
الورقة الحادية عشرة
- ما اسمه؟ هل أرسلته أنت؟
قالت له، كانت تمسك المسدس وتصوبه في رأسه، ضحك. كان دائماً ما يضحك، شعرت بالغرابة اتجاهه، رفع يديه عالياً وأخبرها بأنه فخور جداً بها وأن أخوها سيكون فخوراً أيضاً إذا شاهدها الآن تصوب مسدساً في رأس رجل، إنها قوية، حاولت السيطرة على ارتعاش يديْها، وأرغمته على الحديث، أخبرها بكل شيء، باسم المدعو، بالخطة التي ابتدعها هو. ” لا يوجد شيء شخصي بيني وبينك، وإياك أن تفكري بأن السبب هو أنك رفضتني، لا بالطبع. إنه البزنس فقط”، وأخبرها بالبزنس والاتفاق الذي بينه وبين أخيها وأنه فعل ما فعله فقط ليرغمه بالخضوع له. أنها مجرد أداة وشخصية ثانوية في اللعبة، رفعت المسدس عن رأسه لكنها سددته نحو فخذه ودون أن تشعر أطلقت رصاصة.
- هاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاها، اوووووووووه….ووووووه! درتيها… هاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاها، آه، شوفي الدم؟ هاهاهاهاهاهاهاهاهاها، حتى عبدالسلام الرائد بذات نفسه ما تجرأش يديرها ويطلع من جسمي بقعة دم واحدة حتى لو بنخصة، هاهاهاهاهاهاهاهاهاها تحياتي… اسمعي، شن رايك في أفاري؟
- أنا ما نلعبش مع الحشرات أمثالك.
- كلنا حشرات، أنا صرصار مزعج ويبدو حقيراً وتافهاً وأنتِ فراشة يا مرام. اسمعيني، خلينا نمسحوا الماضي… أعتقد إني استهنت بقدرتك، اقتلي الملاك وخلينا نبدوا صفحة جديدة مع بعض. ها؟
لم تعد كما كانت، لم تدري ما الذي ستفعله بحياتها، لن تتمكن بعد الآن أن تضع وجهها في وجهِ أخيها، فإن نظر لها بشيء من الاحتقار عندما خرجت من السجن فإنه حتماً سيراها بحقارة تامة الآن، أين تهرب؟ أين تذهب؟ أين تختفي؟ ما الذي ستفعله؟ الحل الأمثل لها هو أن تموت، أن تختفي من هذا العالم، لكن بها رغبة عارمة وثورة هوجاء في أن تنتقم من كل الذين استغلوها ومضغوها كالعلكة وألقوا بها للمرحاض، إنها تريد أن تمتص غضب العالم بأجمعه وتطلقه عبر هذا المسدس الذي رمته بعد أن أطلقت رصاصته في فخذ الرجل الذي يتألم أمامها، شعرت بلذة، بأن تجد الرجال ينحنون ويتألمون أمامها.
- سأحضر لكِ الضابط، سأجعله يستجديك. يقبل قدميْك، سأحضر لكِ كافة الذين جرحوك في ذلك السجن، هل تريدين جثة فاطمة الغولة؟ سأخرجها من أجلكِ من التراب، آه…اوه، هاهاهاهاهاهاهاهاهاهاها، يجب عليْ أن أتصل بطبيبي الشخصي. هاهاهاهاهاها، صحبتكِ يمكنكِ أن تنتقمي من عبدالسلام الرائد وأنا أرتاح منه للأبد، ما رأيك؟ هذا كل ما أطلبه منكِ لا شيء آخر….ما هو قرارك يا مرام؟
الجذر الأول: أوراق التوت.
الثمرة الثانية عشرة.
- هيه يا صديقي، يا عزيزي… أيها الكاتب العظيم، وين رحت يا حومة؟ تي وين تبخرت يا راجل، اصحى يا نايم وحد الدايم.
دارت بي الأرض، لف رأسي كزربوط حركته يد القدر، الضوء يندفع نحو عينيْ مليئاً بالدخان المنفوث بالسجائر، أغانٍ وموشحات وألف قصيدة رديئة ووجوه لمست وجهي، طرق المسماري آخر مسامره في رأسي عندما وجدت نفسي داخلها مجدداً، الهامبورغا تحت شجرة التوت تتجذر عجالاتها داخل التربة التي تمتص دم الولي الصالح منذ مئات السنين. نظري عُجَّ بالضباب، أعاد كلماته ثم نفث قهقهاته التي تشبه الموجات التي تخرج من ناي راعٍ يستظل من الأيام بشجرة في منتصف الحقل ينظر لقطيعه.
- أين أنا؟
- أنت حيثما أنت؟ ألا تعلم بأنّ قدماك قد أنبتتا جذوراً عندي؟
- أنا…آه. رأسي.
- لعبت بك الصفراء! هاهاهاهاها
- ما الذي حدث؟
- لم يحدث شيء يا عزيزي، كنّا جالسيْن في الهامبورغا أحكي لك قصة الطلياني، ثم اختفيت من المكان ونمت، لم أشأ أن أوقظك فجعلتك تنام في الهامبورغا ومضيت لبيتي. والآن، الصباح… ما أحلى الصباح، تفضل، هل تريد سيجارة شرعية؟!
- لكننا ذهبنا بالهامبورغا إلى مزرعة الطلياني، وأدخلتني في بيته وقضيت أشهراً فيه أتعرف على قصة ملاك.
- هل تريد أن تخبرني بأن الهامبورغا تحركت أخيراً؟ هاهاهاهاهاها الصنف الذي دخنّاه بالأمس يبدو رهيباً، سأشتري منه كميات ضخمة.
- هل تقول لي أن لا شيء من ذلك قد حدث؟
- ما الذي يهم؟ إن كنت قد عشته كأنّك تعيشه في هذه الحياة، إن كنت قد شعرت بمذاق الطعام كأنك تأكله حقيقة، إن كان دفء النهود ولذة الكس في الحُلم، الوهم، الخيال أو سمها ما شئت هي ذاتها التي تشعر بها هنا عندما يكون جسدك لحم ودم، ما الذي يهم يا عزيزي؟
- اعذرني… لا أشعر بأنني بخير، يجب أن أعود للبيت.
- البيت؟ هاهاهاهاهاهاهاهاهاهاها هل حقاً عليك العودة؟
- نعم أعتقد ذلك.
- لديْ قصة رائعة، ستكون الأخريات أمامها كالجُبن أمام البيض. أنت تعرف أن البيض يتغلب على الجُبن صحيح؟
- لا أظنني أرغب في كتابة شيءٍ ما اليوم. أكرر أسفي لك، أشعر كأنني سأقذف مخّي على أرضية السيارة.
- ستندم، لن يسرك ما ستراه خارج هذه السيارة يا عزيزي، دعنا نكمل مشروعنا العظيم وسأضمن لك أنّك لن تحتاج لبيت، ستغوص في بحر من جعة برلين، ستملأ جسدك بعطر الأفخاذ المتلهبة بالفلفل المكسيكي، هيا… لم يتبقى إلا منتصف المسافة.
- يمكن للكتابة أن تنتظر، أريد فقط الخلود للحياة.
- حسناً، ولكن…اسمعني، حالما تخرج من هذا الباب، لا تأتي لي باكياً… سأتمنيْك عليك كما تمنيكت الدنيا.
- لا بأس، من حقك… الآن، إلى اللقاء.
- بالمناسبة، هل تخبرني أين يقع بيتك؟
- آه…إنّه، إنّه. نعم إنّه هناك.
- هاهاهاهاها إلى اللقاء يا حومة. إلى اللقاء.
ومضيت يبتلعني الطريق، يضيعني حيث أضعته، مرت في عظامي فكرة تخبرني أنّ لا بيت لي، حي التوت. لم يعد كما أتذكره إذ دخلته أول مرة، الناس يتسوقون، يتحركون، يتحادثون، ملابسهم متلطخة بأدران أرواحهم، إنّه السرطان، إنني مصابٌ بسرطان الحياة، السرطان يسري في نسيج مخيّلتي، البلاد مصابة بالسرطان، لقد تمكن المرض منها، إنّه الخبيث الذي انتشر أكثر من الطاعون الذي أصاب المدينة قبل مئتي عام، لكنه الآن لم يصب الناس في المثانة، الصدر، الرئة، الكبد، الحنجرة، الدم أو الجلد. بل أصاب المدينة بأكملها، أصاب حي التوت في دمه، الأشجار أوراقها شاحبة، الهواء غُمِسَ داخله الكبريت، المجاري دافقة بالقمامة البشرية، والمدينة أغانيها الوحيدة هي الأعيرة النارية، الطرقات، الأسفلت، المرشابيدي، المحلات والمقاهي كأنها مارست جنس المحارم مع بعضها البعض وأخرجت كائنات معاقة، قبيحة، الإناث… رأيتهن عاهرات، الشباب…رأيتهم وحوشاً أو مختلين عقلياً، الخراء. تحسست وجهي وأنا أمتص الوقت أراقب أزقة الحي، وجوه… في كل طوال القامة رأيت الجريمة، في كل الحمقى والمغفلين رأيت رجل الحاوية، وفي كل المتزوجات رأيت حياة. الملتحين…كانوا كلهم سيوفاً للدولة نظراتهم تقطع رقبتي، بحثت عن بيتي، تحسست جيبي. كان به موبايل مغلقاً، هل هو جهازي النقال؟ كنت قريباً من حديقة الحيْ، جلست وحيداً في أحد الكراسي التي على الأرجح قد تبول عليه أحد السكارى أو حتى الفاسدين بالأمس. فتحت الجهاز، جاءتني عشرات الرسائل النصية، فتحت إحداها، ” هل أعجبتك البضاعة؟ أنا… اوه، يا حومة… لازلت أرتعد من ليلة الأمس من شدتها! هاهاهاهاها”، هل هو التاجر؟ لا، اسم المُرسِل كان واضحاً ” الـفرعون”. قد يكون التاجر ذاته، رأسي يتشقق، يمكنني الآن أن أقبل بأن يقطع الشيخ بلال رأسي على شرط أن يجعل جسدي يحيى ويعيش بدون رأس، سأكون الرجل بلا رأس. اتصلت بالرقم، خرج صوته من السماعة:
- آه حومة…وين؟
- من معاي؟
- هاهاهاهاهاهاها العشبة أكلت دماغك.
- فرعون؟
- لا خدّامو سعادتك، ما رأيك في البضاعة؟
- أي بضاعة؟
- هاهاهاهاهاهاها هل نشتري منها المزيد، يجب أن تمر عليْ العشية… فقد فرغ كل ما في جعبتي منها.
- حسناً.
أين كنت؟ كان الجو خانق، كان عليْ أن أمشي 666 ميل على الحصى القاسي والديدان تحبو على أصابعي السوداء المتقطرة دماً، تتساقط كرمل من أعلى شعري المجعد، فراغ أثقل من الأرض في جوفي وعيناي عجزتا عن الرمش، عظام الفك أصبحت واضحة بعد أن غطاها الشحم، أبدو كأحفورة مضى عليها ثلاثة أشهر لازلتُ محفتظاً بالمهم، قضيبي وأنف أتشمم به الرائحة الخرائية العابقة بالمكان، ولأول مرة يصبح البراز عبقاً وذا رائحة حلوة، أو أحلى من غيرها، كنت رفقة أحد القديسين، كان طول الطريق يحدثني عن الله وجمال رحمته وفي كل مرة كان عليْ أن أقذف جزءًا من أحشائي، كانت سحنته السمينة التي ضاقت بها ألواح قبره قد صنعت له بزة توحي بكائن قد عاش حياة الرفاهية، كان كلما أراد أن يتقيأ تخرج من فمه سمكة تقفز في الماء العكر للبرك على جانبيْ الطريق الموحش، كان هناك غراب ينعق خلفنا محلقاً حول شجرة ميتة والشمس تحتضر إذ لا تراها سوى بقعة بيضاء شاحبة في السماء الكالحة، كان صديقي يهدج بأدعية وصلوات مللت سماعها ولأكسر بعض الملل قلت له:
- هيه أنت، ما اسمك؟!
- محمد، كاسم الرسول، وأنت؟
- محمد، كاسمي.
- إذاً هل أنت ذاهب إلى الأعراف مثلي؟!
- الأعراف؟! لا أعتقد ذلك، إننا نتجه إلى الجحيم يا صديقي. خرجت مني ضحكة استهزاء، كان لونه الأصفر قد بدا أكثر اصفراراً، صمت قليلاً، ظننته يفكر في الكيفية التي وصل بها إلى هذا الطريق الوعر صحبتي.
- جهنم؟ ولكني كنت أصلي ولا أحب الشراب ولا أضاجع النساء.
- آه، من سوء الحظ!
- ربما هي الطريق ذاتها التي تؤدي إلى الأعراف.
- سنرى…
ثم صمتتُ قليلاً وقلت له:
- ولكن لماذا لم تأخذ المصعد للجنة؟
- قال لي الحارس هناك أنّ علي أن أقطع هذه الطريق إلى الأعراف لوجود مشاكل في ميزان حسناتي وسيئاتي.
- قد يكون إبليس.
- من؟
- الحارس!
وكان عليْ أن أنصت له طول الطريق، كان واثقاً أن الأمر سينتهي به في مكان ما جميل، به من الشراب والنساء ما قد حرمه على نفسه، ولكنه لا يعلم ما إذا كانت الجحيم جميلةً أم لا، قد يجد أصدقاءً له أو حبيبته التي لطالما أنكر حبها، كان به شبه غريب بي إلا أن الشحم هو ثقله لا الفراغ، الطريق إلى الجحيم هي ذاتها في كل قدم تقطعه، وكأنك تتحرك داخل صورة تتكرر، غراب يحوم حول شجرة ميتة وينعق وشمس تحتضر وحصى وديدان وبرك ماء كريهة على جانبيْك، ولافتة مكتوب عليها ” إيفكو الجحيم، على بعد 666 ميل” وكنت لن تحس بالوقت، لا أدري ما إذا كان صديقي يشعر بمرور الوقت ولكن الأمر غير مهم.
- إذاً، من أين أنت؟ سألني رفيقي.
- ليبيا، أجبته دون اهتمام.
- لا يعقل، أنا أيضاً ليبي.
إذاً هذا هو الجحيم، أن تشارك الطريق مع ليبي طيلة الـ666 ميل.
وأجبته قاطعاً أي محاولة لتكوين حوار مطول.
- آه، هذا جيد!
- أتعلم، هناك شيء بك يشبهني!
- نعم، كلانا ميت!
- لم أعد أشعر بالهواء، هل أتنفسه؟ لا ملمس أصابعي ولا حتى مذاق لعابي.
- لم أعد أشعر بقضيبي.
الجميل في هذه الأرض أنه يمكنك التحدث كما تحب، مهما كان الرجل الذي ترافقه، انقطعت عنه أفكر في مدى الحرية التي أتمتع بها الآن، يمكنني أن أهينه كما أحب، بل وأن أصدمه بأن سنين الصلاة والبعد عن الشراب والنساء لن تفيده لأنه سيحترق مرة بعد أخرى حتى اللانهاية، ولن يستطيع فعل شيء حيال ذلك.
- أتعرف؟ لستُ نادماً لأن الله يريد لي أن أزور جهنم، ربما قد صنعت شيئا سيئا في حياتي.
- بالطبع قد صنعت الكثير من السوء، إنك لم تجرب حتى طعم البوخة أو القبلة.
- ماذا؟!
- إن الذين يدخلون الجحيم هم الخاطئون في حق الحياة!
- وأنت؟
- أنا؟ ذاهب بإرادتي، لأرى حبيبتي والرفاق هناك.
مع التحام أقدامنا في الطريق وتفتت لحمي الذي يأكله الدود وذوبان شحم رفيقي الذي بدا يشحب وينكمش إلى قطعة لحم مقدد، كان علي أن أضع حداً لإيمانه العميق والغريب، كان يؤلم ما تبقى من مخي بكلماته الحماسية والعاطفية.
- يا صديقي إن الله لا يحب القديسين أمثالك. قلت.
- ولكنهم قالوا لي إنه يعشق القديسين.
- حسناً، الأمر خطأ…والدليل أنت.
- لا، لابد أنّ إبليس قد خدعني عند المصعد، وسيتفهمون الأمر هناك وسيعدونني إلى الجنة!
- قد يكون قد خدعك وأنت حيْ.
وقطع حديثنا ظهور طابور طويل، نساء ورجال وأطفال وكلاب وقطط ورؤوس أحصنة وشياطين يقفون منتظرين ركوب إحدى الحافلات المصطفة وموسيقى صاخبة لفرقة الهارد روك ” AC/DC” كان الوحيد الذي يستجيب لأنغام الهارد روك شيطان أمام إحدى الحافلات راقصاً، قافزاً، كان ذيله البقري المتسخ ببراز لصق به يرقص لوحده، وعظامه السوداء تخرج من اللهب الذي يكتنفه، كان بأنفه قطعة حديدية كتب عليها ” أهلاً بكم… أيها الشجعان”، وأسنانه المتساقطة تضيف بهرجة على تعاسة المكان، إن كان يوماً ما بشرياً فسيكون من أولئك الذين يصطون على الصيدليات لسرقة حبوب الهلوسة، كان ممسكاً بقنينة من البوخة رافعاً إياها ومنادياً ” اشربوا، فقد تكون آخر مرة تتذوقون فيها شيئاً ما! ها ها ها ” ويطلق ضحكة شيطانية مخلوطة بصفير كصفير مريض آزمة.
المشهد: سور عالٍ وُضع كجدارية وداع للحياة، كانت إحدى العبارات التي شدتني تقول ” الثوار في كل مكان!”، وجاء في بالي أنهم قد قاموا بتحرير الجحيم وأننا على طول الطريق سنرى بوابات واشتباكات مع الأزلام وما إلى ذلك من الحفلة الثورية، شدتني عبارة أخرى تقول ” إلا أننا اتبعنا أباءنا”، أحببت أن أضايق رفيقي، أشربت بعظام إصبعي وقلت له:
- انظر!
- ولكني لم أتبع أحداً!
- وها أنت ذا تتبع هذا الطابور!
وكانت خلف السور المليء بالسور تلك الشجرة الميتة وملايين من الغربان تنعق حولها، قد تكون غربان الجميع بالطابور مجتمعة، الطائر الذي في عنقك، إذاً فلكل واحد هنا طائره، إلا أنا وصديقي لذينا طائر واحد رافقنا، بخلاء حتى في جهنم، كان أحد الشياطين يحاول أن ينظم الطابور، كان كالخنزير، ضخم وبعيون حاقدة، وسلسلة تربطه بعامود راسخ في الأرض، يصرخ في الهياكل وأشباه الهياكل بأن هناك متسع لكل منها في الحافلات، كان رفيقي غارقا في عملية تبول لا إرادية، عندما مر الشيطان بجانبنا واجتذبته رائحة التبول البشرية، نظرت لنفسي، كنت لازلت أشعر بقضيبي ولكنه كان ساخناً كما أن الجزء العلوي من جسدي كان عبارة عن عظام، تفقدت قلبي، لم أجده، ضحك الشيطان وأمسك برفيقي الذي بدأ يرتجف ويبكي، رفعه عالياً ثم قال له بصوته الخنزيري:
- وجبة لذيذة، يبدو أننا سنلتقي في جهنم، عندما يتشكل لحمك من جديد. ها ها ها
رقبتي تؤلمني؟! كم مضى من الوقت؟ لا أدري! ولكننا اقتربنا من الإيفكو التي ستقلنا إلى الجحيم، ها الجحيم!
- ألا ترى أن بالأمر سخرية؟ قلت.
- كيف؟!
- من الجحيم إلى الجحيم!
- ماذا؟!
- أعني من الجحيم الأرضي ليبيا، إلى الجحيم الإلهي، إنّ بالأمر سخرية، وكأنّ الله يحاول أن يمازحنا!
- أستغفر الله!
- أستغفر ما شئت ولكنني أجد الأمر مضحكاً!
- أتضحك أن تتعذب في جهنم؟
- بالطبع، عندما لا أكون قد غادرتها منذ البدء.
- فليسامحك الله!
- الوقت الطويل قد مضى على ذلك، إنك تذكرني بشخص عرفته!
- وأنت تذكرني بشخص لا أريد يوماً معرفته!
حاولت أن أتلهى بالتحديق في الوجوه ومحاولة التخمين عن أي شيء قد أوصل بهؤلاء هنا، هذه المرأة ونهداها الحيان قد تكون عاهرة عاشت على بيع جسدها، وذاك الرجل الشيخ قد يكون زعيماً لطائفة دينية ما، هاه، ذلك الشيطان الهزيل بالطابور لم يفلح بإغواء أحدهم لذا فهو ذاهب معنا للجحيم، هذا الهيكل العظمي يبدو لي كهيكل لرجل سياسة، لما لا يذهب السياسون والقادة ومن شابههم وحدهم إلى الجحيم؟، وفليتركوا لنا الأرض، لا نريد الجنة، إنها مطلب رفيع يليق بالقديسين أمثال رفيقي، ولكن أنا كل ما أحتاجه كجنة هو كأس فودكا لا ينتهي وفتاة تزرع في فمي قبلة كل ما شعرت بالجوع.
- أتعرف، قد أكون نادماً على أنني لم أقترف شيء واحد في حياتي. قال رفيقي وقد استجمع رباطة جأشه بنبرة مستسلمة وحزينة.
- ما هو؟!
- أنني لم أحب الفتاة التي أحببتها.
- ……
- أقصد، لم أحبها كما أردت، ظل حبها حياً في قلبي فقط، ربما لو أحببتها، لنجوت.
- الحب للأغبياء يا رفيقي.
كنت أحاول أن أجعله يصمت ولكنه تابع دون أن يكترث لي.
- لك أن تتخيلها، عيناها الواسعتان تحملان الأرض كاملها داخلهما، وشعرها الأسود الفاحم مختبئاً في جزء منه وراء الحجاب وطلاء الأظافر الغريب الذي تضعه، فستانها الوردي الذي لطالما أحببتها أن ترتديه، ضحكاتها، وطريقتها في تفسير الأمور، حريتها، ومحاولاتها الخجولة في الافصاح عن مشاعرها، كل شيء…لم أحبه جيداً أو كما ينبغي.
- ربما هي التي أودت بك بصحبتي.
- …….
- تخيلها تلك الهيكل العظمي الذي أمامك وقد عاشرت الألاف من الرجال غيرك، أقصد انظر لها كهيكل عظمي تكرهه، هل ستحب هيكلاً عظمياً عاهراً؟!
- لا أدري…ربما سأفعل لو كانت هي.
- أشفق عليك، حقاً، تحبها وتحب الله وانظر ما الذي فعلا بك!
- أأنت ملحد؟!
- لا أدري، قد أكون وقد أكون أكثر إيماناً منك.
وكان علينا أن نتحرك كالعبيد حتى وصلنا إلى الشيطان المسمى ” البوليطاي”، بدأ ينظر إلينا باستغراب، تفحصني جيداً ثم قال:
- أيها البشري، ما الذي أتى بك إلى الجحيم؟!
- زيارة لبعض الأصدقاء، وقد يعجبني المناخ والمكان وأمكث فيها.
قهقه الشيطان حتى بصق سائلاً أسوداً بدأ يتحرك وكأنه له روح، أمسك بيدي وقال:
- مرحباً بك في الجحيم، التذكرة ثمنها أن تمص قضيبي!
- ألا توجد طريقة أخرى لركوب الحافلة؟!
- أن تمص قضيب صديقي هناك! وأشار للشيطان صاحب الوجه الخنزيري.
- وإن لم أفعل ذلك؟!
- هاه! هنا لا توجد إرادة، عليك ذلك وفقط! حتى وإن أردت أن تضيع في العدم ها ها ها !
- حسناً، سأشتري تذكرة أخرى لصديقي هذا أيضاً.
حدق في صديقي وقال:
- ها ها ها!
في الحافلة جلست برفقة ” محمد” الذي يشبه اسمه اسم نبيه، قال لي بعد صمت مطبق:
- شكراً لك!
- الأمر لا يهم كثيراً، أخبرني عن الله.
- الله رحمة حتى في الجحيم، لن تضيع صلواتي هباءً…ياليت كنت أعرفك قبل ذلك، لصليت لنجاتك.
- لن يهم الأمر كثيراً.
- أحب أن أؤمن أن الله يمكنه أن يرحم الجميع، حتى الشيطان نفسه.
- اوه! ولكن البعض أمثالي لا يحتاجون لرحمته.
كان الراكبون قد تحولوا جميعاً إلى هياكل عظمية ولم يتبقي لرفيقي إلا القليل ليصبح مثلنا، شعور غريب بالديجافو يقلق عقلي.
كان الشيطان ” البوليطاي” يعمل كمرشد سياحي لنا، كان يحب الحديث، ويكره الصمت، كان يقول ” سيداتي، ساداتي، ها ها ها! نرحب بكم في إيفكو الجحيم في الطريق 666 إلى جهنم، اربطوا الأحزمة ها ها ها….. كما يمكنكم أن تشاهدوا على جانبي الطريق فإن هؤلاء مجموعة من الزومبي الليبيين على مضادات الطيارات يحاولون تحرير الجحيم، ذاك الزومبي الملتحي الذي ترونه يحارب ذلك الزومبي العسكري، إنهم يقومون بالعملية ذاتها منذ الأزل، في الواقع الزومبي الليبي مضحك جداً،…. الآن تستمعون لأغنية ” Highway to hell ” والتي تناسب الأجواء،…. يمكنكم على يمين الإيفكو أن تلاحظوا أنقاض حضارات ومدن وقادة لازالوا حتى بعد موتهم يخطبون في شعوبهم الميتة…. ها هو ذا هتلر وتشرشل والخليفة العباسي…. والآن ونحن نقترب من الجحيم أحب أن أنوه أننا نقترب من الجحيم ها ها ها ها “.
- أنت أعظم من كتب حرفاً يا صديقي، صدقني…أنت تعرف بأنني لم أكذب عليك يوماً، هاهاهاهاهاهاها.
كان صوته النحاسي يقتلني، يذبح عقلي، من أين أتى بكل هذه الكلمات؟ هل قلت ذلك حقاً؟ متى ؟ متى كتبت كل هذا؟ لا أتذكر أنني كتبت شيئاً عن الإنسان والقدر، وما الذي ينفعني إذا كتبت وقرأت؟ ما الذي سينفع الناس؟ إنني أبدو كأنني أدعو الناس للانهزام تارة، وللمقاومة تارة، وللرضى تارة، ولا أدرِ ما هي السلطة التي تخول لي ذلك؟ ربما لهذا سماني الفيلسوف؟ لأن الفلاسفة والأنبياء والمفكرين يمكنهم أن يحدثوا الناس عن ما وجب عليهم فعله؟ ولماذا لا يستكين كل هؤلاء ويبلعوا أفكارهم وكلماتهم داخلهم ويتوقفوا عن معاملة الناس كأنها قطعان يجب أن تتبعهم؟ ربما لأن الناس في عمومهم قطعان؟ أو لأنهم في عمومهم ضالين؟ ما هذا الهراء ؟ كيف يمكن لإنسان أن يتبنى هكذا أفكار ولا يجن؟ كل هذا التضاد والتضارب والتناقض لا يخلف إلا جنوناً، هل أنا مجنون؟ ربما… أتذكر أنني كنت أسخر من أولئك المجانين.
الثمرة الثالثة عشرة
(( تدفق الفراغ لشرايينه؛ ميت الأفكار كان. تساءل عن هوية الفرعون، ارتاح بظهره على شجرة نخل لا يتساقط منها إلا براز اليمام، بحث في قائمة جهات الاتصال فوجد أسماءهم جميعاً، الفرعون، الأمريكي، الجريمة، الصايع، الشيخ بلال والآخرين. تذكر حلماً سابقاً قبل أن يصحو في الهامبورغا مصطدماً بحقيقةٍ جديدة، حقيقة مرة وسوريالية، كان يلهو صحبة وجوهٍ لم يعرف من أين جاء بهم عقله، يلعبون الورق، الطرنيب، يدخنون السجائر، ويستعملون الحشيش والشراب كما يلتقم بعضهم حبوباً زهرية اللون، يوقظون الليل ويشعلون في فؤاده الأغنيات والمجون والرقص، اخترقت ضوضاءهم صدره الهادئ تنتشر فيه أشجار السرول العظيمة وتتلألأ النجوم والبدر على خده، تشاكسه البوم وصرصرة الحشرات وعواء الكلاب يفصلهم عن الصحو بها سياج وأشجار وسُكر، ترنحوا. وترنح هو راقصاً يروي لهم عن فتاةٍ لذيذة بجناحيْن تطير كل مساءٍ من سجن أهلها لتحط على فخذيْه، عن حيتانه التي يرغمها على العوم داخل شباكها. كانوا يعتقدون بكذبه، يحركون أوراقهم ويبحثون في أيدي خصومهم، كان يرى أوراقهم أوراق توت. ولما انتصف الليل، وهو على وشكِ أن يفوز بالمباراة، اختلت شاشة الأحلام، انبتت مشهداً آخراً داخله، رأى أن أصدقاءه الوجوه يفرون وأنه يحاول الفرار، قفز الجميع من السياج إلا أنّه لم يتمكن حتى من صعود السور. سمع أعيرة نارية تتهاوى في المكان، رأى مجموعة من الرجال يبحثون في المكان عنه وعن أصدقاءه الوجوه الممسوحة، دخلت سيارات دفع رباعي الاستراحة التي يلجمون وجه الحياة فيها، أحرق الرجال الاستراحة وظلوا يفتشون المكان، وجد جسده يختبئ خلف ورقة توت كبيرة يخصفها من شجرة، الشجرة في قنينة، القنينة تفوح بالكحول، يسقط نجمٌ من السماء في عنق الزجاجة فيتحرق الكحول فتحترق الشجرة، فتشتعل أوراقها كأنها تجونتة حشيش لذيذة تفوح برائحة الحناء تزيد من خذر قبضته التي تحاول أن تمسك الورقة بقوة، أن لا يُفضح أمام المفتشين. بدى لنفسه أنه يشبه شجرة توت كبيرة، بورقة وحيدة، يمكنها الاختباء من القدر، من الله، من الناس، من الخاطفين، من نفسه، من حبيبته إن كانت له واحدة، من عائلته، أصدقاءه إن صادف أن وجدهم، كان واقفاً تحت السور، يمسكه ورقته، فكر بأنه سينجو إلا أن غباءه لم يجعله يدرك مدى تفاهة ما يصنعه. أمسك به الرجال، ألقوا به أمام إحدى سيارات الدفع الرباعي، جثى يرفع يديه المرتعشتين عالياً إلى الهواء يرجوهم الرحمة، عارياً شعر بخشونة التربة على ركبتيه، يصوب الرجال على رأسه بنادقهم ويخبرونه أن ينظر لهم، خاف. لم يرد أن ينظر في عين قاتليه، هذا آخر ما أراده. لكنهم بصقوا وركلوا وقذفوا منيهم ودمهم وقيأهم وبولهم على جسده حتى نظر فيهم. شعر أنهم يشبهون وجوه أولئك الذين كان يلعب معهم الورق. لكنه وقبل أن يصحو من حلمه تعرف تماماً على أصحاب الوجوه، كانوا كل أولئك الذين قص عنهم قصصه التي سمعها من، سمعها من من؟ آه اللعنة…نعم، نسيت. سمعها منّي، وهو الآن يفكر: من أنا؟ أشعر بأنني أخاه، بالنسبة لي الناس جميعاً أخوتي، لا فرق عندي بين أسودٍ وأبيض إلا بالفسق والعمل الطالح؟ آه، بالطبع… سيصعق إذا عرف من أنا تماماً، ربما سيبحث عن نفسه طوق نجاة. لكن لا نجاة، لقد بصق اللعين على العقد، ودخول الحمام الذي تبول وتنيك وتبصق وتقيء فيه لا يشابه دخول الحمامات العمومية ولا حتى الخروج منه يشابه خروجها. تمكنت منه أخيراً فكرة واحدة، سيعود لبيته، سيرتاح أخيراً، سينام وسيسقط في أحلامه ربما يصحو في اليوم التالي ويجد أنّ ما يمر به حلم كبقية الأحلام التي عاشها، سيجد نفسه صباحاً سجيناً في البيت الأمريكي ينهي قصة الملاك. أو يجد نفسه تحت شجرة التوت أو حتى في الجحيم يحترق من أجل خطاياه أو يموج داخل كس المدام حياة.
حياة! تنهد باسمها، وضمه في لسانه، ونهض، شعر بأنه الآن فقط يعرف بيته بالضبط. توقف عند أحد البيوت عند ناصية الحي ترتطم بالقرب منه أمواج البحر الذي قذفت ذات يوم سيدي بركة من الأندلس إلى طرابلس كيونس، تذكر مخطوطاً يُنسب إلى سيدي بركة ” الحوت! كم هو عظيم وضخم، إنه كالأرض بالنسبة للذبابة التي تحلق مزعجةً إياك على مائدتك، كنت أمسك بثنايا مركبي وهو يسبح تائهاً باحثاً عن الله الذي فقدته في أكلح أيامي، لازلت أسمعه ينادي ولكنه أحب أن يلعب معي لعبة أسماها جدني إذا استطعت، أطوف البحار وأغير الدفة على نغمات نداءه، كنت أسمعه يصرخ باسمي تارة ويهمس به تارة أخرى، أحياناً يبكي عندما يناديني وأحياناً يضحك بغجرية، كأنه اتحد مع الشيطان، في منامي كان يكرر النداء ألاف الألاف من المرات حتى أصبح الأمر مزعجاً، لذا،ـ قررت أن أجده – ربما أن أهرب منه- حتى يتسنى لي النوم بهدوء وسكينة، أن أغمض عيني كباقي البشرية، أحلم بقطعان الماعز تقبل الأرض تحت قدمي والشمس تحرق شوقي إلى السكينة، أن يشجن الناي بداخلي، أن أحلم مجدداً بزوجتي التي أخذها الله مني تقبل شفتيْ فأذوب في روحها، بأطفالي الراحلين يضحكون وأنا أجري وراءهم وتهتز الأرض ضحكاً ولهواً، أن أمسك جماح البحر أخرج منه اللؤلؤ والمرجان والسمك، أن أنبذ العنب فتأخذني النشوة وأرقص لله، للأرض، للبشر. حراشفي تضايقني في بطن الحوت، وفي بطنه تغرق حواسك وتتعفن وتتحول إلى طحلب عملاق يغطيه اليقطين، الرائحة السمكية العفنة تصبح رائحتك الشخصية التي تبعثها لمحيطك وتختفي تلك الرائحة التي كانت خليطاً من سائلك المنوي وعرقك والرائحة الأصيلة للتربة المدبوغ منها جلدك ولا تتمكن من شم غيرها، الظلام الكالح والضوء المفاجئ والمخيف الذي يجعلك تتمسك بأعضاء الكائن الأرضي الرطب حذراً من أن يصفعك الضيوف الجدد، ولا تسمع إلا الأعماق وصفير مضيفك يترددان في أذنيْك وصوت داخلك يناديك عبثاً باسمك ثم يضحك، تنسى ماهية كل شيء، أصابعك اللحم الذي يشكل جسدك أصبح يتحول إلى يقطين، وأصابعك تتلاصق كأنها مجاذف، وتنسى المرأة وتدوير نهديْها والتفاح والشمس الحارقة وتتحول إلى وحش البحيرة الذي يخرج ناعقاً، باكياً! ها أنا ذا، أقف مبتلاً في داخلي ولا هياج إلا ما تحدثه أمواجي التي تتقذافني، أفترض بوجود كائن حي آخر يهتم بشأني غير هذا الحوت العظيم، يلقي بالأسماك لأعيش يوماً آخراً فأشاهد مأستي تتشكل أمامي، أتذكر أن كائناً كهذا كان موجوداً منذ زمن، يجذبني من لحيْتي مستجدياً إياي أن يهش على غنمي، بملمسه الناعم، أن يلقي بشباكي في وجه البحر مخرجاً الحياة، كان يحمل معه جسدي كله، وهويتي، وإيماني بما يحمله – أو تحمله- من شكوك في جيوبها، وضحكتي ودمعتي وكل مشاعري صانعةً مني ثقلاً يعتقد بمسئوليته اتجاهها. تبينت قضبتي التي أكلت نعومتها مياه البحر المالحة، وقبضت على شراع القارب هارباً من كل شيء في القرية، من الجاحدين والمؤمنين والمجانين والعقلاء، من خطوات البشر والقطط والأحصنة وعجلات العربات، من جو الشاطئ المخذر ومن وجوه أطفالي في كل طفل أراه، ومن جسد زوجتي في كل امرأة أراها، ومن الله في كل ذلك أو إليْه كما أحب أن أعتقد، تركت اسمي وروحي باحثاً عن روح جديدة أكثر صلابة، وفي منتصف الليل اختفى صوت الله واختفت اللجة التي أغرقني فيها بمطاردته لي، ركبت البحر على عجالة تحتضني الأمواج الثائرة، ولم أسكن لها، كان الإيمان الوحيد المتبقى هو إيماني بضرورة الرحيل، بحتميته، إلى أين؟… لا يهم. خرجت الشمس مهللة وأحرقت شفاهي المالحة وسحنتي الغارقة، وأصبحت أتبين لون بشرتي، أشعر بملمس الشعر النامي بكثافة في ذقني، أمسك موسىً واقتلعه، بدا ذقني أبيضاً ناصعاً وعيني الجاحظتيْن كانتا تتحولان على صفيحة المياه، صعرت خدي للسماء، ألقيت بنفسي في وجه النسيم، وكنتُ فرحاً بنفسي أنني تخلصت من كل شيء أحمله على كتفيْ وانتظرت لأجوب كل بصمة قدم على هذه الأرض. ولكن في غمرة حريتي في قمة معرفتي بجمال الحياة جاء هذا الكائن الضخم وابتلع كل شيء أمامي، ابتلعني.” فكر دائماً في الطريقة التي أمكنت سيدي بركة أن يقول مثل هذا الكلام وحاول دائماً أن يقول مثله، شعر بأنه أصدق من أن يقلده الكاذبون أمثاله. تلقفته أبواب بيته، ولجه. كانت هناك إمرأة داخله، اعتقد أنّه عرفها منذ الصفحة الأولى لكتابته القصص التي نقلها عني. جرت تبكي تحتضنه، كطفلة تحتضن أباها. والجته غرابة وشيء من التخوّف. كانت تبكي وهي تضع يدها على ظهره كأنها تخاف عليه أن يهرب ويتركها وحيدة. سألها عن من تكون، نظرت لسحنته الهزيلة بدى لها كأنه شاخ ألف سنة منذ آخر مرة رأته فيها. قالت له تضع يدها على رأسها:
- أنا حياة، زوجتك؟
يُتبَعْ هاهاهاهاها.))