لا أعلم، كان ينظر ناحية يدي المكبلة ويضحك، ابن القحبة يسخر من قلة حيلتي، يلعب بلحيته الشعتاء ثم يتحرك خلفي، يضع يديه على كتفي ثم يزفر بقوة، ثم يقول:

  • دعني ألقي في حضرتك محاضرة أخيرة، أيمكنني فعل ذلك؟ هل ركزت عينيك في الحائط الذي أمامك، – يضغط زراً في يده- سترى الشاشة تظهر الآن، أنت تعلم أنني أحب أن أتحدث بالصور في دروسي، انظر! إنها صورة رائعة، أنها تعود لك ولي عندما كنت مديرك بالعمل، ها، أنظر إليْ وأنا أدفع بك إلى الأمام، أربت على كتفك كما فعلت من لحظات، أنت تعلم أن التربيت على الكتف هي جزء من الدعم النفسي الذي يضفيه المدراء على موظفيهم؟ بالطبع لا يمكن أن تقارن تربيتتي بأية تربية أخرى، إنها شيء به رمزية، وإحساس حقيقي بالفخر، أتذكر أنه مشروعنا الأول عندما كانت لي اليد في دفعك نحوه والتشبث بزمام المشروع بكافة تفاصيله، بالطبع، لا يمكن بإمكاني أن أجعلك تمر بهذه المرحلة المصيرية من حياتك دون أن أقدم بعض الدعم، بعض الاستشارة.

كانت حنجرته تفرز ترددات صوتية متعالية، يمكنك أن ترى ذلك من نبرة حديثه، نبرة بطيئة، عالية التردد، وأحد الخدين في مستوى أعلى من الآخر، نظرة بنصف عين ناحية الصورة، مركزاً نظره في هيئته بها، ناظراً ناحيتي ملوحاً يديه.

قلب الصورة، إلى مجموعة من الصور الأخرى معلقاً على كل واحدة:

  • ها أنا وأنت في المقهى أحدثك عن أهمية ما تكتبه وتكوين نفسك، وعندما ألقي لك محاضرة عن أهمية أن تترك كل تلك الأشياء التي كنت تأخذها لتذهب بعقلك، وها أنا أسبك لأنك كنت تعتقد أنه يمكنك أن تستغنى عني صحبة رفاق السوء والرفاق السود، ثم انظر لي مسامحاً إياك لأعطيك فرصة أخرى، اتباعاً للحديث الشريف، حتى لا أقطع لك باب رزقك، وباب مصاحبتي بالطبع، ها أنا أكرر إعطاء الفرص رغم عنجهيتك وتصرفاتك المثيرة للاحتقار، أنظر كيف أعلمك كيفية الأكل مثلي، الحديث مثلي، المشي مثلي، والتفكير مثلي، أنظر، إنني أيضاً كنت أشعرك بأنني لست خيراً منك في بعض الأحيان، أجعلك تنام في بيتي، تشرب الخمر، أصاحبك فيه حتى لا تشعر بالممل رغم أنني متعالٍ على هكذا تفاهات، إن هذه الخمر التي كنت دائماً تريد شربها، أنا الذي أدخلتك في تجربة الغوص فيها، آه كم صنعت لك! والآن، أنت حلم يتحقق…. شخص عظيم، لا لا، لست عظيم، فأنا وحدي عظيم، أنت ” منيْك” حسناً؟ ها ها ها ها ها

الله أكبر، الله أكبر، من هذا؟ من يكون هذا الشيخ الصغير، تفوح منه رائحة العود، مبيّض وجهه، سماء تحيط بهدوءه اللاذع، ورغم بدانته إلا أن جمال فيه يحيرني، ما به ينظر مبتسماً، وثوبه الفضفاض يكشف قدمين كالمُضر، يرفع يديه عالياً حتى أذنيه، ضوء مصباح النيون يكشف عن آثار يده اليمنى، السبابة ملبداً بضمادة بيضاء ملطخة قليلاً بالدم، كأنني رأيت هذه اليد يوماً، آه! ما بال صدري يئن؟ ما بال رئتاي تنقبضان، ما بال فمي يخرج رائحة تذهب عني روح العود، لماذا يحدق في يده اليمنى، لماذا تلمع عيناه؟ ما بهذا الفتى؟، يتنفس بعمق، ثم يزفر، ثم:

  • أشهد أنّ لا إله إلا الله، لماذا لا تشهد معي؟ أشهد أنّ محمداً رسول الله، لماذا لا تشهد معي؟ ما الذي فعلته لك حتى لا تشهد معي؟ ما الذي فعلوه لك؟ لقد أوصولك لما أنت عليه الآن، انظر إليك، إنك صنيعته، لقد شكل يديك، أنفك، قلبك المغمي عليه، عينيك التي تفخر بهما، وأراد لك أن ترضى، فما رضيت إلا أن تشقى، وأراد لك منها أن تشقى، فشقيت حتى ترضى… ما باله يتبعك حيث تريد، وتهرب، ثم يخبرك أن تتبعه حيث يريد لك، فتهرب، إنك كتبت باسمه، قرأت باسمه، تنفست باسمه، لقد تبعتكَ حتى ضللتك، ورجوت أن تأتي إليْ، فها أنت تطل مرة بعد حين عندما تظلمك الحياة أو تظلمها، تعود لي باكياً فأضمك إليْ، أليس لي حقٌ عليك؟ أن تشهد معي؟!

رفع يديه عالياً، إلى أذنيه، وتابع آذانه لا يلقِ لي اهتمام، صلى، رفع يده عالياً ونظر إليْ وهو جالس القرفصاء، كان كأنه يدعوني، بابتسامة كان يعهدها ربما منذ نعومة أظافره، لابد أن إمرأة ما كانت تقول له: أنت دائماً ما تبتسم! فيفرج خديه موارياً أسنانه، لابد أنه يستحي منهم، لثته العليا ظاهرة في ابتسامته الغريبة، لابد أنه كان يعاني من سخريات الأطفال حول شكل، لون،ترتيب أسنانه، فتح فمه في وجهي، لم يكن به أسنان، كان فمه فارغاً، لا أسنان، ولا لسان، كنت أريد أن أقول له أن يغلق فمه البشع، كان أمراً مثيراً للبشع، فم بلا لسان ولا أسنان، أجوفاً ما به شيء، أردت أن أقول له، لكني لم أستطع، لساني بدا كأنه مثبتاً في فكي بمسمار، أو كخيل أجفلت فقيدها مروضها، قال:

  • إذاً ها أنت ذا، تنظر نحوي، إنني سمين، بلا أسنان، بلا لسان، قبيح المنظر، ألست كذلك؟ والله؟! إلا أنني مطمئن، أعيش في هذه الدنيا أرعى غنم الله، وأنت ترعى غنم الشيطان، ورغم ذلك، لا أريد أن أقاضيك، لا يقاضيك ولا يحاسبك إلا الله، هذا ما تعتقد صحيح؟ حسناً، إنني فقط…أريد أن أشرح لك القليل من فضله وفضلي عليك بالصور، على كل حال، لطالما رأيتُ الصور شيئاً غريباً، لم أجد لي صوراً تضمني إلا معك، انظر لنا أنا وأنت جالسون في المسجد نقرأ القرآن، انظر لك تحضني على أن نخرج لنلعب، فأوافقك فقط لأنني كنت دائماً ما أراك صديقاً لي، انظر لي أشرح لك كافة الدروس التي خضناها، وأنت تقول لي: شوط آخر فقط، هيا…يمكن للدراسة أن تنتظر، بالنسبة لي، الأمر لا يشكل فارقاً، فقد كنت أعرف الدروس كلها، كنت أحاول أن أسحبك معي إلى طريق النجاح، كنت أؤمن بك، انظر إلى هذه الصورة الرائعة، أنت تعرفها،أردت أن تؤذيني، كنت تعلم أنني أخاف الظلمة، لكنك قدتني إليها لنورد لأبي الماء، أتذكر أنني أسرعت خوفاً حتى انزلقت على الماء وانكسر ظهري، هل تريد أن أريك العلامات؟ لقد صدقت أن لا شيء هناك في الظلمة، إلا أنني رأيت عيوناً حمراءً تنظر نحوي، عندها ابتسمت في وجهي وقلت لي: ها ها ها على الأقل لم تعد تخاف الظلمة!، انظر لي أشاركك ألعابي، أسراري، حياتي، كل شيء، حتى إفطاري، كنت دائماً ما تطلب المزيد مني، ها ها ها ها.

وبدأت الغرفة تهتز، لابد أن الحرب بدأت من جديد، لا يمل الناس هنا من الحروب، هل أنا في جهنم؟ بالتأكيد، كل هذه الخيالات والبشر الذين يلاحقون ذاكرتي، لابد أنه الجحيم، والآن، جثة أحدهم مرتمياً أمامي، يبدو ملطخاً بالدم، على رأسه طاقية عسكرية وملابسه المدنية توحي أنه ليس ضليعاً في الأمور الحربية، بدأت الجثة تتحرك، فزعت، أحياءٌ عند ربهم يرزقون؟ يمسك بالبندقية المرمية بجانبه، ويستيقظ، حتى تساعده على النهوض، وجهه لا يوضح أية علمات سوى عينان يغطيهما الدم، يخرج الدم لونهما الأصفر، حدق في من فتحة الدم تلك، قال بصوت مشروخ:

  • أهلاً؟ هل يمكنك أن تعطيني بعضاً من الماء؟ هذا ما أحتاجه، اعطني الماء رجاءً، – لم يكن لديْ أي ماء-، اعطني الماء! هيا يا رجل، ألازلت تراني مخطئاً؟ لكني لم أكن كذلك، أنت تعلم، فبفضلي عرفت كيف تتعامل كل هؤلاء المسلحين، عرفت أن الحق لا يعطى، بل يؤخذ، لقد علمتك ذلك، فلماذا لا تريد أن تعطيني الماء؟ هل تريدني أن آتي وآخذه، هل هذا ما تحاول أن تلقنني إياه؟ درسي الخاص؟ تذكر أنني أيضاً من جعلتك تمسك السلاح، كنت تخشاه كفتاة غبية، هاك سلاحي، واعطني الماء، صنعت منك مقايضاً من أجل الحياة، أنا الذي صنعت كل ما فيك، الندبات، الجروح، الآثار التي خلفتها المعارك في جسدك، أنا…وكنت تبكي لي دائماً، والآن…تأبى أن تروي ظمأي؟

وأردت أن أصب له بعض الماء، ولكن لا ماء، فكرت أنه عليْ أن أعطيه بعضاً من دمي، ربما يساعده على الحياة، سنحتاج لعملية جراحية، فحص لفصيلة الدم، طبيب، ولكن لما عليْ أن أعطي هذا الميت حياتي؟ دمائي؟ هل ما يقوله صحيح؟ إن كان فعل ذلك، يتعين عليْ أن أمد له يد المساعدة مهما كانت، ولكن لا حيلة لي، إنني مربوط، وأشعر بأن دمي قد تجمد ولا يصلح لأي شيء الآن، أشعر بأني عاجز عن مساعدته.

  • يبدو أنك نسيت؟ ما رأيك أن أذكرك؟ انظر لجروحي، وستذكر كل شيء، انظر هذا الجرح قد أخذته عنك عندما كان أولئك الأطفال يتحرشون بك، ويحاولون سرقة فطورك، أنا من ضربتهم في الوقت الذي كنت فيه تبكي في الزاوية، أنظر إلى هذه العضة، لقد تلقيتها عنك، عندما أردت أن تؤدب ذلك الفتى السمين الذي أهانك، انظر لهذه الجروح في ذقني وظهري، أتذكرها؟ أنا من حملتها عنك نظراً لمعرفتي بمخاوفك، عندما كان ذاك الأحمق يطلب منك أن تذهب للظلمة، لم تنكسر أنت، أنا الذي انكسرت، انظر إلى أسناني المدمرة لأجلك، انظر لرأسي، آه….انظر لأصبعي عندما لم تكن تستطيع أن تفتح علبة الحلوى، فتحتها لك حتى جرح إصبعي، انظر إلى قلبي، إنه مثقوب…برصاصة، نتيجةً لتهورك، نتيجةً لخرقك، من أجل عظمتك… ها ها ها ها ها.

وأموت، لأفتح عينيْ…أرى قنينة الرقم “7” ملقية وفارغة تماماً على أرضِ الغرفة، مجموعة من الأوراق منتشرة على الأرضية، وقلم، ومجموعة من السجائر تخرج من بطنِ السلحفاة، ” ما الذي حدث بالضبط؟” أسأل، أشعر بألمٍ في رأسي، برغبة شديدة في التقيؤ، ” الهانق أوفر، تباً!!!” قلت. أعيد كلمات أحدهم يخبرني فيها أن الماء، الكثير من الماء هو الحل الوحيد لألم الرأس.

  • كيف استطعت أن أنهي القنينة وحدي؟ ما هذه الأوراق؟

أخذت أقرأ   الحروف، لم يبدو لي أنني كتبته، كنت أعرف شكل كافة حروفي، لم تكن الحروف لي، وجدت قصتها… بحبر تخرج منه رائحة التوت، كأنها تتحدث لي.

 

Leave a Comment

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s