أن تمشي ست كيلومترات على بعد عشرين كيلومتر من طرابلس


اليوم صباحاً، وضعتُ سيّارتي في ورشة تبعد ست كيلومترات عن بيتنا، عشرين كيلومتر عن السرايْ الحمراء، المكان الذي أتطلع عليه في العادة بالقرب من مقهاي المفضل.

في البدء لم أود أن أمشي هذه المسافة، لكن انشغال من أثق بقدرتهم على أخذي من الورشة ووضعي في البيت حثني على الحركة، الفعل الذي أفتقده كثيراً في ليبيا، لتبريرات طويلة تتعلق بغياب الأمن والأمان وعادة الناس في الشوارع في عداء الغرباء والدخلاء، تختفي هذه التبريرات وهذا الخوف عندما أكون خارج البلاد، في بعض أسفاري كنتُ أمشي يومياً ذهاباً وإياباً ذات المسافة التي تبعد بين بيتنا ومقهى دي روما المقابل القريب من بانكو دي روما والسراي الحمراء.

مشهد لنخلة تخترق جدارا لن يكون من اهتمامي إذا كنت في السيارة

توقفتُ عن عادة المشي في شوارع تاجوراء، الضاحية الشرقية لمدينة طرابلس، منذ أن ركبتُ سيارتي الأولى  نيسان تيدا -التيدا، كما يقول عنها أصدقائي، والبعيّصة كما أقول عنها-، كان ذلك قبل ثماني سنوات، واقتصرت مشاوري على القدميْن على الرياضة حينما تدب في روح حرق الدهون المتكتلة في جسدي، أو عندما أضطر لوضع التيدا في الورشة دون وجود من يتلقفني من مغبة ملاقاة الشارع، كما حدث اليوم مع سيارتي الكِيا.

  • الكيلومتر الأول:

هناك ارتباط خفيْ بين المشي وتاجوراء وانجذابي لفعل الكتابة؛ تاجوراء، أو كما يقول عنها أمازيغ ليبيا “تاقورت” تعني المشي أو المشّاي، أي أنّ المسافر من الشرق إلى الغرب قارب وصوله إلى الحاضرة المدنية الأخيرة أويات بلات ماكار (الاسم البونيقي لطرابلس والذي يعني أويا بلاد الرب ماكار) مسافة يمكنه فيها أن يترّجل عن جمله ويمشي صحبته حتى يصل إلى القلعة الحمراء، في تاجوراء أيضاً، مجموعة من المرابطين، سيتلقاك سيدي النّفاتي في مدخل البلدة (الدخلة)، ويصحبك حتى تصل إلى سيدي الحطّاب الراقد بسلام قبل أن يخرّبه الوهابيون في “الحومة” مركز تاجوراء القديم، ومن ثم سيقلّك الحطّاب إلى سيدي الأندلسي، أشهر الأولياء الصالحين؛ ولكن مرابط واحد مغيّب بين هؤلاء العظام الثلاثة، وهو سيدي المشّاي.

الحومة- حيث لا يمشي أحد، أنا نفسي مشيتُ فقط لأنني تركت سيارتي في اللوادجو

يقعُ ضريح سيدي المشّاي في حيْ “المراونة” – جمع مروان-، وهو أحد أقدم أحياء تاجوراء، يضم الحي الكبير عائلات تربطها علاقات وأوشاج، يقال أنّ المراونة يرتبطون بالموريسكيين، كما يقال أنّهم أتراك، وهو المرّجح من هيئات بعض العائلات الشبيهة بالعثمانيين، كان سيدي المشّاي ينحني بسانيته العتيقة على بيت جدّي، الحاج محمد الهادي مروان، كنّا نمشي كل جمعة صباحاً من بيتنا إلى بيت جدّي صحبة أمي على بعد ثلاث كيلومترات، نقطعُ شوارع ترابية وصخرية وهضاب وننزل أودية ونمر بسواني خربة قاطعينها حتى نصل، أغلب هذه الشوارع القديمة الآن اختفت معالمها التي تربيتُ على قطعها في سنوات.

أنا إنسان شارذ في غالبية وقتي، ربيّتُ حالة الشروذ والتوهان في أفكاري وسيناريوهاتي للقضاء على الملل الذي يصيبني في طفولتي خصوصاً عندما تطلب منّي أمي أن أشتري حاجيات المنزل من الدكاكين القليلة المجاورة، في عقلي خريطة كبيرة لكل حيْ أدخله، أرسم هذه الخريطة حسب معالم تجذبني داخل الحي نفسه، بعضُ الأحياء أرسم خريطتها ارتباطاً بقصة سمعتها أو بمعلم أثري قديم أو بطريقة تحرّك الطريق أو شجرة نخيل تتكئ على جدار بيت، زقاق ضيّق أو رجل عجوز أجده كل ما أدخل شارعه مقتعداً زاوية ظليلة تحت شجرة توت.

طرابلس، مشاهد لن تلاحظها إن كنت في سيارتك
  • الكيلومتر الثاني:

تقطع شوارع طرابلس عشرات الألاف من السيارات يومياً، المدينة الكبيرة بضواحيها الشاسعة تحمل ثقلاً كبيراً من بنية تحتية متهالكة تجعلها تواجه أزمة ازدحام يومية قد تستمر لساعات طويلة في بعض الطرقات الحيوية، هذه الأزمة تكون ظاهرة في هيمنة محركات السيارات وارتفاع نسبة ضوضاء زماميرها في وسط المدينة، بالإضافة لأزمة نقص ساحات وأماكن ركن السيارات وانتشار ركن السيارات على الأرصفة، الأماكن المخصصة للمشاة.

“المرشابييدي”، كلمة إيطالية تعني ممر المشاة، وهي كلمة مستخدمة في اللهجة الليبية الغنيّة بالمصطلحات العربية، الأمازيغية، التباوية، التركية، الإيطالية والمالطية والإغريقية والإنجليزية، وهي كلمة محببة لأبناء مدينة طرابلس يستخدمونها بدلاً من كلمة “رصيف” التي حاول نظام العقيد القذافي تبديلها في بدايات موجته العروبية ومحاربة لغات “المحتلين الأجانب” الذين سبقوه في حكم البلاد، ورغم اللحن اللطيف والجميل للكلمة، فمدينة طرابلس من العواصم القليلة حول العالم التي ينعدم وجود ممرات خاصة فقط بالمشاة في شوارعها وأزقتها.

اليوم في تاجوراء، مسجد وشجرة تين وأعمدة رخامية تشبه تلك التي في لبدة

قطعتُ طريقي اليوم من الورشة إلى بيتنا، أول كيلومتر كان قريباً من “جزيرة 25 فبراير”، تذكرتُ يوم خروج المتظاهرين التواجير مشياً على الأقدام كما فعل أجدادهم متجهين إلى السراي الحمراء، كنتُ واحد بين ألاف المتظاهرين الذين يقطعون ولأول مرة مسافة 20 كيلومتر من مسجد مراد أغا قاطعين أحياء تاجوراء الغربية، وداخلين إلى أبناء بن الأشهر في الطريق الجديدة، طريق ترابية كانت جاهزة منذ سبعينيات القرن الماضي ليتم سفلتتها، كانت الطريق قد تحولت إلى أوحال إثر مطر غزير الليلة التي مضت المظاهرة، لكن لم يثنِ ذلك الجماهير أن تقطع الطريق بالقرب من شُرفة الملّاحة، المنطقة التي كانت مضماراً لسباق سيارات الفورميولا أيام العهد الإيطالي، ومن ثم تدخل إلى عرادة الموحلة وتصل إلى الهاني حيث واجهها جنود العقيد بالرصاص والغاز المسيّل للدموع، لتعود جرياً على الأقدام في أزقة عرادة هرباً من ملاحقة الجنود إلى تاجوراء.

كانت تاجوراء منذ مئات السنين مصدراً لقلق الأنظمة المتلاحقة، اشتعلت فيها ثورات أقلقت سيدي يوسف القرامنلي حاكم طرابلس بثورة من أحد المدعين بالمهديّة، كما أقلقت قبل ذلك الإسبان وبدأت حركة لتحرير طرابلس من “التنصير” واستضافت الحاكم العسكري مراد أغا الذي تحول حصنه إلى مسجد شهير استضاف ولأول مرة بعد الاحتلال الإيطالي أول مؤتمر وطني بقيادة الزعيم بشير السعداوي، وقد كانت في تسعينيات القرن الماضي تخبئ الإسلاميين الذين يبحث عنهم القذافي قبل هروبهم إلى مناطق أبعد داخل البلاد، كما أحرقت يوم 17 فبراير 2011 أول مثابة ثورية في مدينة طرابلس من قبل متظاهرين غاضبين.

دب في حي البلاط باسطنبول، واحدة من رحلات المشي خاصتي

وعلى غرار طرابلس، امتلأت الضاحية الشرقية بشوارع تُرابية يمر منها القليل من الإسفلت، واختفت فيها محطات الحافلات، طرابلس نفسها مدينة تختفي فيها وسائل المواصلات العامة، مدينة لا تشجع على المشيْ، بلا محطات للحافلة العامة – إلا حديثا وبمحاولات شبه خجولة من شركة السهم- ولا محطات ميترو ولا قطارات ولا ترام ولا شيء من هذا القبيل، إما تركب السيارة أو التاكسي النادر الوجود -وبدون عدّاد- أو حافلات النقل الخاصة كالإيفكو، أشهر وسائل المواصلات الجماعية في المدينة، وهي حافلة من شركة إيفكو المصنعة للشاحنات والحافلات تضم ستة عشر مقعداً وممرر قد يضم فيه إثنى عشر إنساناً بالغاً – وهي حمولتها اليومية-، أو حافلات النقل الصغيرة بست أو إحدى عشر راكباً.

  • الكيلومتر الثالث:

في ستينيات القرن الماضي وبعد اكتشاف النفط في البلاد، أخذت حكومة المملكة الليبية قراراً غرائبياً وغير مدروس، وهو إيقاف العمل بالقُطر ومحطات القطارات التي بناها الإيطاليون قبل ذلك، وبدأت في تسهيل إجراءات استيراد السيارات، ودعم ضخها في السوق الليبية، وبهذا بدأ الليبيون يودعون عادة المشي، ولم تعد تاجوراء على مسافة أقدام للمشي إلى طرابلس، صارت على مسافة عشرين كيلومتر يمكن قطعها في رُبع ساعة على طول الطريق الساحلي، ولهذا خرج اسم جديد للضاحية، اسم ربما له علاقة بحُب العقيد القذافي لتعريب أسماء المدن الليبية، صارت زليتن ظل التين، ومصراته من مصر أتى، وتاجوراء تاج أورا.

من كنوز شروذي ومشيي في هيلفرسوم بهولندا

صار الناس يتناقل أنّ أصل تسمية تاجوراء هو فدقان ملكة رومانية تدعى أورا لم أجد لاسمها أي مرجع يفيد بذلك، لتاجها في المنطقة، فصار الناس يبحثون عن التاج المزعوم دون فائدة، وهي قصة بها الكثير من السُخف، كما أنّ محاولات أخرى لتعريبها قالت أنّها تعني التجارة، كناعورة من النعير، ولكن لا أرجح هذه التسمية، فتاجوراء لم تكن يوماً منطقة تجارية رغم وجود بعض الأسواق فيها كحال الكثير من المدن والقرى الليبية، وهي أيضاً لم تكن ميناءً للسفن رغم امتهان أبناءها الصيد البحري وكونهم من بحّارة القراصنة القرمانليين، فتأريخ سكّان البلدة له ارتباط بالزراعة أكثر من التجارة أو الصيد البحري، وحتى أسواقهم القديمة تعرض فيها المنتجات الزراعية التي يتم زراعتها في المنطقة.  حتى الصور القديمة المتوفرة للمنطقة توثق أعمالاً زراعية للسكان لا أعمالاً تجارية.

صور أرشيفية لتاجوراء في الأربعينيات والخمسينيات

أتطلع الآن لمجموعة من الصور القديمة لتاجوراء، تظهر في الكثير من الصور مجموعة من الدراجات الهوائية في الخلفية، تفصيلة قد لا يتم ملاحظتها إذا لم تفكر في فعل الحركة، وأتذكر بعد هذه الصور دراجة جدّي القديمة، إنّها تشبهها تماماً في التفصيل، كنا ننظر لدراجة جدّي بقداسة وهي مركونة في فناء بيته الذي صار يمتلئ بسيارات والدي وأعمامي، كبر جدّي على قيادتها وحرّم أن يركبها أحدٌ بعده، عادة قديمة تجري في أبناء العائلة، نحنُ نحب أشياءنا حتى أننا نرضى أن تفنى أمامنا دون أن يلمسها أحد غيرنا، الأمر ذاته حدث مع سيارة والدي أودي ٨٩ التي رافقته خمسة عشر عاماً قبل أن يودعها للصدأ.

يبدو من الصور أنّ الدراجة كانت وسيلة المواصلات المفضلة لدى العديد من الرجال في المنطقة وربما في البلاد بأكملها في الأربعينيات والخمسينيات، اختفت الدراجات كما اختفت القطارات من البلاد مع نهاية عقد الستينيات، وصارت الدراجة وسيلة للعب من قبل الأطفال، كما صارت عادة المشي وسيلة للرياضة أو للمجانين.

صور أرشيفية أخرى في تاجوراء، يمكن ملاحظة مجموعة من الدراجات المركونة

في مارس 2018، وطأت أرض أمستردام، ورغم أنني سمعتُ عن حبهم للدراجات وأسلوب حياة الشعب الهولندي الرياضي والصديق للبيئة لم تصدق عيناي ذلك الهوس بالدراجات، طرق معبدة لها ومخازن ركن بأدوار ثلاثية وخماسية، وطرق سريعة واسعة مخصصة لهذه الميكنة الهوائية التي وقعتُ في حبها في طفولتي، أشكال مختلفة من الدراجات، والأولوية في الغالب لسائق الدراجة حتى على حساب المرتجل، أطفال، شباب وفتيات جميلات ورجال طاعنين في السن وكتاب وفنانون وسياسيون، الكل يرتاد الدراجة، في أمستردام وأوتريخت وروتردام وهيلفرسوم وفي كل مدينة وزقاق وشارع. ويبدو الدرّاجون أكثر حدّة من سائق إيفكو، كنتُ أتأمل تصرفاتهم اتجاه السيّاح الذين ينسون وجودهم في الممر المخصص لهم، رأيتهم متعجرفين قليلاً وغاضبين، بينما كنتُ أفضل المشي لما يكسبه لي من تأمل واكتشاف ما لا يمكن اكتشافه بوسائل التنقل الأخرى، في تلك الزيارة الأولى لم أركب الدراجة.

روتردام، هولندا، الدراجات مشهد اعتيادي في كل مكان

في زياراتي المتلاحقة استعرتُ دراجة من صديقة عربية هولندية، وكنتُ يومياً أركب الدراجة إلى مكان الدراسة، كانت الحركة داخل هيلفرسوم انسيابية بالنسبة لدرّاج مثلي، وذلك نظراً لشبه اختفاء السيارات في تقاطعات الطرق، ونظراً للطرق المعبدة وإشارات المرور التي تساعدك في التنقل، اكتشفتُ وقتها القوانين المخصصة للدراجين، قد يتم إيقافك ومخالفتك فقط لأنّ ضوء دراجتك في الليل ضعيف، أو لأنّ مكابحك لا تعمل بطريقة جيدة، كما يمكن مخالفتك إذا قطعت إشارة المرور الحمراء، وقد تُصادر منك دراجتك إذا تحركت بها في طريق معاكسة أو ركنتها في مكان غير مخصص لها، قوانين وقواعد لا تطبق حتى على السيارات في ليبيا.

  • الكيلومتر الرابع:

قبل أن أصل إلى جزيرة 25 فبراير، أقرر أن أقطع الطريق بحذر من السيارات المتلاحقة، وأدخل أحد الشوارع الترابية هارباً من ضجيج الحركة في واجهة البلدة، أدخل شوارعاً ترابية تكادُ تنعدم فيها حركة السيارات، أدخل إلى الواحة متأملاً في المنازل والأشجار وأطمئن عندما أرى رموز البلدة لوحدها دون وجود مقتعدي الطرقات؛ رجال الأمن غير الرسميين الذين تبدأ دورتهم الرقابية عند الظهيرة.

في رموز البلدة مظاهر من تاجوراء القديمة التي اعتدتُ أن أمشي فيها؛ أشجار توت للظل، بئر أوبجناح (بير عربي) قديم، أشجار النخيل على جانبيْ الطريق ترشدك إلى مخرجك من الشوارع، بعض الأضرحة الخفية التي تكاد تتهالك، منازل قديمة وحديثة ومشاهدات يمكن التقاط هُوية المكان التي تكاد أن تختفي.

تجعلني مسيرتي بينما أتحرك بثقلي حاذراً من أوحال أمطار سقطت من أسبوع، أفكر في عادة المشي ذاتها، تقول تقارير صحية أنّ بليبيا نسبة كبيرة من البدانة، 30% من سكان البلاد يعانون من نوع من السمنة، تزيد نسبة الدهون عند الإناث عن الذكور، وهذا بالطبع يعود إلى التركيبة الاجتماعية والدينية لليبيين، ينذر وجود الأنثى راجلة في الشوارع العادية إلا لأغراض التسوق في الأماكن المشهورة بالأسواق أو لزيارة الأقارب، أو لبعض الحاجيات الأخرى، يتحصن الليبيون من بعضهم البعض بالكائن المعدني المسمى جزافاً سيّارة.

دراجتي التي كنتُ استخدمها، تعود للصديقة الرائعة عبير

لا أذكر آخر مرة رأيتُ فيها هدهداً أو لاحظتُ المحيط الذي حولي، ربما كان الأمر منذ ثمانِ سنوات، عندما تخليت عن عادة المشي اليومية كل صباح من بيتنا إلى محطة الإيفكو الوحيدة -وغير الرسمية- على بعد كيلومتريْن حتى أذهب للجامعة، ولكن اليوم كنتُ أسمع صوته بينما يختبئ فوق إحدى أشجار النخيل، قُدِّر لي أيضاً أن أتتبع رائحة شجرة نسيم كنتُ أشكك في وجودها بالضاحية بينما أحتمي من الليبيين وضوضاءهم داخل وحشي المعدني، تتبعتُ آثار زمان سابق في معلم قديم نٌقِش فوق بابه نجمة وهلال قديميْن، كما تمكنتُ من استعادة خريطة شارع من شجرة نخيل تخترق جدار منزل اعتدتُ على رؤيتها أيام كنتُ أدخل الشارع في طريقي إلى محطة الإيفكو.

  • الكيلومتر الخامس:

أملك ذاكرة عضلية ممتازة، تساعد هذه الذاكرة العضلية ذاكرة وصفية وطريقة عمل دماغي التي ترسم الخرائط في كل مكان جديد أدخله، يمكنني الآن فقط أن أرسم لك خريطة فندق كنتُ أرتاده في إسطنبول يبعد عن ساحة تقسيم بعض الكيلومترات وأخبرك كيف يمكن الدخول إليه من أكثر من ناحية؛ ولهذا أبدو كمرشد سياحي بالنسبة لأصدقائي الذين ينسون كثيراً الأماكن التي ارتادوها وكيفية دخولهم لها، لا يهم كيف دخلتُ للمكان ماشياً أو بالسيارة (المهم أن أكون في المقود) اطمئن أنني سأذكر كيف أدخل وأخرج منه لوقت طويل في حياتي، على خلاف ذاكرتي الإسمية الضعيفة، التي تخونني أحياناً في تذكر حتى اسمي ذاته.

زيادة على الراحة النفسية التي تضيفها عادة المشي وفائدتها الصحية، فإنّها تضفي عليْ فائدة أخرى، أدخل شارعاً أذكر اسمه فقط لارتباطه باسمي، هو الحي الذي اختاره أجدادي “النّعاسة” لوجودهم في تاجوراء، في أحدِ أزقة النّعاسة مسجد قديم ربما صليتُ فيه ذات مرة، أمام المسجد قطعتيْن من الرخام المفصلة على الطريقة الرومانية، موجودان للزينة، تشبه قطعتيْ الرخام نهايات الأعمدة الرخامية في مدينة لبدة الأثرية، المدينة التي ذهب التواجير ليأخذوا أعمدتها ويبنوا حصن مراد أغا ومسجده، في النّعاسة أيضاً بيت لكريّم، كريّم كان كثير المشي ويتحدث لنفسه، يمكنك أن تصنت له ولأحاديثه مع نفسه بينما تمر بجانبه، كنتُ أخاف كريّم في طفولتي لأنّهم كانوا يقولون لي بأنّه يتحدث مع الجن، وأنا الآن بينما أمشي أفعله ما كان يفعله بالضبط، إلا أنّه كان أشد شجاعة مني، فأنا لا أجرؤ بأن أنطق الكلمات التي أحدث بها نفسي بينما أمشي.

طريقي اليومية من الهوتيل إلى مكان الدراسة في فصل الخريف بهيلفرسوم، طريق مخصص للدراجات فقط

أحد أبناء شارعي، شارع “الشاحنة الحمراء”، قيل أنّه جُنّ من عادة المشي – بالطبع الأمر ليس حقيقي إذ أنّه كان ضحية عنف أسري- بعد وفاة والده، كنتُ أراه وأنا في وحشي المعدني بينما يقطع كافة أزقة وشوارع تاجوراء دون كلل، في الصباح، في الظهيرة، في المساء والليل، لم يفتأ عن المشي كما فعل فورست قامب، إلا أنّه على غرار فورست قامب كانت نهاية مشيه مأساوية، مات ذلك الفتى العشريني بحادث ارتطام سيارة به في الليل.

تعد ليبيا إحدى أكبر دولة المنطقة في نسب الحوادث المرورية منذ زمن، مقابر عديدة للسيارات تنتشر منذ التسعينيات في كل شبر من البلاد، تسمى هذه المقابر “رابش”، الكلمة مأخوذة من اللغة الإنجليزية. نفايات حديدية خلقت فعلاً في اللهجة الليبية، حيث صار المقيمون على هذه المقابر يتاجرون بأعضاء السيارات لصالح سيارات أخرى تحتاجها، صاروا “يربشون”، الإنسان الذي “يربّش” هو الذي يستفيد من الخردة التي يعتقد البقية أن لا فائدة منها.

أوتريخت، هولندا، مدينة المشاة

لازلتُ أذكر منظر “الرابش” القديم الذي يحنو على بيت عمي الواقع في طريق إيطالية قديمة، طريق لم تمسحها آثار الزمن والسيارات والشاحنات كما فعلت مع العديد من الطرق الليبية الحديثة والتي يعود عُمر بعضها إلى أقل من عام، في الطرق الإيطالية يمكنك ملاحظة وجود المرشابييدي على حافتيْ الطريق حتى وإن اختفت معالمه وصار مجرد تراب وأعشاب، بينما يختفي في الطرق الليبية الحديثة هذا المرشابييدي، شارع النّعاسة نفسه وبعد تحول بعض أزقته منذ خمس سنوات من أزقة ترابية إلى إسفلتية لا وجود لمكان للمشاة فيه، إنّه مصمم خصيصاً للسيارات.

لم أحب قيادة السيارة يومياً، تأخرت على أقراني في قيادة السيارة، تعلّم أخي الأكبر قياتها في الثالثة عشر وبدأ يقود سيارته الخاصة في الثامنة عشر، بينما كنتُ أخاف “السواقة” حتى وصلتُ لعمر الحادية والعشرين، عندها اضطراراً تعلمتُها، داخل السيارة فارقت المحيط الخاص بي، ولكنني أحببت السفر بها إلى مسافات طويلة، لا أحب القيادة إلا في المسافات الطويلة، أفضل أن أسافر من طرابلس إلى بنغازي في طريق شبه خالية من السيارات على أن أدخل حي الأندلس، أحد أشد أحياء طرابلس ازدحاماً.

  • الكيلومتر السادس:

 في بدايات علاقتي بطرابلس كمدينة، كنتُ أستقل الإيفكو إلى الظهرة الواقعة في قلب المدينة، أترجل عن الإيفكو لأمشي مستكشفاً شوارع الظهرة وشوارع وسط البلاد، اكتشفُ أثراً إيطالياً أو مقهىً أو مكتبة واقعة في مخبئ عن أعين المتطفلين، أمارس رياضة تفادي السيارات المركونة على المرشابييدي وأبحث في عمارات ومباني المدينة، وأرتبط بجمالها المتوشح الخراب وأقع في حبها. ساعدني المشي على حُب المدن؛ لم أكن لأحب تونس العاصمة لولا اعتياد أرجلي على حاراتها وأزقتها وشوارعها وأرصفتها، ولم أكن لأقع في غرام إسطنبول لولا تعرفي على منعطفاتها ومنحدراتها الوعرة.

خارج الأسواق والحلبات الرياضية تنذر ثقافة المشي في المدن الليبية، ولهذا بعيداً عن واجهاتها سترى بنية تحتية متهالكة، أمر كدتُ أنساه لولا قراري بأن يغيب جسدي عن الطريق العام في الحومة حيث أقطن، تحولت الحومة عبر سنوات ست من طريق تتفادها السيارات والأعين إلى عصب جديد لتاجوراء بعد أن غزاها الإسفلت من بداية الطريق الجديدة في بن الأشهر غرب تاجوراء إلى الحميدية، بدأ الناس يفتحون دكاكين في المنطقة التي بقت لزمن طويل تحمل في طياتها عشر دكاكين على الأكثر، هُدِمت منازل وصعدت بدلاً منها واجهات تجارية، وهُدِم “قراج” قديم على الطريق كان يعيش فيه عامل مغربي يُدعى الأزرق قبل أن يُقتَل في دكانة بالقرب من القراج أغلقت إثر ذلك لعشر سنوات أو أكثر خوفاً من “غولة” الأزرق التي سكنت المكان، بُني بدلاً من القراج والدكانة الصغيرة محل واسع وكبير وجديد لبيع الملابس، لم أفكر يوماً أن يكون هناك محل لبيع الملابس تفصل بيني وبينه مئة متر فقط.

كنتُ عندما أريد شراء ملابسي، أقطع مسافة كيلومتريْن إلى وسط تاجوراء، تخيّل. صار الآن بإمكاني الدخول لدكانة بيني وبينها مسافة أرجل، ورغم ذلك إذا أردت الذهاب لها، سأشغل سيارتي كغيري وأركنها بجانبها.

بعد سهرة طويلة، الساعة الخامسة فجراً باسطنبول، شارع الاستقلال، شارع المشاة

من دلائل اختفاء ثقافة المشي في البلاد، ارتباط الليبيون بالسيارة ثقافياً، أدخلت المصطلحات التي تتعلق بالسيارة في اللغة الدارجة، بالإضافة لفعل ” يربّش” هناك أفعال وأسماء وصفات تستخدم يومياً، يميلُ الشباب لوصف مؤخرات الفتيات الفاتنة بالـ ” الكارونا” ارتباطاً بمؤخرة السيارات الألمانية التي تتحرك بحرية عن جسد السيارة، كما أنّ المغامرون جنسياً منهم “يغيرون الزيت” في تونس وصفاً لفعل الجنس، والرجل أو المرأة المكافحين والذين لا يتوقفون عن الحركة “كاتينتهم حديد”، و”خش فيا حادث” تعني صدمتك عفوية شخص جديد عليك،  وسيئي السمعة متعددي الأوجه ” ماعندهمش طارقة”.

هذه المصطلحات وغيرها توضح ارتباط الليبيين بالسيارات، تحضر السيارة في الفن الليبي تعزيزاً لهذه الثقافة، كاريكاتيرات الزواوي مليئة بالسيارات في شواطئ البحر وفي أماكن عجيبة، هذا بالإضافة لحضور السيارة في الموسيقى، ففي أغنية للشيخ الصديق بوعبعاب بعنوان “مرسيدس”، يحكي الشيخ الصديق قصة سائق سيارة مرسيدس من السلوم إلى بنغازي وفكره الذي تبخر في سيجارة وهو يتذكر فتاة رآها. العقيد القذافي نفسه، جعل للسيارة (المركوب) أهمية في أطروحاته في الكتاب الأخضر، إذ أخبر الليبيين أنّ ” المركوب لراكبه”، فأصاب الناس مرض تتبع الأغنياء وسرقة سياراتهم بحجة أنّ لديهم أكثر من سيارة، صار الشوفير وسائق التاكسي في الشركات الخاصة هو صاحب السيارة، فقط لأنّه كما قال القائد كان سائقها.

من اكتشافات المشي والجوع في الساعة الرابعة فجراً باسطنبول

وفي لوحة سوريالية، وعند تتبع منشورات وأخبار وزارة داخلية حكومة الوفاق، يمكنك ربط كيف تنظر الدولة الليبية لهيبتها عن طريق السيارات، ففي كل مرة تشتري فيها وزارة الداخلية مجموعة من السيارات الحديثة، ترفق أنّ هذا الأمر هو من أجل هيبة الدولة، أمر صار ملحوظاً منذ سنوات، فهناك سيارات بعينها لطالما أخافت الليبيين، سيارة تويوتا 27 الرباعية وتويوتا “اللبوة” كانت ولازالت على مدار عشر سنوات تثير الرعب في قلوب الليبيين، كما فعلت قبلهم “تويوتا تندرا” أيام الثورة.

ولسيارة تويوتا نفسها، قصة طريفة مع ليبيا، إذ يُذكر أنّ أول استخدام واسع وشامل لسيارات الدفع الرباعي خاصتها “تويوتا ثعلب”، كانت في الحرب الليبية-التشادية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات بالقرن الماضي، حيث كان لتلك الحرب اسم غير رسمي نقلته الصحف العالمية، سمت الصحف الحرب الليبية التشادية ” حرب التويوتا العظيمة”، حيث كشفت كيف تستفيد الشركة الكورية من الحروب، الآن، باتت سياراتها وبعد الربيع العربي الراعية للحروب الأهلية في اليمن وليبيا.

طرابلس، خارج زجاج السيارة

في عام 2011، وفي أيام الثورة أدرك التواجير والليبيون بصفة عامة، أنّ قوتهم تمكن في شوارعهم الخلفية لا في الواجهات، وفي هروبهم من السيارات لا في احتمائهم بها، أذكر أنّ أحد أبناء الحومة اعتقلته الدولة وحكمت عليه بالإعدام لأنّه فجّر عبوة غاز منزلية في سيارة “تندرا” التي كان المتطوعون في خدمة النظام يجوبون الشوارع بها، لحسن حظ ذلك الشاب أنّه عند دخوله للسجن نفذت الأردية البرتقالية التي يلبسونها للمحكومين بالإعدام. حتى في 20 أغسطس، موعد تحرير طرابلس من قبل الثوّار، اعتمد الثوّار على معرفتهم بشوارعهم واختبائهم فيها لقلب النظام ومحاربة جنود النظام الذين كانوا يقودون سياراتهم في العراء. اعتمد الثوّار مجدداً على التُربة وعلاقتهم بالمكان حتى يصل الدعم من جيش “التحرير” من المدن الغربية والشرقية المحررة.

اليوم، بينما أقترب مشياً من البيت، أذكر كل هذا من التفاصيل الصغيرة التي أراها في الشوارع، تفاصيل كدتُ أنسى وجودها، بئر بوجناح الذي كان أبناء الحي يجتمعون فيه ليلة 20 أغسطس للتحضير لمحاصرة الطريق الجديدة، شجرة توت كادت تخترق رأسي بقربها رصاصة طائشة في صباح اليوم التالي، أذكر كيف سقط فتىً في يوم 25 فبراير 2011 أمامي مضرجاً بالدماء في الهاني مقابل سوق الحائس، وأذكر كثافة الغازات المسيلة للدموع التي دفعتنا للجري داخل أزقة عرادة، وأذكر أنني مشيتُ في ذلك اليوم 40 كيلومتر ذهاباً وإياباً بين طرابلس وتاجوراء.

3 Comments

  1. Muaad says:

    جميل جدا يا محمد، تحياتي

    Like

  2. حتى أنا يوم جيتك في الفاتحة ضربت شوط باهي واللهي

    Like

Leave a Comment