
الفرع السابع: اغتيال الفراشات.
الورقة السادسة
“إلاّ أنّ ما حدث هو مرور الأيام حتى تلك اللحظة التي خرجتُ فيها، يتوالدُ الثوّار داخل السجن لأجد أخي يحملني بين ذراعيْه، تركت المكان، صفاء وخيرية وحتى مرام، عندما دخل أخي لزنزانتي، أخرجني وأغلق الأبواب، كنّ ينظرن نحوي بابتسامة فرح وأسىً، اختفت أجسامهم في الممر وراقبت وجه عبدالسلام، لقد تغيّر كما تغيرت، إنّ روحي وأفكاري تغيرت، لم تكن الكدمات التي ملأت جسدي قد غيرت أي شيء في سوى أنها نخرت في روحي جروحاً ستبقى إلى ما تبقيت على هذه الأرض، أما هو…فقد كان فارغاً، روحه لم أجدها، جسده المليء بجروح الحرب، اللحية الطويلة، أسنانه التي كُسرت وقبعته العسكرية، قد صقلته الحرب ليصبح انساناً آخراً تماماً، شيء يشبه الوحش. وحش أحببت وجودي صحبته، أشعر بالراحة اتجاهه، أسد ربما، يحمي عرينه، عند خروجي من بوابة السجن ملأتني راحة خفية أحسست معها أن هذا آخر ما سأمر به من المصائب في حياتي، ألقيت بنظرة أخيرة نحو نافذة زنزانتي من بعيد، كان وجه مرام يحدق في من بعيد، سألت أخي:
- لماذا لم تخرج مرام؟
- مرام؟!
- الفتاة صحبتي في الزنزانة، أخوها من الثوّار.
- لا تخافي… سنصل للمنزل قريباً.
وفي الطريق إلى المنزل، كان يحكي لي قصص الحرب وكيف وصلته أخباري ووجودي في السجن بسببه، حكى لي عن الأيام التي أمضاها يخشى عليْ مصيري الذي أرقه حتى دخل بوابة السجن ووجدني حية داخل الزنزانة، سألني:
- هل كل شيء على ما يرام؟
- أنا بحال جيدة.
- كيف عاملوك؟
- لا أريد الحديث في الأمر.
- هل تعرفينهم؟ أسماءهم؟
- نعم.
- سأقتلهم…جميعاً.
وقرأت في وجهه علامات الانتقام، أردت أن أخبره بكل ما قاموه في حقي وما لم يقوموا به، أن أراه يعذبهم، يمسح بكرامتهم الأرض ويعلقهم أمامي لأستمتع بعذاباتهم، أن يغتصب النساء منهن والرجال أيضاً، لا بأس بذلك، قلت لنفسي، ” ولن يشفى غليلي رغم ذلك”.
- السجينات ماذا ستفعلون بهن؟
- لا شيء، إنهنّ مجرمات.
- هل يمكن أن تخرج بعضهن؟
- سأرى ما يمكن فعله.
- إنهنّ ساعدنني على احتمال السجن.
- سأرى ما يمكنني صنعه.
كان هناك زمن لم نمل فيه أنا وعبدالسلام من الحديث، لكنني شعرت بأن اللحظات التي مرت بنا داخل السيارة الثورية وفي الطريق إلى البيت كان من أثقل اللحظات علينا، كان هناك شيء من الانفعال بيننا، كلمات قصيرة، غرابة، شعرتُ بأنه يفكر بكافة الاحتمالات التي قد تكون حدثت لي داخل السجن، ربما اعتقد أنهم اغتصبوني أو أهانوا أنوثتي ولهذا لا يتحمل وجوده صحبتي، وما يجعله يخفي عاره أنني حبست فقط من أجل حريته هو، شعرت بذلك داخله في عينيه، في ابتعاد عينيه عني ملاقاة عينيْ، في محاولته قطع حبال الحديث معي رغم محاولاتي المتكررة طيلة الطريق في خلق حديث معه.
- إذاً، فليبيا حرة الآن؟
- ليس تماماً.
- كيف كانت الحرب؟
- جيدة، دخلنا طرابلس منذ أسبوع.
- هل انتهت؟
- لا ! سأعود غداً.
هكذا عاد غداً، وعاد جسدي إلى البيت، لكن كنت أشعر بأنني لم أعد أبداً صحبته، لقد أصبحت كما أخبرتِنِي أنتِ ” فراشة” مغتالة. مرّ زمن طويل قبل أن أشعر بهذا التوحد مع ذاتي، سنوات مرت حاولت فيها الهروب من تلك الأيام التي أمضيتها في السجن، أن أنسى الأسماء التي عرفتها، الغولة، صفاء، المحقق، خيرية، مذاق الطعام ورائحة الممرات، وثقل الساعات، وأرق السرير، والضوء الشحيح الذي يتخلل النافذة، تمر أحياناً قصة من قصص السجن فأهشها كأنني أهش ذبابة، أتذكر وجوههن فأرسم على وجهي المكياج كيْ لا أراهنّ في المرآة، استمتعت بالحياة التي منحها لي أخي بعد عودته من الحرب محملاً بكتيبة يقودها وأسلحة يجند بها ومال وُزّع أخيراً بين الشعب. كنتُ أمسح قصتي بالكريم أمرره على الكدمات وأرتدي فوقها العبايات، أنفض عني روائح السجن بوضع الكولونيا وأغرق في الحياة بعيداً عن ذاتي، لم استطع منذ ذلك اليوم أن أضع عيني في عيون أمي، أبي الذي وهن عظمه أو أخي، لم يضعوا أعينهم في عيني أيضاً. كنا كأننا قد اتفقنا أن لا شيء قد حدث، حاولت أن لا أعود للدراسة أبداً إلا أنّ اصرار والداي عليْ بالعودة جعلني مرغمة على خوض التمثيلية. في الجامعة تعرضت لمضايقات عديدة بخصوص الأمر، لازلت أتذكر ذاك الذي حاول دائماً تذكيري بما مررت به. لم أعد أتذكر اسمه، لكن وجهه حفر في ذاكرتي. يقف في أحد الممرات ينتظرني ليقول لي:
- يا ملاك، يسلموا عليك العقيد والغولة وخليلات السجن الوفيات، خصيصاً ” مرام”… مرام تسلم عليك!
أحاول الجري والفرار من كلماته لأسمعه يضحك خلفي، ضحك مليء بالشر والنوايا السوداء. أين هي مرام الآن؟ أشعر بقربها الشديد منّي، هل تمر بما أمر به؟ هل أخذها أخوها كما أخذني أخي؟ أم هل خذلها؟ لا أعرف لما أحس بأنه خذلها”.
الورقة السابعة
لم تدرك ملاك ما الذي يخططه لها القدر الذي اختارته، استمرت في حياتها تغوص في أيامها مبتعدةً كل يوم بمقدار إنشات عن ذاتها، كان يمكنها أن ترى نفسها القديمة واقفة بعيداً في طريقها تنتظر منها الرجوع لها لكنها لم تتمكن يوماً من النظر للوراء، آمنت بأنه لا يجدر بها أبداً النظر للوراء، تقضي وقتها بين الجامعة والأسواق والمقاهي وعند عودتها للبيت تدخل غرفتها دون الخروج منها، لم تتمكن يوماً من حضور حفل زفاف أو حتى تعزية أحدهم، تحصن نفسها في غرفتها بالدراسة، القراءة وإلقاء كراهيتها في صفحات التواصل الاجتماعي و”النضال” ضد ” مؤيدي القذافي”، تقلصت دائرة علاقاتها. ترقص على أنغام الموسيقى وتجرب ملابسها الجديدة وعطورها والنوم. في الجامعة، لطالما حاول المشاكسون والفضوليات الاحتكاك بها إلا أنها أبقت على مسافة عنهم، بنت جداراً بينها وبينهم أجمعين، لكن ذلك لم يمنع البعض من مشاكستها أو محاولة التقرب منها، حاول أحدهم، اتضحت عليه علامات الغنى أن يقترب منها ذات مرة، كان بها لكنة ممزوجة بموسيقى إيطالية وملابس غالية، عرفت كل ” مؤيدي القذافي” أو أبناء الذين شغلوا مناصب قيادية في النظام الذي أسقطته سواعد أخيها البطل الأسد الجن، كان هذا الفتى أحدهم. لم تحمه ملابسه الفاخرة ولا عطوره الإيطالية من أن تجعلها تشتم ذلك التقزز داخلها ناحيته. هاهو يقطع عليها وحدتها التي تستمتع بها داخل الحديقة ليستعرض حمقه عليها قائلاً:
- ما الذي يجعل بيلا مثلك تجلس لوحدها هنا؟
- أمثالك.
تخبره دون أن ترفع رأسها له دون أن تقطع مداومتها على دراسة الأوراق التي بين يديْها.
- هذا الأسلوب لن يزوجك رجلاً.
- أفضل أن لا أتزوج أحداً على أن أحدث المخنثين.
قالت له، شعر برغبته في ضربه، تكسير عظامها أو حتى قتلها، إلا أنه جرجر أذيال خيبته بعيداً عنه يحمل حقداً اتجاهها، كانت الآن أجرأ من تلك المرة التي ردت فيها على الضابط ليلة اعتقالها، أكثر شجاعة وشدةً، كانت تؤمن إيماناً حقيقياً أن أسوء أيامها قد مضى فعلاً، وأنّه لا يمكن بأي شكل من الأشكال لها أن تدخل في تجربة أسوء من تلك التجربة التي عاشتها طيلة أشهر داخل السجن، ما الذي يمكنه أن يفعله أي إنسان لها؟ ضربها؟ ضُرِبت. صعقها؟ صُعِقت. خطفها؟ خُطِفَت. حبسها؟ حُبِست. امتهان كرامتها؟ امتُهِنت. لقد كانت بالفعل أقوى من ألفِ رجل.
الجذر الأول: أوراق التوت.
الثمرة العاشرة.
ولم يكن لدي ما أفعله، أحسست أنّ قدرتي على كتابة قصة واحدة جيدة قد أنهِكَت، مضى شهر لا أرى فيه ضوء الشمس إلا من خلال النوافذ حتى خفت أن تودعني النوافذ، كان لدي كل شيء أريده ولم أكن أملك أي شيء، لم أكن قادراً على الهروب، هذا ما فكرت فيه وهذا ما أفلحت فيه، ما اعتقدتُ أنني أفلح فيه، الهروب… هربتُ من ماضيْ، من ذاكرتي ومن عائلتي إن كانت لدي واحدة، من حياتي كلها. في البيت الأمريكي وطيلة شاهر كانت الكحول والمخذرات وأوراق قصة ملاك تملأ الأرض بعد كل صحو بحبر التوت مكتوبة دون أن أدري من أين تسقط، اعتقدتُ أنها سقطت من العلية، بحثت في العلية ولم أجد فيها سوى صناديق لأجهزة قديمة: جهاز VCR وأشرطة أفلام قديمة، جلد نمر أفريقي، صندوق خشبي نحتت عليه ورقة توت، صور لسيارات قديمة وأناس لم أرهم من قبل، طفل يمسك يد والده وأمه، ” يبدو أنه الطلياني”، لم يكن بالعلية شيء أثار اهتمامي، لا شيء يخبرك بأن الأوراق التي كنت أجدها ملقاة على الأرض جاءت من فوق، ” ربما قد كتبتها وأنا سكران أو مخذر”، لكنني كنت واثقاً أنني لم أكتب أي شيء، ” قد يكون التاجر هو من وضع الأوراق هنا بينما كنت نائماً، كما يضع طعامي وشرابي ويملأ ثلاجتي”، هربت من الورق وخفت كثيراً من قراءتها، هربت من فشلي في قراءتها أو حتى من اعترافي أمام التاجر بأنني لا أستطيع الكتابة، فكرت فيما قد يمكنه فعله اتجاهي، ” لقد أخبرني بأنه لن يساعدني…فلما أجد هذه الأوراق هنا موضوعة على الأرض”، ربما… قد أشفق على فشلي في كتابة قصة واحدة على الأقل من دون مساعدته، يبدو أنه يملك جانباً طيباً وتعاطفاً اتجاهي، لما يتعاطف اتجاهي وهو لم يتعاطف أبداً اتجاه زبائنه؟ كدت دائماً على حافة الجنون بينما أنهي ” الرقم 7″، أصرخ في المكان ليرتد لي صوتي وأحلامي، فكرت في كتابة ما أشعر به، لكن لم أتمكن حتى من إخراج سطر أو جملة أو حرف بما أشعر به، يجب علي أن أضع روحي داخل القصة وأتلمسها وأشكل انحناءاته وخذلانها. أستيقظ منهكاً لأكتب، أواجه بياض أوراقي الخاصة، ترتعش يداي، أمزق الورقة وأرميها صحبة أوراق قصة ملاك، كانت هناك فكرة واحدة تسيطر عليْ أحاول أن أدفعها بعيداً: أحتاج التاجر! أين التاجر؟ لماذا يشل حركتي وإبداعي؟ ما الذي يحتاجه؟ أحاول اكتشاف قصة ملاك لوحدي، ما الذي قد يحدث لفتاة خريجة حبوس؟
بحثتُ عن ملاك داخل المكان، أي شيء يمكنني استخدامه، تُرى يا ملاك، كيف عليْ أن أعرف قصتك الحقيقية؟ هل ما قرأته في كلماتك التي هربت منها هو الحقيقة؟ ما الذي تراه قد جرى لك؟ ولماذا يريد التاجر أن يحكي قصتك؟ سألت الأسئلة جميعها ولا جواب أجده، هل أنا بهذا القدر من الفشل حتى لا أساوي شيئا دون وجوده معي؟ نكرة…أم عظيم؟ ناجح…أم فاشل؟
ورميت ما تبقى من قنينة ” الرقم 7″، أهشم زجاجها على أرضية الغرفة، كانت السلحفاة كالعادة مليئة بالسجائر، الورق الممزق يملأ المكان، بجانب الباب مؤونة الأمس التي جاء بها التاجر، كنت أترصده طيلة شهر ولم أفلح يوماً في رؤيته يدخل أو يخرج، بقيت مستيقظاً لثلاثة أيام أنتظر قدومه دون جدوى، حاولت مرة أن أضع أي فخ له دون جدوى. لم أتمكن يوما من رؤيته في سجني الفاخر، هل كان سجن ملاك فاخراً مثلي؟ حتى في عذاباتي، فإنني دائماً أفضل من الجميع، ربما عليْ الدخول لسجنها لأشعر بما شعرت به، لأتمكن من نقل كلماتها الحقيقية. أملأ فراغ وقتي بالشراب وتدخين سجائر الحشيش والغناء والرقص والصراخ والضحك والهستيريا والسباب ومحاولة محاربة فراغ عقلي والحلم بكل أولئك الناس الغرباء عني يخبرونني بكم قذارتي، لما يسبني غريب ما؟ أستيقظ لأجد المكان مرتباً، نظيفاً كما دخلته أول مرة.
لكنني أتذكر أول يوم رأيته فيه، كنت أبحث عن قصص أرويها بعد أن صدحت في رأسي فجأة فكرة الكتابة، ألحت عليْ دون سابق إنذار، لازلت أتذكر اليوم نفسه، كان الجمعة، لما تفجرت في عينيْ أشعة الصباح تخبرني أنه عليْ أن أصبح كاتباً، أعظم كاتب، حاولت أن أجد تفسيراً منطقياً للرغبة التي ظلت تؤرقني لأيام بعدها لكنها أرادت لنفسها أن تزداد، ومع كل سؤال أطرح على نفسي، تشتعل حتى تحرق رأسي، قيل لي أن الكتّاب يقرأون، اشتريت الكتب متى ما تمكنت من ذلك، قيل لي أنهم يدخنون ويشربون الويسكي ويتحدثون جيداً في أمور الحياة فحاولت قدر الإمكان أن أطبق كافة التعليمات التي تنبثق في وجهي بين الفينة والأخرى دون أن أتجرأ وليوم واحد أن أكتب حرفاً، شعرتُ أنني كاتبٌ فعلاً. وشعرت بأنني كتبت ألف كتاب. اعتدت على ارتياد المقاهي التي يرتادها المثقفون والفنانون لتزجية أوقاتهم، أجلس لأراقبهم. كنت أسترق السمع لأحاديثهم ذات الطابع الخاص الذي يختلف عن أحاديث بقيتنا، أقلد حركاتهم وطريقتهم في الكلام وحشو الكلمات، كيف يدخنون سجائرهم ويشربون قهوتهم وما نوع الملابس الذي يرتدونه، في يوم ارتدتُ المقهى وحدي كالعادة بعد أن ابتعت ملابساً شبهية بهم وقد قررت أن أدخل صحبتهم في حوار وأعرف بنفسي، جلستُ هناك لساعات ولم يأتِ منهم أحد، لعنتُ الحياة الجبانة إلا أنّ حديث شابيْن بجانبي شدني وأنا أجلس لمراقبة الناس، كان حديثهما عالياً بحيث يمكنك سماع كل كلمة يقولانها رغم كم الدردشة الذي يتطاير بين الأفواه والآذان في المقهى الواسع بين المشاة والرواد وزمامير السيارات وزحمة الحياة، قال أحدهما:
- ألم تسمع بحي التوت؟
- ماذا؟
- رجل، يقولون أنه صاحب كرامات. يمكنه أن يحقق كافة أمنياتك!
- تكذب؟!
- صدقني، أحد أصدقائي قد تمكن من أن يتزوج فتاة أحبها بعد لقاءه.
- إنها محض صدفة!
- محض صدفة؟ إن صديقي هذا لم يكن يملك أي أمل في زواجها، لم يكن لديه عمل، والدها لم يوافق عليه مرات عدة رغم كل ما فعله، والده كان أبخل من أن يساعده في أي شيء، وهل تعلم؟ الفتاة لم تكن تحبه بالأساس! بل إنني متأكد بأنها لم تطق رؤية وجهه حتى.
- ساحر؟
- لا ليس ساحراً، إنها تاجر…تاجر عادي جداً.
- حسناً أين هو هذا الرجل صاحب الكرامات، التاجر، المرابط؟
- هاهاهاهاها… هو ليس بمرابط، إنه عادي جداً، شاب مثلي ومثلك، يعمل كادحاً، يبيع لك حلمك أياً كان: الحب، النجاح، التقوى، المخدرات، الكحول، الجنس. هل تصدقني إذا أخبرتك أن أول مرة لي كانت من تدبيره؟ نعم، فعندما سمعت به، سألت نفسي ما الذي أحتاجه فوجدت أن كل ما أرغب به في هذه الحياة هو حنان من فتاة. فلباه لي بكل سعادة، وأنت تعرف بقية القصة، أنا الآن أكثر الذين تعرفهم في معاشرة الفتايات.
- ما اسم الرجل؟
- لا أعرف، ولكن يمكنك أن تجده تحت شجرة التوت بجانب مقبرة الحي، حيث المرابط المشهور سيدي بركة.
وهكذا عرفته، جذبني إليه محيطه، سيارته رغم أنها تبدو مدفونة في التراب ورغم تساقط أوراق التوت وما تحمله الشجرة العظيمة إلا أنها تلمع، الأعشاب المحيطة بالدواليب، الجنة الصغيرة في المكان واللافتة، كان واقفاً تحت الشجرة يغلق باب السيارة، يرتدي جاكت جينز ويملك شارباً كثاً فوق شفته العليا تعطيك إيحاء أنه جاء مع المورسكيين الهاربين إلى ليبيا قبل أن يغوط الأتراك فيها، كان يضع لافتة على زجاج السيارة كتب عليها باللون الأحمر من الجهتين ” مفتوح” و” راجع حالاً”، لفّ اللافتة لتظهر ” راجع حالاً” على الزجاج، والتفت ليجدني واقفاً أمامه، رجل بلا ملامح كنت، أشعر سيجارة وقال لي:
- سامحنا يا حبيبي، سكرنا. تعالا غدوة ونتكملك الجو.
لم يكن به شيء مميز، لا شيء يوحي أنه يتمتع بكرامات، دارت في ذهني ألف فكرة عنه، لكنه كان عادياً جداً، خاب ظني في إمكانيته بتحقيق ما أتمناه أو أرغبه، وبلا شك فهو لم يشبه التجار، ذقنه المستدق والشعر اليوناني الضخم والبشرة القمحية والأنف الفرعوني تعطيك لمحة على ما قد يكون هذا في المجتمع، شاب صفعته الحياة فوجد طريقة للانتقام منها. قلت له:
- ولكني أحتاج لشيء ما.
- للأسف يا صديقي فقد انتهى الكيف لليوم.
- لا أريد أن أشتري شراباً ولا حشيشاً.
- حسناً يا عزيزي، هل ترى اللافتة؟ اقرأ ما هو مكتوب ” راجع حالاً”، عد غداً قبل هذا الموعد وستجدها ” مفتوح”. عندها يمكنك أن تطلب ما تشاء. تم يا حومة؟
- راجع حالاً تعني أنك ستعود اليوم.
- راجع حالاً تعني أنني سأعود متى ما أشاء، والآن… ماذا تحتاج؟
- قصة.
- قصة؟!!
- نعم، أريد أن أكون كاتباً.
سكت، أطفأ سيجارته، طحنها تحت قدمه، ابتسم، فرك شعر رأسه، حملق في وجهي، اشتعل في عينيْه وهج أحمر كأن أحداً يشعل داخلهما محرقة لروحي، أحسست بأنني سمعت صوته داخل جمجمتي يبحث عن هُويتي وكل محطات حياتي، عن آخر مرة دخنت فيها أو أول مرة أحببت فيها أو حتى كرهت فيها، ينفذ داخلي، ثم ضحك وقال لي:
- بل ستكون أعظم كاتب يا عزيزي. تعال تعال ادخل، أشعر بأنني كنت في انتظارك منذ زمنٍ طويل، هيا خش الهامبورغا يا حومة، بالشوية يا سيدي الكاتب علي راحتك، تفضل تفضل… تبي نضيفوك؟ قهوة؟ شاهي؟ دخان؟ بافرة؟ طويسة بوخة؟ قول قول، ما ادورش… الهامبورغا علي حسابك يا عزيزي.
وهكذا، ولج السيارة مجدداً، جلست في كرسي المسافر، أخرج مذكرة مهترئة وقال لي :
- يا صديقي، لقد جئت في وقتك، أعتقد أنّك أنت من يفيدني وإنني أشعر بأنني لن أقدم لك الكثير، هذه قصة أريدك أن تعمل عليها، أضف عليها ما شئت واحذف ما تريد، لدي فتاة أريد أن ألفت انتباهها بها.. أنا لا يمكنني أن أقرأ حتى ماهو مكتوب داخلها، ها؟ لا داعي أن تدفع لي شيء هذه المرة، فقط أكتبها لي.
كذلك قال وربت على كتفي، أخرج سيجارة حشيش، ومدها لي بعد أن أشعلها وقال:
- دخن…دخن، سأراك بعد شهر، إني أرى فيك ما لا تراه في غيرك.
افترقنا، وقفت أشاهده يبتعد عن المكان، ومن ثم يلتفت قائلاً:
- يا حومة، أنت أعظم كاتب منذ الآن، ولد قحبة اللي يقولك غير هكي. هاهاهاهاهاها.
وابتعدت الذكرى والمشهد الذي تلألأ في زجاج الرقم سبعة المكسور أمامي، مخموراً أشاهد حياتي فارغة إلا من مشاهد أخي والتاجر، أحاول التخلص منهما، قبضتي اليسرى تشتد حتى تخترق أظافري جلد راحتي، غناء العصافير في الحديقة خارج البيت ينقر على أعصابي، السائل المتبقي من الرقم 7 يلمع على قطع الزجاج المتناثر على قطعة السجاد المليئة بالأوراق ودمي وبقايا السجائر وبولي الذي قررت أن أنتقم عن طريقه من التاجر. شهر عبثت في المنزل وأثاثها ما أمكنني أن أعبث، وبعد صراع مع الخمر في جسدي تمكنت قدماي أن تحمل جسدي المحمول بالخطايا والعجز والخوف، تهاديت على سكري وتحركت أتبع الضوء الذي لا يهديني غيره إلى طريقي، كنت أختفي من العالم حولي لحظات لأجد نفسي أندفع نحو الباب في ثانية وأحمل كرسياً خشبياً ثانية أخرى، يأتي الظلام، يعود الضوء لألقي بالكرسي، يأتي الظلام ويعود الضوء لأجدني ممسكاً بخناقي، ظلام….ضوء ولكمة أسددها في وجه خيالٍ أرسمه في الهواء، يختفي العالم…أختفي، أعود وأجدني ملقىً على الأرض. أختفي، أظهر راقصاً وضاحكاً ومغنياً. ” زوربا…علمني الرقص يا زوربا”. ” هكذا تفعلها يا سيدي الكاتب، قدم للأعلى، ثم الأخرى، إنها بسيطة إلا أن عقلك لازال جالساً في الكنبة التي خلفتها يشاهد قطع الزجاج وينظر مشدوهاً لانعكاسك فيها صانعاً من نفسك أضحوكة البشرية”، نعم، أتقدم نحو انعاكسي راقصاً، ساخراً من عقلي الملقى على الكنبة، أقفز واضعاً قدمايْ على القطع الزجاجية والسائل الكحولي، يختلط بدم قدماي، أقع على الأرض واللعاب يسيل من فمي، أحدق في السقف وأنادي مغنياً، حتى…حتى رأيتُ شبحها. كان ملاكاً ينظر لي من الأعلى، بجناحيْن ضخميْن، وجه أنثوي لذيذ، ونعومة تمتطي كلماتها.