هناك مقولة لا يفهمها مدعون الشرف والمسؤولية عن مجتمعنا الرائع، الذين يرفعون رايات النضال والرقابة والمحاسبة من النشطاء والحقوقيين والصحفيين وبالطبع، كبيرهم الذي علمهم السحر “ديوان المحاسبة”، هي مقولة بسيطة ويمكن حتى لطفل بسيط أن يفهمها، المقولة مفادها “الفساد نشاط عام يجب أن نمارسه لا أن نتفرج عليه”، أليست سهلة الفهم؟ إلا أنّ كلمة واحدة في هذه المقولة تثير حفيظة كل هؤلاء المستشرفين، كلمة بريئة اسمها “فساد”، ويبدو أنّهم لا يعلمون بأنها مثل بقية الكلمات في كل اللغات، كلمة يمكن تزيينها بالمعاني التي نراها ملائمة في مجتمعاتنا، وهنا يخطئ هؤلاء ومن ضمنهم ديوان المحاسبة في فهم معنى الكلمة، إنّ كلمة فساد في ليبيا كحبة الخال، مجرد سرطان محمود، شيء لابد من فعله، إنها كإضافة الأناناس على البيتسا، قد نتجادل جميعاً في رفض وجودها إلا أنّ علينا الاعتراف بأنّها لذيذة ومفيدة.
نعم لقد قرأت التقرير الصادر في سبتمبر 2020 عن العام 2018 – حسناً لم أقرأه كله، ليس لدي الوقت لقراءة ألف صفحة من الحسد-، وقد دُهشت من كمية السلبية التي ملأها كاتب التقرير في صفحاته، هو لم يتورع في كتابة كلمات مثل ” مخالفة، تخلف، عدم التزام، نقص، تأخر، تورط، حذف، عدم موافقة، تجاوز، عدم تعاون” وغيرها من الكلمات السلبية والتي أفضل ما يمكنها أن تقوم به هو تشويه الواقع والقصص التي تم صياغتها في التقرير بطريقة سلبية، لم ينظر ديوان المحاسبة للنصف المملوء من البازين، وهو أمر ليس عجيب عن مؤسسة أخذت “الحسبة” عنواناً لها، فالكل يعرف أنّ التريس تكسب والـ….. تحسب.
في تقرير الديوان الذي يحاول فيه تشويه سمعة مؤسساتنا وشعبنا العريق الشريف النزيه المحافظ بعض القصص المغلوطة، فسيارة التويوتا برادو 2004 التي تعدت صيانتها أكثر من 25 ألف دينار هي سيارة كلاسيكية يود المجلس الرئاسي أن يحتفظ بها، سيارة جاهدت في نقل المسؤولين الليبيين على طوال 14عام، تعود إلى عالم ما قبل السوشيال ميديا، ورغم أنّ القانون الليبي يرفض وجود سيارات قديمة في مستودعات الدولة ولكن ما الذي يعرفه القانون على أيةِ حال؟ لا شيء. يتحدث التقرير عن مواطن يعمل في تسع وظائف بتسع أرقام وطنية “مزورة”، ولم يعلم أصحاب الديوان أنّ هذا المواطن الغيور والمجتهد في عمله لم يقم بهذا “التزوير” إلا خوفاً على وطنه وحبه للعمل، فهو في خضم يومه يعمل جاهداً على الرفع من كفاءة المؤسسات التي تحتاج لخبراته وقدراته، ها، لماذا لا يكتب الديوان سبب قيام هذا المواطن بفعل ما يفعله؟ يقول التقرير أنّ مجموعة من الموظفين “اختلسوا” 95 مليون دينار في أحد فروع المصارف التجارية، وكلمة اختلاس هي كلمة كبيرة على موظفين شرفاء يسعون للفساد الحميد، الفساد الذي ينقذ التجارة الليبية والسوق من الانهيار الكلي، إنهم كروبن هوود، يسرقون من الأغنياء ليوزعوا على الفقراء، بالطبع الفقراء في هذه الحالة هم الموظفين أنفسهم، ألسنا جميعاً فقراء لله؟ تستمر مغالطات كتاب التقرير في تشويه سمعة المؤسسات الليبية بسردهم لقصة رئيس مجلس إدارة وأعضاء مجلس إدارة مؤسسة ما يصرفون مكافآت شهرية على أنفسهم، بالإضافة لوزير يعطي مكافأة شهرية لمستشاريه الذين عينهم دون وجود مؤهلات (على أساس المؤهلات جابت حاجة؟!) من ميزانية الطوارئ، أليس أمراً طارئاً أن تعطي مكافأة لموظفين مثاليين كأقارب الوزير؟ افرض أنّك كنت في حاجة لبناء مسبح لاستراحتك في عين زارة، ألا يعد الأمر طارئاً؟ كنتُ أعلم أنّ ديوان المحاسبة مؤسسة مشبوهة وماسونية وعجيلية وتضع السم في العسل والزبدة ومرقة اللوسة، لكن لم أظن أنهم سيقومون بذلك بهذه الوضاعة.
لم يتوارى ديوان المحاسبة في فعلته الشنيعة من ذكر شخصيات ومؤسسات ومدى تورطهم في الفساد كأنه يعير المجتمع ودولته التي اختارها في ما نفخر به، نحن الليبيون شعب فاسد بالطبع، الطليان معروفون على أنهم شعب القهوة والبيتسا، المصريون شعب النكتة، السعوديون لديهم بكة، الصين شعب الصناعة وكورونا، الأمريكان شعب المولات، نحن شعب الفساد وهو إيجابي، إنّ الفساد نشاط عام، يجب أن نمارسه، في بيوتنا، في مؤسسات الدولة، في المصارف، في أكشاك السجائر، في ملاعب كرة القدم، في كل مكان كاللجان. وهذا ما قام به الوطنيون من الذين يرسمون لنا طريقنا نحو الإبداع والإلهام في هذا المجال العريق، أقدم مجال عرفته البشرية، مجال صناعة الفاسد واستنزاف موارد الدولة، إنه فعل أناركي عظيم، إنّه لأمر عظيم أن يتولى أحدهم مركز رئيس مجلس إدارة ومدير عام مؤسسة بالإضافة لمنصب المراقب المالي فيها، أمر عظيم أن يكون هناك فرع لايكو في السنغال لا وجود له إلا على الورق، أمر عظيم أن نغسل الأموال المتسخة وننظفها ونجعل البوشعا يأخذ حصته اليومية ثمانين مرة أكثر من السقف اليومي للسحب بينما الشعب السافل الوقح المتغطرس يقف كالشحاذين في طوابير المصارف، أمر عظيم أن تتحول ميزانية الغذاء لغير العاملين في ديوان مجلس الوزراء من 125 دينار في سنة 2016 إلى أكثر من 3 مليون دينار في 2018، إنه دليل على الحس بالمسؤولية وحب الوطن وتأكيد لمبدأ البندقة والقدعنة وتوزيع الصدقات على العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم، أمر عظيم أن نستنزف موارد الدولة، بل إنّه لأمر محبذ وحسن أن نشجع الرواد في هذا المجال، وهذا ما تقوم به محفظة الاستثمار التي تعطي قروض دون ضمانات لمؤسسات وشركات ليبية تعمل بالخارج، قروض بملايين الدولارات، من الذي يحتاج الضمانات؟ لا أحد، الرجل تربطه كلمته، خصوصا رائد الأعمال الليبي، تربطه كلمته، الثقة في التريس والتريس لم يموتوا في الهاني ولا تشاد ولا عين زارة ولا مصراته ولا سرت ولا غيره، إن هذه البلد مليئة بهم ولكن ديوان المحاسبة ليس منهم. أبداً.
في نهاية هذه القراءة المتواضعة، أدعو الجميع للتفكر والتأمل في الخطر المحدق بنا من هؤلاء “الشرفاء” و”المراقبين” و”المحاسبين” الذين يريدون منا أن نمتثل لقوانين وضعية وضعها العالم الأول لنا، التنمية لا تقوم إلا بالفساد، هل رأيت يوماً سيارة جديدة تحتاج لتنمية، على العكس، السيارة التي تحتاج لتنمية ومصاريف تصل إلى 100 ألف دينار هي سيارة كتويوتا برادو 2004، سيارة فاسدة فقط، كيف نقوم بذلك؟