الرقص مع ألحانِ المُدن.. أو كيف تطاردني طرابلس بأصواتها.


في صغري، كان يأتي بائع الوراكينا[1] يومياً ليصيح في شارعنا الهادئ تماماً، كان للبائع حنجرة نحاسية جهورية شابة تشبعت بسجائر الرياضي، ينادي بها: وراكينا…وراكينا. كنتُ أخاف وجوده في الشارع، فقط لأنني قد أتعرض لمخاطرة فقد ألوان ملابسي. لكنّني كنتُ أحب بائعا آخرا وبصوت يشبهه، يقود سيّارة بيجو 504 أو عقرب ريح -كما كنّا نسميها- ينادي لعائلات الحي يحثهم على شراء السمك: حوت حوت… سردينا، كوّالي.

أصوات أخرى كانت تنتقل عبر الهواء في حيّنا، هدهدة الهدهد وسجع اليمام وفي بعضِ الأحيان كان يمكنك أن تسمع نقيق الضفادع – الجرانات حسبما كنا نسميها- المتجمعة حول جابية ما، مواء القطط وصياح الديْكة وأحاديث العتاتيق[2] وثغاء الأغنام وحفيف النخيل، نداء أم تصيح بابنها، وكرة تُركل يمتزج صوتها بنداءات أطفال يتجارون خلفها. الجرس المدرسي على رأس كل ساعة، التلاميذ في الطابور الصباحي أو الاستراحة، وتعليمات مدرس الرياضة يأمرهم بأن: استااااااريح. فيرد الأطفال ملوحين أيديهم للخلف وضاربين بأقدامهم اليمنى على الأرض تاركين فراغاً بين أرجلهم كالعساكر: عرب ثوّار. يصيح هو مجدداً: استااااعد. يعيدون أياديهم لتلتصق بأجسادهم ويلصقون أرجلهم ببعضها ويملؤوا حناجرهم مناديين: عرب أحرار.

بعضُ هذه الأصوات اختفى من الحيْ، بعضها الآخر تبدلت صيغته، مع تمدد العمران في الحي الشاب مقارنة بالأحياء المجاورة، اختفت هدهدة الهدهد، ومع تغلغل الرأسمالية المشوّهة في السنوات العشر الماضية ترك بائعا الوراكينا والحوت عادة التجول في الشوارع، لم يعد البزنس مجدياً، الضفادع اختفت من المكان بينما كان يمكنك مشاهدتها تقفز فوق برك الماء، والتلاميذ استبدلوا صياحهم بأنّهم عرب ثوّار، بكونهم مجرّد ثوّار، هذا بالطبع قبل أن يسكت الوباء الجرس المدرسي والطابور الصباحي.

  • صوتُ القهوة:

كانت تاجوراء في العموم، بلدة هادئة، وأظنّ أنّه لازال بها بعض من الهدوء. استمر الزمن في الاستطالة وتبدلت الأحوال، وحلّت فيها أصوات جديدة، لم يعد الآذان يؤذن من الشيوخ الكبار، بل من شباب في المجمل. كما حلّت فرقعات الرصاص والألعاب النارية ومزامير السيارات والراب التونسي بدلاً من المرّوكي والمرسكاوي، زئير مولدات الكهرباء ومحركات السيارات العديدة طغت على أصوات كان بإمكاني سماعها، كبومبة مياه في بيت الجيران أو غسيل الأواني في مطبخهم أو ركض إنسان.

الصوت فيزيائياً هو تحرّك مجموعة من الموجات في الهواء، الماء أو أي سطح معدني، لا يمكن للصوت أن يتحرك في الفراغ، لا يوجد صوت في الفضاء. لكن الصوت معنوياً هو هُوية مصدره، احتفلت اللغة العربية بالصوت حتى أنّها خصصت لأدق الكائنات ومكونات الكرة الأرضية أصواتاً لها لا لغيرها.

ولهذا، أميل أحياناً إلى تسمية المدن بأصواتها. تاجوراء، حيثُ ولدت وترعرت ودرست وكبرت لها صوت، وتاجوراء الآن لها صوت مختلف عن تلك التي عايشتها في التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، لطرابلس أصوات خاصة بها لا تسمعها في مدن أخرى، لها موسيقاها وضجيجها وهدوءها. لأمستردام هويتها الصوتية التي يمكنك الاستمتاع بها من سماعك لأجراس الدرّاجين واستغلالهم للهواء لتحريك درّاجاتهم، لها أجراس كنائسها الخاصة ولأبوابها الخشبية العتيقة أصواتها الخاصة. تونس في أصواتها تختلف تماماً عن الحمامات، الإسكندرية تختلف عن القاهرة التي تضج بالناس. لنيروبي الكينية وسيارات أجرتها وحافلات الموتاتو (حافلات الحفلات كما تُدعى) أصوات ميكانيكية وموسيقية تختلف تماماً عن جِربة التونسية، ولإسطنبول أصواتٌ متنوعة تجعل من كل محلّة أو حي فيها له هُوية خاصة به.

أعتقدُ أنّ لكل منّا أصوات يربطها بالأماكن التي زارها أو عاش فيها، بالنسبة لي فحيّنا الآن أربطه بصوت أمي وهي تنادي علي، أو بحركتها في بيت العائلة تحت شقتي وهي تصنع النهار لأبي، تنشر الملابس أو تسقي النعناع أو تحاول إيجاد حل ما لمشكلة تكدس التُراب في جنان البيت، أمي امرأة هادئة كورق الخريف لا تثير ضجة عند حركتها. أربطه بصوت فقاعات الأرقيلة التي تخرج من استشناق والدي لدخانها، أو عراكات ضيوف فيصل القاسم في قناة الجزيرة آتية من الصالة حيث يجلس. ليوم الجمعة أصواته الخاصة في بيتنا، مرتبط بشغب الأطفال وضحكات أخواتي ونداءاتهن غير المتوقفة. حركة كرسي في مقهى دي روما، وأحاديث أصدقائي وضحكاتي غير “المحترمة” كما يصفها صديقي الأمازيغي ساخراً على إحدى نكاته، ووضع أحدنا لكوب قهوته بعد أن ارتشف منها كمية جيدة.

لا أتمالك نفسي من تذكر طرابلس عندما أسمع طحن القهوة في أي مقهى في أية مدينة في العالم، الإناء الذي يمسك به أسطى القهوة بينما يرغّي الحليب وهو يجهز لي الكوب بينما أشاهد العملية الممتعة، هذه طرابلس بالنسبة لي: صوتُ القهوة، زمامير السيارات، الألعاب النارية في الصباح والمساء، أغنية طرابلسية قديمة مفقودة في مسجلة عربة بائع في ميدان الشهداء، محركات السيارات غير المتوقفة، وصوت واحد لم أسمعه إلا فيها، بالقرب من ميدان الساعة، حيث يضرب النحّاسون في سوق القزدارة على النُحاس.

لكن طرابلس لها أصواتها الأخرى التي تخفيها زحمتها غير الاعتيادية، أذكر أحد الصباحات الباكرة حين كنت أمشي وحيداً داخل المدينة لأكتشف أصواتا جديدة، ارتطام قدميْ ببلطاتها، ألحان أغنية ليبية تحررت من سطوة إحدى شقق وسط البلاد، كما أمكنني من سماع خرير مياه شبكة المجاري تحت أقدامي. في الساعة التاسعة صباحاً يندمج لحن جديد لألحان طرابلس، لحن انفتاح الأبواب الحديدية للدكاكين، بعضُ المدن لا تملك هذه الأبواب. ولكن رغم أنّ طرابلس مدينة بحرية ولها مرافئ وميناء كبير، لم أسمع يوماً البواخر والسفن وهي تعلن عن انطلاقها.

  • سجّادة الأصوات:

على العكس، في محلة المجيدية ببشكتاش في إسطنبول حيثُ أقطنُ الآن، أستمع في الصباح لسفينة قارب موعد خروجها من الميناء، تطلق نداءً يشبه نداءات الحيتان. في بشكتاش أيضاً، أصوات لا أسمعها في طرابلس، النوارس وهي تحلّق عالياً دائماً بحثاً عن وليمة فوق الأبنية، نعيق الغربان ونباح الكلاب الذي لا يسمع كثيراً في بلدة كتاجوراء. في إسطنبول أيضاً أصوات في مكبرات الصوت في أيام كالسبت تأتي من المساجد، وآذان الأوقات الخمسة فيها يختلف عن أي آذان قد تسمعه في حياتك.

إسطنبول كمدينة لا تخجل من الإفصاح عن هُويتها الصوتية، كما لا تتردد في الاستحواذ على هُويات مدن أخرى ودمجها في هُويتها الخاصة، هي كقطع السجّاد الأناضولي، تخلط الألوان والألحان الموسيقية وتمزجها ثم تنسجها لتخرج هُوية إسطنبولية متناغمة. احتراق لحم الدجاج، الخراف أو أحشاءها في النار في دكاكين الشاورما المنفتحة على الرصيف، الدراجات النارية، مواء القطط في كل زقاق، المكابح الهوائية للحافلات العامة، ضجيج الشارع واللغة التركية وضرب أرجل المشاة في كل زقاق وشارع، مناداة باعة الكومبير في المناطق السياحية، وعزف لاعبي العود في الميترو والغناء التركي الذي حتى إذا لم تفهمه يمكنك الإحساس بأنّ به شجن وحزن خفييْن. هذه هي إسطنبول وأكثر.

لا شك أنّ مدننا بدأت تشبه بعضها البعض، وإلا لما كنا نعيش في عصر تسيطر عليه العولمة والرأسمالية. من سمات العولمة هي خلق نسخ متشابهة الهُوية في العالم، وبهذا يختفي عنا الشعور بالتفرد والاندماج في المدن التي نعيشها، للوهلة الأولى قد تبدو ضوضاء زُحام السيارات في طرابلس يشبه الذي بتونس والقاهرة ونيروبي، وهو أمر به صحة كبيرة، لم تترك لنا العولمة الفرصة للتوقف والبحث عن أصوات الأماكن، نمضي غالبية أوقاتنا في العادة بالغوص في أفكارنا ومواعيدنا ومشاكلنا وننفصل عن محيطنا ليصبح مجرد جلَبة أو صدى في الخلفية، أو كما يقول الأمريكيون ” Just a background noise”.

  • صدى المدن شبحها:

من آثار العولمة في تاريخ مدينة كطرابلس أنها ودّعت أصوات كانت تمتاز بها شوارعها، حتى العيش في طرابلس نفسه يدعوك للغوص في نفسك أكثر وإغلاق زجاج نوافذك عن الجميع، لطرابلس صدى يأتي من عقود مضت، صدى حوافر الأحصنة وعجلات الكاروسّا[3]، صدى خطابات الأخ القائد وشعاراته ودعواته في ساحاتها وبيوتها، صدى الدُوتشي والفاشية التي بنت جزءاً كبيراً منها، وصدى لبنادق المجاهدين الليبيين في معركة الهاني. الصدى في المدينة هو شبحها، شبحها الذي لم يعد يُسمع إلا من خلال الأشرطة والتسجيلات المتبقية التي تدل على أنها كانت موجودة. الموسيقى نفسها هُوية زمنية عابرة.

لا يمكنني منع نفسي من ربط ألحان ديسكو أحمد فكرون مع الهُوية الموسيقية لليبيا كبلد وطرابلس وبنغازي كمدن إلا مع عهد السبيعينيات والثمانينيات، لا يمكنني ذلك، بالنسبة لي أغاني الديسكو التي أنتجها أحمد فكرون هو الصوت الموسيقي ليبيا الثمانينيات، ربما لآخرين قد يكون فنان آخر أو شخصية سمعها، وهنا يظهر جمال الصوت كهُوية مدنية، إنه مزيج جمعي لذكريات الجماهير عن المكان. البعض يفضل أن يتذكر مدينة كطرابلس بأصوات باعة الخضار في سوق الجمعة، والبعض الآخر يفضل أن يتذكر صباح يوم الجمعة من يناير في العام ١٩٩٤ مثلاً بموجة من المألوف والموشحات خارجة من حنجرة حسن عريبي.

” فتنا النخل والديس وتعدينا، لحقنا الندم ياريتنا ولينا”، لم تكن هذه الكلمات تشكل في ذاتي أي فرق، لا هي ولما يتبعها أحمد الحريري من كلمات بغناء سلام قدري وحنينه للوطن ” فتنا وطن الحنة، نحساب يجفانا، ويجفل عنّا، لقيناه باني في القلوب محنة، تاريت الوطن مداير كبيدة علينا”، إلا أنّ مقطع بسيط في هاتفي جعلني أحترق دمعاً وأنا أستمع للأغنية، صورت ذلك المقطع في ظهيرة السبت الموافق نوفمبر الأول 2020 لأمي وهي تطعم الحمام في ميدان الشهداء بطرابلس، تمتزج أصوات داخل المقطع، صوت أمي وهي تضع يدها في الكيس المليء بالذرة والحمام يحوم حولها بهديله بينما تخرج الألحان من عربة تبيع السبول[4]، تخبرني بفرح طفولتها المعتادة ” صوّرني…صوّرني”، وهي دعوة نادرة؛ إذ أنها تخشى الكاميرا، ضحكة أختي تخرج من خلف السماعة، وأمي تخرج ضحكة بهجة. هذا هو ميدان بالنسبة لي، هذه هي هُويته الصوتية، وهذا ما سأتذكره به ما دمتُ أقطن خارج طرابلس وتاجوراء. هذا هو صداه.

  • سمفونية الفوضى:

كنتُ قد كتبتُ منذ أعوامٍ ثلاثة في لحظة غضب دعوة مفتوحة -ولازالت كذلك- للموسيقيين الليبيين، دعوتهم لإنتاج سموفنية سميتها “الفوضى”، وضعتُ مقترحاً ساخراً -رغم جديته- لمجموعة من الأصوات التي يمكن مزجها في سمفونية أو قطعة موسيقية، رأيت أنّ تلك الأصوات تعبر عن الفترة التي نعيشها وقد تكون جزء من ذاكرة الأجيال عن الحرب الأهلية الليبية، تبدأ السيمفونية بأصوات بشرية تهتف من كافة أنحاء ليبيا وبجميع الشعارات التي رفعناها منذ الاحتلال الإيطالي والمظاهرات المؤيدة والمعارضة. مختلطة… ترتفع، ترتفع، ترتفع. خطب علي مصطفى المصراتي، موسيليني، الملك السنوسي، السعداوي، الأخ القائد، ورجل ينادي بأنّ ليبيا ستبهر العالم. ترتفع وترتفع، ثم طلقات الرصاص.

 يعم الهدوء لثوانٍ… قرقعة اسطوانات الغاز في طوابير الغاز، زمامير السيارات، تدفق البنزين وهي تملأ الأقنية البلاستيكية، خطوات الأرجل والحركات والكلمات في طوابير المصارف، في كل الطوابير، وتقلب الأوراق النقدية في ماكينة عد المال، صياحات المزادات المالية في سوق المشير وعجلات العربات اليدوية وهي تجر أكياس القمامة المليئة بأوراق النقد المحلية في السوق السوداء، انكسار طبقات الخبز الهشّة على أيدي الجماهير. موسيقى، موسيقى…موسيقى، محرك طائرة بين الفينة والأخرى، بكاء وصراخات، مسبات تطال كل الأشياء داخل المعارك، صوت قطرات الدم وهي تقع على الأرض، رجال يسرقون أجهزة تلفاز تنقل الأخبار فتنقطع، قرقعة أسنان مخطوف، وحبال وكهرباء وفرينللو كخلفية للتعذيبات.

 لا يمكن نسيان الطلقات والمدافع والتفجيرات داخل السمفونية، موسيقى، موسيقى…موسيقى. خرير الماء داخل أنابيب النهر الصناعي “العظيم”، بكاء الثكالى، رجال يسقطون شهداء لكل قضية، أفراح، مفرقعات، وهتافات بالجالطينة[5]، جالطينة داخل البحر تقتل الأسماك، عيد الأضحى، فتاوي للمفتي، وفتاوي ضد المفتي، رجل يغتصب امرأة، إشعال جوانة، وشرب قنينة من البوخة، وآخر لحظات شاب متسمم ببوخة مسمومة، الأخمص بكلاشنكوف يضرب رجلاً عجوزاً، وانفجار آبار نفط، انقطاع التيار الكهربائي وعودته، ثلاجة تشتغل وتنطفئ، قناة الجزيرة، نشيد الله أكبر، نشيد الاستقلال، نشيد داعش، نشيد لطفلة حزينة، الرياح الباردة ورياح القبلي تدخل الردهات في مخيمات النازحين، الرياح في بيوت مدن الأشباح التي لا يقطنها أحد، حاويات مليئة بالرمل، موسيقى، موسيقى…موسيقى، أرجل تدفن رجلاً في مقبرة، وفي النهاية: قطة…تموء أو ربما بورجيجي[6].

  • صمت الحواس:

” ونخّي يم قصاص طويلة، عالطبّيلة، جيناكم خطّار الليلة”، هذا جزء بسيط من أوبيرا ملحمية عظيمة للفنان الراحل محمد حسن، الكلمات للشاعر عبدالله منصور، وهو شاعر شعبي ليبي، تُعرف نوع الموسيقى التي يغنيها محمد حسن بالنّجع، النّجع موسيقى عذبة ورائعة. هذه الأغنية بالتحديد خزنت وأرّخت لأصوات كادت أن تختفي من الثقافة الليبية المعاصرة، صوت الطبّيلة، وهي الاحتفاء الموسيقى في الليالي الأولى من حفلات العرس الليبية، وعادة ما كانت تغنيها العجائز بالضرب بعصيْ رقيقة على لوح من الخشب.

 الطبّيلة من الطبل، تسحب الطبّيلة معها أصوات أخرى مخزنة في ذاكرتي التسعينية لها علاقة بشجن العجائز وغناءهن البوطويل (وهو أحد الأشكال الغنائية في ليبيا) بينما يكسكسن السميد ليصير كسكس، صوت الكسكسة نفسه رغم كونه هُوية مغاربية إلا أنّه اختفى من حفلات الأعراس الليبية.

النّجع واحدة من أجمل أشكال الفن الليبي، على الأقل حسب رأيي الشخصي، تمكنت النجع أن تخزن أصواتاً ليبية أصيلة وأعادت توظيفها في ألحان موسيقية خاصة بليبيا، يرجع ذلك لخصوصية هذا النوع من الموسيقى الذي يستقي جماله وشعريته وقصصه من تُراث البدو، إلا أنّ عاملاً آخراً ساعده على التطور وأخذ براح من الإبداع على حساب أنواع الموسيقى الأخرى، خصوصاً في الفترة التي امتد فيها النظام الجماهيري، للنجع علاقة شخصية مع الأخ القائد وحاشيته، لشعرائه وملحنيه حظوة مكنته أن يكون ولمدة طويلة الصوت الأساس الذي يخرج من ليبيا، كتمت أصوات أخرى كان من الممكن أن تتطور وتخلق شخصية ثقافية مميزة لكل مدينة على حدى.

ما فعله النجع هو ذاته ما تفعله السيارات. في مدينة طرابلس ونظراً لانعدام وجود حركة المواصلات العامة والأرصفة منذ ستينيات القرن الماضي، تمكنت السيارات أن تعزل مواطني المدينة عن مدينتهم جسدياً، بصرياً، حسياً وسمعياً، لا شيء يعلو فوق صوت المحركات الميكانيكية وهي تضخ ضوضاءها في المدينة. وفي ليالي الصيف الحارة تزداد عُزلة المدينة، تمر من شوارع كاملة خلال انقطاع الكهرباء لا يمكن إلا أن تسمع فيها إلا أصوات المحركات سواء من السيارات أو مولدات الكهرباء.

الصمت مخيف، أخشاه، لهذا لا أفضل أبداً السهر، وإن فعلت، يجب أن أفتح التلفاز، إلا أنّ الصمت ذاته يختلف بين المدن، لأنّه صمتها الخاص بها، صمت طرابلس لا يشابه أبداً صمت إسطنبول، إنّه يحمل دلالات ومعاني تخالفه، كأن تكون في منطقة نزح أهلها وتوقفت الصواريخ تدك بيوتها وأن تكون في حانة لم يعد هناك معنى من وجودها بعد الإغلاق نظراً لتفشي فيروس كورونا.

صوت آخر بدأ يحملُ معنى جديد، كان صوتا هامشياً يدل في العادة على تلوث البيئة، حساسية ما أو حتى إهمال للصحة والانجرار وراء عادة التدخين، إنّه صوت ” الكحّة”، لم تعد الكحّة بالنسبة لي على الأقل مجرد “باك قراوند نويز”، أصبحت تنبيه ( يكون خاطئاً في الكثير من الأحيان) مرعب عن وجود كوفيد ١٩ بالقرب منك، تحولت مسارات هذا الصوت ومعانيه منذ قديم الزمان، الكحّة أو “القحبة” كما تذكرها مجموعة من المعاجم العربية كانت صوت شبه حصري لبائعات الجنس، ومنها اكتسبت بائعة الجنس تسمية “القحبة” وليس العكس، تطوّر الكحة كصوت ومعانيه يدل على ارتباط حتمي للصوت مع الإنسان.

الآن أجزم أنّ عقلك يصفي في العادة صوت زمامير السيارات، ولكنه يولي اهتمام كبير بصوت الكحّة أياً كان مصدرها، على الأقل هذا ما يفعله عقلي معي.

هذا الارتباط لا يبدو ظاهراً في العادة، إن حاسة السمع تأتي رابعة في الوعي اليومي بوجودها، ذلك بعد النظر والشم والتذوق، النظر هي الحاسة الأولى التي يرتبط بها البشر، وهي التي يجعلونها معيار الاختلاف بين الأماكن التي يمرون بها، وهو أمر بديهي، فالعيْنين في مقدمة الرأس وهي واحدة من الحواس الإنسانية التي لازالت منذ قرون تحتفظ بأغلب صفاتها، يأتي بعد ذلك الأنف، والأمر ليس له علاقة بالطعام فقط، إنّنا مندفعون نحو الروائح لأنها بصمة واضحة ولا يمكن تجاهلها، مكانة الأنف في الرأس كالعضو الأكثر ظهوراً في الرأس دليل آخر على ذلك. التذوق وعضو اللسان لا حاجة حتى للحديث عنهما، لأنّها حاسة مرتبطة ارتباط كلّي بحياتنا.

 السمع هي الحاسة الرابعة في الترتيب في مدى أهميتها لنا ككائنات يومية، وقد تخلت الأذنان عن الكثير من صفاتها نظراً لتطورنا البيولوجي. في زمن بعيد، كان بإمكاننا تحريك أذاننا لمصدر الصوت، عندما كان الصوت اليومي “الباك قراوند نويز” مهماً ويحدد ما إذا كنا سنعيش اللحظة التالية أم لا.  هذا الترتيب الطبيعي، بالطبع إلا في حالات شاذة كالعمى، تعود الحاستان الأخيرتان في الترتيب للمرتبة الأولى وبنفس الأهمية.

ما ساعد حاسة النظر أن تصير ديكتاتورية في حكمنا على الأشياء هي التكنولوجيا التي سخرناها لها، أصبحت الكاميرا في كل مكان، ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة تهتم بالفنون البصرية قبل غيرها، الفيديو في مقدمة الوسائط التي يُنصح بتحميلها في هذه المواقع، ولا حاجة لأن يحمل الفيديو صوت بداخله، بل إنّ أغلب الفيديوهات التي تُلعب في فيسبوك يكون الاختيار الافتراضي للعبها مكتوم الصوت، من يصنعون هذه الفيديوهات أحياناً يوصون أنّ ” الفيديو أفضل بالصوت” إذا كان هناك شخص يتحدث.

التكنولوجيا التجارية لم تهتم بالصوت كما اهتمت بالصورة (الثابتة والمتحركة) وأجهزة تسجيل الصوت بالدقة العالية ليست تجارية، إنّها مصنوعة ومعدة خصيصاً للموسيقيين للتقنيين والحرفيين ومهندسي الصوت، وأظنّ أنّه من السخف أن توجد منصة تواصل اجتماعي خاصة بالأصوات غير الموسيقية -حتى منصات التواصل الاجتماعي الموسيقية كساوند كلاود غير مشهورة لدى الكثيرين-.

وبنفس هذا المنطق، قد تبدو كل المدن متشابهة الأصوات، ويتطلب الأمر أن تُهمِل حاسة النظر وهي مهمة صعبة، أن تمشي في شوارع مدينتك التي اعتادت عيناك على وجودها وتصب اهتمام خلايا مخك للتواصل مع أذنيْك، أن تدقق في أحاديث الناس من حولك، الموسيقى التي يلعبها الشباب والعجائز والأطفال، إن كان بإمكانك سماع ارتطام أرجل المشاة بالبلاطة في الرصيف، أن تخرج من البيت الزجاجي الذي تحيط به نفسك، وتنصت، لأنّ الإنصات مهم.


[1] الوراكينا: الكلور في اللهجة الطرابلسية.

[2] العتاتيق: جمع عتّوقة، وهي الدجاجة في اللهجة الليبية.

[3] الكاروسا: العربة التي يجرها الخيل لنقل الركاب.

[4] السبول: الذرة، ارتأيت هنا وضع هذه الكلمة بالذات للتفريق بين الذرة التي تطعمها أمي للحمام وبائع “الفوشار”.

[5] جالطينة: نوع من المتفجرات المصنوعة يدوياً، اشتهرت في الحرب الأهلية الأولى بعد انتفاضة فبراير.

[6] بورجيجي: صرصار الليل.

Leave a Comment

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s