علاقتي مع الخبز طويلة ومضطربة، كما هي علاقتي مع الكتابة، لكنها تمتد إلى ذكريات طفولية كنتُ فيها أحمل سفر الكعك والمقروض إلى كوشة “السنابل الذهبية” التي يملكها أحد الجيران، كنتُ عندما أدخل إلى الكوشة -نظراً للامتيازات الاجتماعية التي أملكها بين الزبائن- أشاهد أرفف العجينة المشكلة وهي تدخل الفرن، أقف مشدوهاً من هذه العملية “المعقدة”، وأستمتع بحرارة الفرن بالقرب مني، وأترك أنفي يتتبع رائحة الخبز الخارج منه. كانت تجربة فريدة من نوعها، تفوق تلك التجربة التي أشتري في الصباح الباكر الأرغفة الساخنة لأكمل نصف رغيف ساخن وأنا في الطريق عائداً إلى البيت في أزقة شارع القاهرة ( الاسم الذي فضل أهل الحي تسميته على زقاق مليء بمساكن العمالة المصرية الآتية من الصعيد)، في أحد الأصياف الماضية في طفولتي اكتشفتُ خبز وطنٍ آخر، كنتُ في رحلة عائلية إلى تستور، مدينة في شمال تونس، التقيتُ في ذلك الصيف بأول رغيف باقيت في حياتي، وبأول كسكروت.

لكن هذه العلاقة الرومانسية مع الخبز لم تطل طويلاً، لازلتُ أتذكر أيام الصيف الحارة في الثورة الليبية أقف منذ الساعة السادسة صباحاً في طابور طويل لألتقط أرغفتي بعد ساعتيْن (كنتُ في ذلك الوقت رافضاً استخدام امتيازاتي الاجتماعية كما يفعل بقية الجيران بأن يتسربوا بعيداً عن الأنظار للباب الخلفي للكوشة)، وقعتُ ذلك الصيف في عشقِ هواية كانت تتشكل عندي منذ سنتين غير الأكل ومشاهدة التلفاز ولعب الألعاب الإلكترونية، كنتُ أتدرب على الكتابة والقراءة طيلة النهار، فعلى كل حال لم يكن هناك انترنت لتمضية الوقت فيه، كرهتُ الخبز على مدى أشهرٍ ثلاثة حتى أن مقدار استهلاكي له قد قل، حتى قررت أن أنقطع عنه لظروف صحية في منتصف 2014، كنت في ذلك الوقت منشغلاً بالكتابة، منجراً خلفها كحمار يحاول أن يلحق الجزرة الموضوعة فوق رأسه، عاودتُ حبي للخبز بعد مغامرات سفرٍ كثيرة كنتُ أستمتعُ فيها بتذوق الأرغفة التي تشتهر بها الدول التي زرتها، في تونس مثلاً كنتُ مغرماً بالكسكروت الشبيه بالمحورة، في برلين أحببتُ البرتزل والخبز الألماني بالجيجلان (السمسم)، وفي تركيا عشقتُ خبز السندويتش التركي المفلطح، تذوقت أنواع وأشكال غريبة شككتني في نوستاليجا طفولتي بعد أن اعتقدتُ أنني أصبحتُ “ناقداً” للخبز وضعتُ الخبز الليبي في آخر الترتيب.

وعندما قررتُ أن أكتب رواية عن خباز ليبي ارتأيتُ أنني عليْ حقاً أن أتعلم الخبز، لم أكن مؤمناً بالكتابة دون الاحتراق بنار التجربة حتى ولو كانت القصة التي أريد كتابتها خيالية، كان لابد من وجود عامل حقيقة، حاولتُ كتابة الرواية دون الدخول في مغامرة الخبز لمراتٍ عديدة دون أن أفلح في ذلك، كان هناك أمراً ناقصاً، أمراً كنت أتجبنه، أمر لم أتمكن من العمل عليه لتبريرات غير منطقية كانت تبعدني عنه، ظل هذا الخاطر لسنواتٍ ثلاث يلح عليْ قبل أن يجرّني الوباء العالمي كوفيد 19 وفترة الحظر المنزلي إلى خبز أول رغيف في حياتي، استيقظت صباح إبريل الماضي لأخبر زوجتي بأنني قررت الخبز، كانت ريما تتابع حساب سيدة ليبية تقطن في لندن على انستاجرام، وقد شاركت طريقة صنع الخبز المحور (المحورة، المداس)، تتبعتُ الخطوات، كنتُ متوتراً لكن النوع الجيد من التوتر، ذلك النوع المليء بالحماس، كذلك التوتر الذي يصاحبك وأنت في المطار في طريقك إلى مغامرة سياحية رائعة، كان المشهدُ كارثياً في المطبخ، الدقيق في كل مكان وعلى ملابسي ووجهي، المكان ملطخُ بالكامل أثناء الخبز، يداي مليئتيْن بالعجين، كان أمراً كارثياً يشبه غوصك أول مرة في كتابة قصة قصيرة تعتقد أنها ستكون الأجمل على الإطلاق، كنتُ متعجلاً لأن أخرج أرغفتي وأستطعمها، لكن كان للخبزِ رأيٌ آخر، الخبزُ يتطلب الانتظار، إنه ابن الوقت وابن الهواء نظراً لعامل الخميرة داخله، ورغم خروج أرغفتي بعد ذلك بساعتين من الفرن بشكل قبيح وبطعم “لا بأس به” – كما يحب صديق لي أن يقيم الأشياء السيئة- كنتُ سعيداً كأب يلاحظ مراحل نمو ابن له، ككاتب يرى قصته تتشكل أمامه.

عندما أعودُ لرغيف الخبز المحور الأول الذي قمتُ بصناعته، باستطاعتي انتقاده نظراً لتكوينه الفيزيائي، ونظراً لكمية الأرغفة التي قمتُ بصناعتها على مدى أشهرٍ أربعة تتلي ذلك، ولتمكني من حل لغز الخبز، وتطويري لمهاراتي ومعرفتي بهذه العملية التي قد تبدو معقدة للوهلة الأولى، إلا أنها عملية بسيطة إذا ما تم تقسيمها كمعادلة رياضية إلى مجموعة من الخطوات والمكونات والمجاهيل، خرجتُ مع الأيام باستنتاج أنّ الخَبز كفعل إبداعي خلّاق يشبه الكتابة في أوجهٍ عدة قد تكون غير واضحة للعينِ غير المتدربة إلا أن أوجه الشبه تتضح مع الممارسة واستمرارية الخلق والإبداع، بل كان للدخول في مغامرة الخَبز الفضل عليْ ككاتب لترويض أمر كنتُ أشكو منه، فقد نمى الخبز فيْ القدرة على الصبر، قدرة كنتُ مفتقداً إياها لوقتٍ طويل، فأنا على نقيض ما قد أبدو عليْ، إنسان عجول. كما نمّى فيْ القدرة على مراجعة ما أكتبه ( فأنا أكره نصوصي بعد أن أنهي كتابتها وأكون مغلوباً على أمري عندما أعمل على مراجعتها)، كما شجعني على الاستغناء على نصوص طويلة قد تمتدُ لأن تكون رواية ورميها في سلة القمامة بدل أن أنشرها إلكترونياً على مدونتي.

لم يطل الوقت حتى بدأت بخبز أول رغيف باقيت فرنسي لي، رغيف مليء بالصبر والانتظار وتحمل ثقل الوقت، مصحوب بتقنية عجن وتشكيل وإعادة تشكيل مختلفة، متطلباً آلية خبز تختلف تماماً على الخبز المحور، مشبع بالهواء وبخار الماء ليخرج مقرمشاً لذيذاً كما يصنعه الفرنيسون، كل ذلك من أربع مكونات رئيسية تشبه في رمزيتها المكونات التي تشكل القصة: دقيق رمز الحقيقة، ماء رمز الروح، ملح رمز اللغة، وخميرة رمز الحياة، كل ما تحتاجه أن تنفخ فيه الهواء وأن تصقله بيديك وتسخنه بحرارة التجربة الحارقة. انتقلتُ بعد ذلك إلى أرغفةٍ عديدة: شيباتا إيطالية ( الأخت الكبرى للخبز المحور/المداس) تحتاج لنصف يوم حتى تجهز، رغيف ريف إنجليزي ضخم، توست، فوكاشيا إيطالية بزيت الزيتون والحبق ( أو خبزة الحوش كما تقول أمي) أو بالطماطم والزيتون والبصل والفلفل، خبز بالخميرة الطبيعية ( Sourdough bread)، خبز صقلّي بالسميد، خبز البرغر والبيقلز على طريقة نيويورك، كما تطرقتُ لصناعة بعض المخبوزات الأخرى والتي تتطلب طرقاً مختلفة للعجن ومكونات إضافية كالبريوش، البابكا البولندية والكرواسون (كغواسو) أو ما نسميه في طرابلس “بريوش”. كنتُ في كل مغامرة، تزداد ثقتي بنفسي، كلما أتعلم شيئا إضافي، أصبحتُ أشعرُ بمدى الجهد والحب الذي وضعه غيري في مخبوزاتهم، المكونات التي تتكون منها وحتى نوع الدقيق الذي قاموا باستخدامه وكم من وقت أخذت فيه الأرغفة راحتها في النضوج، كانت التجربة مليئة بالنجاحات والخيبات إلا أنها كانت مليئة بالتعلم، كل مغامرة هي فرصة جديدة للتعبير عن النفس ولدفق الروح داخل عملية الخلق.

أصلُ هنا إلى بيتِ القصيد، بعد أشهرٍ في العمل داخل المطبخ على صناعة الخبز، أجدُ نفسي مرغما (ومغرماً) على وضع الكليشيه المعتاد الذي يضعه الكتّاب في تشبيه الكتابة بشيء قاموا به، فلابد أنّك قرأت لكتاب يخبرونك أنّ الكتابة تشبه الهندسة، قيادة السيارة، محاولة الصعود لجبل، مصارعة الثيران، زراعة البطاطس أو حتى الجنس، لهذا لن يضر أن أخبرك بالكليشيه الخاص بي وهو أنّ الكتابة تشبه بالضرورة عملية الخَبْز، إنها تحتاج ذلك “النَّفَس” الذي يفرق بين طباخ وآخر وبين كاتب وآخر، تحتاج لمعرفة بأدوات وتقنيات العمل، كما تحتاج للاستمرار في العمل ومتابعة عملية النقد الذاتي وملاحظة التفاصيل الدقيقة والمتغيرات كما تحتاج لعناية وصقل وتشكيل وإعادة تشكيل، كل نص/رغيف يحتاجُك أن تعامله على أنّه نص جديد/رغيف جديد منقطع في الهُوية عن غيره لكنه استمرار وتطوّر له، إنّ الكتابة هي كالخبز رغم خطورتها على الصحة (وأنا هُنا لا أدعو لاستهلاك الخبز أو حتى للقراءة، فكتابي الأول حمل عنوانا إضافيا يقول أن القراءة خطر على الصحة) إلا أنّها تجربة روحية علاجية بحثة للنفس (أقصد عند الاستغراق في الفعل لا ما يتلوه بعد ذلك)، كما تعني المشاركة/النشر أكثر من الاستحواذ، البحث عن الأسئلة أكثر من الإجابة عنها، التواصل مع خلقِك ومحاولة الإنصات لما يريد أن يقوله لك، لا تحاول أن ترغم عجين الخبز بأن يفعل ما تريده منه أن يفعله، أحياناً من الأفضل أن تتبع النص، ورغم كون الهواء/الصياغة مكوناً يأتي في مرحلة أخرى إلا أنّ أهميته لا تقل عن المكونات الرئيسية، ويبقى الوقت الذي تستغرقه في العمل على نصك/رغيفك هو الفيصل في جودته، الصبر والمحاولة مجدداً، الجرأة على الاستكشاف والشجاعة الكافية للبوحِ لرغيفك بما يشغر تفكيرك، ولا تنسى أن تنظف الأواني وبلاط الرخام بعد أن تنتهي من ذلك، حتى لا تغضب منكَ ريماك.
الخبز الوحيد الذي جربته هو خبز المطلوع الجزائري في الفرن.
LikeLike