حبر التوت، اغتيال الفراشات (7/5)


سالم بحرون، سلامبا... الوردي ليس دائماً جميل
لوحة “سلامبا” للفنان سالم بحرون من ألبومه ” الوردي لون كاذب”

الفرع السابع: اغتيال الفراشات.

الورقة التاسعة

” لم أكن حقاً أن يتزوج أخي من وجدان إلا عندما عرفت بأنه هو نفسه الذي قتل صديقه حميد، شعرت دائماً بالغيرة والحقد اتجاهها أنها خطفته منّا أنا وعبدالسلام، حقدتُ عليها، أحسست بأنني سأنتقم منها أخيراً إذا تمكنت من تزويجها بقاتل زوجها، لم أحبها يوماً، كرهتها. عندما فكرت في زوجة ملائمة لأخي لم أجد إلا مرام رغم كل الغرابة التي تكتنفها، لكنّ مرام قد ذابت كقطعة سكر داخل كوب من القهوة كأنها لم توجد أبداً، اختفت تماماً من الحياة، زرت السجن في أحد الأيام لزيارة صفاء وخيرية، دخلت الساحة بعد خوفي لسنوات من دخولها، علمت بأنهن لازلن يقضين آخر أيام إقامتهما صحبة العديدات، رغم محاولاتهن الخروج بشتى الطرق، قمنا بفتح قضايهنّ من جديد لدى المحكمة باعتبار أنّ الأحكام التي صدرت في حقهن كانت من ظلمات نظام القذافي، كانتا جالستين في الساحة، ملابس أكثر شحوباً، ووجوه أقل حياة، كانتا كثمرتي برتقال هاجمها الصيف أو يراقتان لم تفلحا رغم محاولتهما في التحول إلى فراشتيْن جميلتيْن، خيرية الضخمة هزلت وأمكن الآن لرياح الخريف أن تجعلها تطير بدون جهد منها، صفاء، أم تركتها بناتها اللائي اعتدن على الحياة من دونها. الحياة مقرفة حقاً، لا أحمر شفاه، لا عطر الليمون والنعناع ولا الصندل أو العنبر لا شيء غير رائحة الشامبو الرخيصة والعرق والوجوه المليئة بالقبح والتي تفيض بك أن تقذف حياتك كلها قيئاً أمامهما. شعرتُ أنني أريد أن أتقيأ، أكلت صحبتهن كعك صنعته خصيصاً لهن وأكواب من القهوة، كنّا نتحدث في شتى الأمور، قصصنا لي قصصاً جديدة عن السجن وما حل داخله. “الغولة، اختفت في أحد الأيام…قيل أنها قتلت”. قلنا لي، فشعرت بسعادة غامرة. ” أما باقي الشرطيات فقد غدر بهنّ الزمان أيضاً، بعضهن عدنا إلى بيوتهن ولم يخرجن منها منذ ذاك اليوم، ينتظرن المعاش”. ” قيل أنهم سيحلّون السجن أخيراً، قد نعود للحرية في أي وقت، لم يعد هناك الكثير من ضابطات الأمن اللائي يمكن الاعتماد عليهن”، الحضور الذكوري داخله يزداد، سألتهنّ:

  • ما الذي حدث بمرام؟
  • مرام؟ قالت خيرية.
  • من مرام؟ قالت صفاء.
  • مرام التي كانت معنا في الزنزانة؟
  • لم أسمع بمرام أبداً.

 وشعرتُ أنهما تخبئان عنّي الحقيقة، ربما قد ماتت مرام داخل السجن، في النهاية لم تكن تحب أخاها، سمعتُ بفتيات كثيرات لفظهتن عائلاتهن بعد أن تعرضن للاغتصاب في سجون القذافي، هل تعرضت مرام للاغتصاب دون أن أدري؟ لكن كان لدي ذلك الإحساس أنها حية، لم أعلم من أين تأتي كل تلك الأحساسيس، لكني شعرت دائماً بأنها لحم ودم ومزاج وحكايات وحياة لازالت تمشي في هذه الأرض، قد يكون السجنانون الجدد يمارسون نوعاً من الوحشية اتجاه السجينات، فقتل الغولة نفسه يعطيك هذه الفكرة الراسخة، سيتعين عليْ أن أخبر عبدالسلام بمقدار الوحشية داخل سجونهم الجديدة، لكن ما الذي يجعل صفاء وخيرية اللائي عرفنني وعرفن مرام أن ينكران وجودها، هل…أنا الوحيدة التي كنت أراها؟ هذا يفسر غرابتها، قد أكون أنا ذاتها مرام. أو أنّ مرام هي الجن العاشق لي؟! احتلت مرام جلّ تفكيري لأيام، زوجة أخي المستقبلية قبل أن أفكر في وجدان، كان هناك شخص واحد يعرف كل شيء عن الجميع، ذلك الذي احتل شجرة التوت. لابد أنه يعرف أين ذهبت مرام، زرته مرة.

  • أخت العزيز والعزيزة، زارتنا البركة، سامحيني والله لو كنت عارف إنك في احتمال تزورينا تحت الشجرة لقمت بتزيين المكان لأجلك، اعذريني على وقاحتي، آسف جداً… تفضلي تفضلي.

ونظف كرسيه لأجلي، جلستُ أنظر للمكان الذي تغير تماماً، في يوم من الأيام كنت أنتظر من حميد أن يلقي بالتوت في ثيابي من فوق ذاك الغصن،والآن أركن سيارتي بجانب سيارة هذا “الشيء” وأتحدث صحبته، حاولت البحث في وجهه عن وجه أعرفه لكنني لم أجد له مكاناً رغم معرفتي بكافة أبناء الحي الذين عاشوا فيه وكبروا ليصبحوا شباناً، أباءًا، رجالاً ويملكون حياة أخرى غير اللعب والدراسة والمرح، كان غائباً وجوده عني، كأنه نكرة لم أفقه لها لكن مع ذلك فهو الآن أشهر من سيدي بركة ذاته. التوتة، تنضح منها رائحة غريبة عليْ، الحياة حولها غريبة علي، الحي نفسه غريب عليْ.

  • شن تشربي؟ شن رايك في شاهي بالنعناع، عارف إنه مش من مقدارك لكن الله غالب، عارفة وضع البلاد….سيولة مافيش، ضحك مافيش، عيشة مافيش، وحياة مافيش. تفضلي تفضلي..

وجاء بكرسي جديد لنفسه، وجلس ومضى يشرب كأسه ويحكي لي عن الحياة في الحي، ما الذي تغير، من الذين ماتوا والذين تزوجوا والذين لبسوا لباساً جديداً، (( وبالطبع، الرائد عبدالسلام… ربي يحفظه، رجل مش زي باقي الرجال، ربي يحفظهولك هو اللي)) صيّن الطريق المكسرة في الشعبية، وعبدالسلام هو الذي رصف ما تبقى من الحي، كما أنه أغدق مالاً كثيراً في إنارة الحي وبناء حديقة جميلة للأطفال في الساحة الترابية القديمة، كما أنه ساهم في صيانة المدرسة وشراء مقاعد جديدة للأطفال، عبدالسلام أحس دائماً أنه ابن حي التوت رغم ابتعاده عنه، رغم محاولاتي انتشاله منه إلا أنّه قام بصيانة منزلنا القديم وتحويله لروضة للأطفال، كان لابد له أن يزور الحي يوماً في الاسبوع يطمئن فيه على حال الناس. كان عاطفياً بشدة فيما يخص هذا الحي القذر، (( ربي يحفظه، دائماً ما يمر عليْ فهمتي كيف؟)) ويخبرني عن علاقته بأخي بصوته النحاسي المزعج والقميء، تلك العلاقة التي ” لا تخلوها شائبة” وهي علاقة ” احترام متبادل”، (( ويوصيني على الحيْ)).

  • المهم، تفضلي يا أختي ملاك… باش نقدر نساعدك؟
  • الحقيقة.
  • حقيقة ماذا؟
  • حقيقتي.
  • حقيقتك أنتِ إنسانة فاضلة ويتمناك ألف شاب.
  • لم آتِ لأسمع كلماتك الأفعوانية، خلي عليك المجاملة والنفاق ووفرها لزبائنك، ألم تكن أنت الذي تشاكسني في ممرات الجامعة؟
  • أنا؟ أعوذ بالله إن قمت بأي فعل يخل ببنات حيي.
  • بنات حيك؟ أنا لا أتذكرك ولا أجد لك مكاناً في ذاكرتي. من أنت؟
  • أنا ولد التوتة، أنتِ تعرفي إنّ جدي بركة ربي يزيد بركاته، يا سيدي بركة…. حرك الغيم وأسقط علينا المطر، أثقب غيم الله وشركه.
  • الجميع هنا ينسبون أنفسهم لبركة الشريف وحواء الهلالي.
  • هل أخبرك الرائد عبدالسلام بما حلّ بصديقه عبدالحميد؟ الله يرحمه وخلاص…اللهم لا نسألك إلا حسن الخاتمة.
  • الله يرحمه، إذاً هذه ألاعيبك التي تلعبها على الناس؟ نعم لقد أخبرني.
  • ألاعيب؟ أعوذ بالله من أن ألعب. هل تقولين لي أن الرائد أخبركِ بأنه هو الذي قتل حميد؟
  • ماذا؟
  • هذه الحقيقة يا أختي ملاك. وحقائق أخرى أيضاً إن كنتِ تريدين معرفة المزيد.
  • لا شكراً، تفضل.

وأعطيته ما يجزونه عليه، ما يتغذى ويعيش عليه، مليئة بالتقزز، الخوف، الكراهية، لقد حطم أخي أجمل إنسان عرفته في حياتي، الحب الذي قدر علي أن أتخلى عنه دون أن أتحرك اتجاهه، الرجال، أكثر الكائنات مدعاة للاحتقار، إنهم جبناء وخداعون، يمكنهم أن يجروحك بدون أن يرف لهم جفن، الخونة، الحمقى، التافهين، الجشعين، أسوء ما خلق له. أنانيون بطبيعتهم، وحوش ومتوحشون، كيف سمحت لنفسي بأن أثق به؟ أن أشعر بالآمان عندما يكون حولي، لم أفكر أبداً أن كل ما صنعه لأجلي كان فقط ليبعدني عن حقيقته. اندفعت داخلة لغرفتي أبحث عن سجن لي وحدي أبكي فيه، رأيتها هناك. كانت جالسة على سريري، مبتسمة بكامل غرابتها، مرام! أين كنتِ يا مرام؟ ارتميتُ في حضنها، وبكيت، أروي جسدها بدموعي وهي تربت على جسدي الهزيل، لا تخافي أنا هنا لأجلكِ، كنت هنا لأجلكِ منذ طفولتك يا عزيزتي، ابكِ يا فتاة لا تخافي سننتقم منهم جميعاً، سنجعلهم يندمون أنهم أرادوا دوماً جرحنا. وغشاني النوم بينما كانت تمسح على شعري. عند عودتي للواقع مجدداً، في ذلك اليوم اختفت مجدداً، ارتجفت، أين ذهبت؟ كيف دخلت لبيتنا؟ أين هي؟ هل هي شبح؟ لا يهمني، فلتعود لي ولن آبه بكونها شبحاً أم حقيقة، فأنا أعيش حياة الأشباح والأوهام منذ طفولتي، صحبة أخٍ لم يعطني حبه أبداً وحقد على حماقة واحدة قمت بها اتجاه توحشه، حقد عليْ فقط لأنني قمت بردة فعل اتجاه تسلطه الذكوري، الرجال متعفنون. استيقظت أناديها أن ترجع لي، أن تجعلني أبكي في حضنها ولن ارتاب أبداً من ما تفعله بجسدها.

  • نعم يا أختي ملاك، أخوك هو الذي قتل حميد ولدي ما يثبت ذلك. إقرئي هذه المذكرات، إنه هو نفسه الذي أعطاها لي بعد عودته من الحرب، وستجدين اعترافه بذلك، لم أرد أبداً فضح الحقيقة، لكن أنتِ عارفة، لا يمكنني أبداً أن أرفض طلباً لكِ.
  • ما الذي تقصده؟
  • لقد جئت في أحدِ الأيام أطلب يدكِ للزواج، أيام كان حميد حياً قبل زواجه. أخبرتِ والديك أنكِ لا تريدين حتى مقابلتي.
  • لم يتقدم لي أحد في حياتي أبداً.
  • هل تعتقدين ذلك يا مرام؟ آسف أقصد يا ملاك؟
  • ماذا؟ مرام؟
  • آه، نسيتي اسمك؟ غريب… مرام الرائد، أخت عبدالسلام الرائد. أنتِ؟
  • اسمي ملاك!
  • نعم في مصلحة الأحوال المدنية ومصلحة الجوازات ومنح رخص القيادة، لكن ألم يسميك والدك مرام باسم أختكِ التوأم التي ماتت عند أول أيام وجودها في الحياة؟ إنني أتفهم شعوره تماماً، بعد أن سجل اسميكما في كتيب العائلة تموت أختكِ هكذا، لكنه ظل يناديك مرام لسنين حتى عاد له عقله ليناديك ملاك. ملاك، مرام…مرام، ملاك. لقد دوخ العجوز العائلة بأكملها عن من تكونين. الأيام تجري كالخيْل!! لقد جعلكِ تصدقين وأنتِ في الرابعة من عمركِ أن اسمك مرام وليس ملاك حتى تعلمت في المدرسة أنّك ملاك، لكن يبدو أنّ أختكِ لم تمت في النهاية.
  • ماذا أنت؟
  • أنا مجرد رجل عادي جداً أعرف عن الجميع أكثر من ما يعرفونه عن أنفسهم، أحياناً.
  • لا أريد رؤيتك مجدداً.
  • كما تشائين يا مرام، لكنني أشك في أنه يمكنكِ فعلاً أن تتخلي عنّي…. هاهاهاهاهاهاها آه نسيت، يسلم عليك الضابط.”

الورقة العاشرة

يتسمر الوقت، يُدّق في جسدك لتمر مشاعرك شديدة كطوفان نوح وينحتُ أوشاماً في روحك بالمياه العكرة، في لحظة تجلس على قمة جبل تشاهد العالم وتعتقد أنّ كل ما تراه من أشجار، حيوانات، سيارات تمر في الطرقات تحتك، المنازل، البشر وغناء العصافير هو ملكك الشرعي، يتهشم الجبل ونتثر كهباء النار فتنفخه الريح لتجد نفسك في القاع، في الهاوية… لحظة السقوط تمر عليك أثقل وأكثر شدة من مليون لحظة ارتفاع، وتنتبه أنّك أصبحت ملك الدود الذي ينخر عظمك، التراب الذي يملأ عينيك والوساوس أغاني العالم السفلي الوحيدة. لكنّ الأمر يصبح أكثر منطقية، تسلسل أحداث حياتك تصبح أكثر منطقية، ما تسميه ” حظك العاثر” يصبح منطقياً جداً وستظن أنه من الإجحاف أن يكون حولك كل أولئك الناس وأن تحدث لك كل هذه الأحداث ولا ينتهي الأمر بجسدك يرتعش رقصاً على وساوس روحك تحرضك على جرح نفسك. وهذا ما مرت به ملاك، التحمت أخيراً بذاتها، تكورت داخلها كرة من الارتياح الرخيص الذي جعلها تضرب بنفسها آخر الضربات في مسمار الوقت ليكسر حائط الأوهام التي عاشتها منذ طفولتها، هكذا أحست. انتظرت ذلك اليوم والذي يليه أن ترى مرام مجدداً، بحثت عنها في منزلهم القديم الذي تحوّل لروضة أطفال، دخلت غرفتها القديمة. لم تجد سريرها ولا خزانة ملابسها ولا أي من دماها، كانت مجموعة من المكاتب للعاملين في الروضة، بحثت في الجدران عن ذكرى قد تختبئ لها لكن اللون الزهري النافذ للجدران جعلها تتراجع، لقد مسحت آثارها كاملة من الغرفة، لا الطلاء، لا الأرضية، لا السقف ولا حتى النوافذ تشبه نافذتها، في الجنة التي تفتح عليها نافذتها كانت في الماضي شجرة ياسمين تخترق الجدار وترتفع دون حشمة لترمي بأزهارها في الربيع على الأرض، اعتادت دائماً على فتح نافذتها طيلة الربيع ليلاً ونهاراً. الآن، الشجرة قد اجتثت من الأرض، كانت الشجرة عائقاً أمام توسعة الروضة واحتلت مكانها ألعاب أطفال. هكذا أخبرتها إحدى المدرسات التي رحبت بها بعد أن عرفت أنها أخت الرائد عبدالسلام، شعرت بحقد شديد اتجاه أخيها.

وتذكرت الفتاة التي همست لها بأن تتشجع لتحكي قصتها، لقد كانت هي ذاتها مرام. ” نظرت له ” والحذاء؟” بينما كان ينام هناك في سلام دون أن يكترث لوجودي. أخبرتكِ أنّك فراشة، لهذا يا صديقتي… لهذا، تغتالين بسهولة”. إنها ذاتها هي التي تعرضت للحادثة مع الرجل العجوز، كيف أمكن لعقلها أن يمحي كل ذلك؟ يدها وتتلمس عضو الرجل، وهي تلاعب نفسها في السجن، الجن العاشق، تخيلاتها التي تراها ورغاباتها التي تلقي بها في وجه الجن العاشق. إنها كانت هي دائماً، على الأقل عندما تكون مرام، ما الذي حدث لها بالضبط؟ كرهت نفسها، كيف ستعيش مجدداً بعد أن عرفت كل شيء عن نفسها، إنّ التاجر خبيث لكنه صدمها كما أرادت بالحقيقة. قالت لنفسها. ربما تكون قد اختلقت كل شيء لتستمر في الحياة، قد يكون عبدالسلام يكرهها ويحقد عليها فقط لأنها كانت سبباً في قتل أختها التي سكت الجميع عن ذكر أنها وجدت ذات يوم. لكن كل الذي مرت به هو مجرد بداية، ستذهب يوما ما للجامعة، وسيختطفها الطلياني، وسيغتصبها بكل الطرق التي تترأى له. هشةً كانت، سيلقي بها كالجاكيت خاصته ويرميها على الأرض، يمزق عبايتها، تحاول المقاومة لكنها كانت ملاكاً أبيضاً، ينزع عنها سروالها، تحاول الهروب منه إلا أنه يرتمي بجسده كاملاً عليها ليضغط عليها، يمسك بخناقها فتضعف، ينزع قطعتها الداخلية ويدخله فيها، يضغط بيده على يديْها فيربطهما ويقبلها حيث يشاء، تبكي، صرخت تنادي مرام، شعرت دائماً أن مرام هي الجزء القوي من شخصيتها، عندما دخل فيها انهارت، بحثت بعينيها في الزاوية المقابلة لها لم يكن بالغرفة أي شيء سوى الفراش الذي ينتزع منها كقشرة موز ما تبقى ليحميها، كان هو يتنفس في انحاء جسدها، يمرر لعابه على نهديْها وجيدها، كانت هي جثة يغادر الضوء عينيها، كان هو يضغط ويهرز ويخترقها أكثر فأكثر، تخذرت… لم تعد تشعر بالألم، لا شيء. فراغ كامل.

لقد سقطت، بغضت جسدها وكونها أنثى، تحولت لوجبة من اللحم المدهون بمربى التوت أمكن للطلياني أن يتذوقها أنَ أراد وبأي طريقة أحب، إنها داخل الغرفة يتخللها برد الروح القارص محفوظة بعناية كقطعة من اللحم خوفاً عليها من التعفن، قطعة لحم بقر كبيرة لا تكتمل، بقرة بيضاء فاقع لونها تسر الغاصبين، لم يعد يهمها إن غطت جسدها بعد أن يغادر، نفثت عنها يديْها وفخذيها ونهديها وجيدها وابتعدت بعينيها إلى الزاوية ملقية دون حراك، لم يرحمها النوم. الجفاف يكسو لحمها. لم تتذوق لأيام ثلاثة وجبة من الوجبات التي يمررها لها الغاصب ولم تشرب ولو قطرة واحدة من الماء. أرادت أن تغادرها الحياة ببطء وهي تتخلى عن أفكارها الواحدة تلو الأخرى، ” لا يمكن للإنسان أن يقتل نفسه بالاختناق” وإلا لفعلت. لقد خانتها مرام، اعتقدت أنها المنقذ الوحيد لها داخل السجن، هاهي في زنزانة أخرى وحيدةً، لا نساء حولها ولا صفاء ولا خيرية، اختفت صورهما من عينيها، كأنهما شبحان آخران مسحا بمحاية مدرسية من طفلة تدرس في روضة أخيها بقسوة، لا أحد معها ليحميها من نفسها. لا أحد سوى الرجل خلف جدران الغرفة يغني، يستمع للأغاني الإيطالية، يرعبد ويضحك، تسمعه أحياناً يحادث رجلاً آخراً عن طريق الهاتف، يغلق باب المكان ويختفي ليعود بعد ساعات لها مجدداً، تسمعه يتحرك في العلية. يدخل مجدداً ليمارس وحشيته في جسدها، يصفعها، يضربها، يعضها، ينيكها، مرة بالخضار، ذات مرة أدخل مسدساً فيها وقال لها ” ما رأيك بأن أطلق الرصاصات التي فيه؟”، استعملها معها كافة الطرق للاغتصاب ومن ثم يخرج ليقفل الباب. ماذا تبقى من اللحمة لينتهي من طبخها كاملة أو تتعفن، يجف ينبوع دموعها، تتقصف أجنحتها وتبحث عن مرام، الخائنة. أين هي؟ أخيراً، نامت بعد أيامٍ ثلاثة.

فتحت عينيها، عادت. شعرت بأنها إنسانة أخرى، بحثت في ظهرها عن أجنحتها، وجدت ريشاً أبيضاً يملؤ الغرفة تتخلله ريشة سوداء، انتزعت ريشة من جناحيْها، كانت سوداء، إنها مرام مجدداً. ابتسمت، تمكنت أخيراً من أن ترى يديْها وتتحرك، كانت هناك وجبة ملقية على الأرض وعبوة مياه، تحركت ناحيتها بسرعة والتهمتها. أخذت قماش الملابس وغطسته بالماء، وظلت تمسح جسدها كأنها تغسل عنها خطايا كونها أنثى، اسودت عينيْها، اسود كل ما فيها. شعرت بثقة تتدفق داخل دمها، الآن لن تكون أنثى ضعيفة مرة أخرى، ستجعلهم يندمون لأنهم وجدوها فراشة سهلة الاغتيال. مزقت كل ما يجعلها متصلة بنفسها، حان وقتها للهجوم. عندما دخل هذه المرة كان مخموراً، نهضت نحوه وقبلته، نزعت عنه سروال وأمسكت بيدها زبه، في البدء كان سيضربها إلا أنّه أرخى دفاعاته، تأوهت، أخبرته بما ستفعل له، تحدثت كعاهرة خبيرة في أذنيْه، تمكنت منه. هاهو سعيد، يضحك، رائحة الخمر تنبع من أنفاسه، رمت بجسده على الفراش، أمسكت بزبه مرة أخرى، ضربته في خصيتيه، لمت ملابسها وأسرعت نحو الباب لتغلق الغرفة عليه.

ارتدت ملابسها في الصالة، بحثت عن مفاتيح سيارته، وجدت مسدساً على الطاولة الرخامية التي تفصل الصالة عن المطبخ، أخذته، أخذت المفاتيح وخرجت تبحث لنفسها مفر. تحررت، شعرت بنفسها تحلق بجناحيْها، كانت فتاة داخل سيارة فاخرة تجري بسرعة جنونية. لم تجد بُداً في الهروب إلى أيْ مكان، لا تلوِ على اتجاه. كنت تحس بأن عصابة من الكلاب تجري وراءها وهي تسرع، ينهال على أذنيْها نباح الكلاب، لم تتمكن من رؤية المرايا، خافت أن تبحث فيها لتجدها يجري وراءها. توقفت سيارتها تحت شجرة التوت. دخلت السيارة المركونة منذ الأزل تحتها.

 

Leave a Comment

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Twitter picture

You are commenting using your Twitter account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s