قبل قراءة هذا المقال، أنصح بقراءة مقال منازل طرابلس.. شرفات ميتة، المنشور على موقع خط ٣٠.
” أريد أن ألعب اليوقا في الصباح أمام النافذة، حتى إذا كان ينظر لك أحدهم، أريد أن أستيقظ من النوم بفستاني، أجلس بجانب نافذتي”، تقول هيباتيا* (اسم مستعار لشخصية المقال التي رفضت الفصح عن اسمها) (33 عاماً)، سيدة أعمال، أم وزوجة، مديرة تنفيذية لمكتب للتصميم الداخلي، قارئة تحب دوستوفسكي، مهتمة بالثقافة والفنون، خبازة منزلية، جسد رياضي اعتاد على اليوقا، عاشقة للأجواء الطبيعية والانفتاح نحو الخارج، لديها شخصية “بيتوتية” (introvert) ولهذا هي تفضل البقاء في المنزل، هي أيضاً راغبة في الهجرة من ليبيا.
في استبيان لموقع هُنا ليبيا عن هجرة الشباب، صرّح 79% من الشباب المشاركين (2813 مشارك) عن رغبتهم في الهجرة، تنوعت الأسباب التي دفعتهم للتفكير للهجرة، من أسباب اقتصادية، أسباب أمنية، فكرية، سياسية أو اجتماعية، لكن لم يكن أحدُ هذه الأسباب طبيعة تركيبة البيت الليبي، السبب الرئيسي لرغبة هيباتيا للهجرة.
في مقر شركتها بمدينة طرابلس تجلس هيباتيا بعد أن تفتح نافذة المكتب الواسعة المحاطة بسياج حديدي، لتحكي لي قصتها مع البيوت التي عاشت فيها، ” إذا لاحظت المكان، أنا أحب إدخال الخارج إلى الداخل، أحس براحة كبيرة عندما أكون محاطة بالأشجار والطبيعة”، تحدثني هيباتيا عن علاقة غرامية معقدة بالمكونات الثلاث التي تفشل المرأة الليبية في عقد علاقة معها: النافذة، الشرفة والحديقة.
- الشجر، التحول من الإظهار للإخفاء:
تربت هيباتيا في مدينة الجزائر، في حي من الفيلات الفرنسية التي تتكون حدائقها من أشجار مختلفة كأشجار الموز، العنب والتين، قرأت تحت أشجار التفاح في مدخل البيت دوستوفسكي وأنشأت علاقة مع الطبيعة الخضراء، ” كان هناك شجرة ناسبولي (بشملة) بثمارها المتساقطة في حديقة البيت، في كل رقعة أشجار لم أرى مثيلها في ليبيا، في كل مكان كان هناك أشجار، حتى في المدرسة”، تحدثني بحب اتجاه ذلك الماضي البعيد.
تواجه الطبيعة في ليبيا إهمالاً كالعديد من الأماكن، وينذر في البيوت الحديثة وجود أشجار في “الجنان” – فناء البيت-، يعمل المقاول الليبي على البيت من الصفر إلى النهاية، وهو في العادة لا يأخذ في الحسبان تنسيق الحديقة في عملية التصميم، ينذر عمل “منسق الحدائق”، أحد أعمدة التصميم السكني، كان هناك وقت لا يخلو بيت في ليبيا من شجرة واحدة على الأقل، رغم أخذ العشب الصناعي الأخضر مكاناً واسعاً في أفنية من يرغبون ببعض من الطبيعة في بيوتهم.
عندما عادت هيباتيا إلى ليبيا كانت تتعرف من جديد على طبيعة منزل عائلتها، كان بيتهم من البيوت المبنية على الأعمدة، مما يعني أن الجنان هو الدور الأرضي للبيت، كما كان البيت محاطاً بمشربيات من جهة، ومن جهة أخرى زُرعت به مجموعة من الأشجار، لكن لم تكن وظيفة الأشجار الرئيسية للزينة، بل من أجل الخصوصية، ” هناك مجهود كبير نقوم به حتى نخفي أنفسنا عن العالم حولنا، ومع كل ذلك لم نكن نجلس في الجنان” تقول هيباتيا.
تزوجت هيباتيا في الرابعة والعشرين من عمرها، عند سكنها بمنزلها الجديد لفت انتباهها جنان البيت الواسع والمعشّب، لم يكن بذلك البيت الأشجار التي احتفت بها في طفولتها، ” كنتُ أتخيل إفطارات رومانسية وأجواء جميلة داخل الجنان، نجلس فيه نقضي يومنا، لكننا لم نفعل ذلك البتة”، تقول هيباتيا التي وجدت صعوبة في التعايش مع ذلك المنزل، الذي يطل عليها جيرانها فيه من كل اتجاه.
تحتد الوصاية الاجتماعية على المرأة في ليبيا مع الزمن، مما يؤثر حتى على صحتها الجسدية والنفسية، لا تتلقى المرأة كفايتها من ضوء الشمس، مما يعني أنّها لا تتلقى كفايتها من فيتامين دال، أحد العناصر المسؤولة على قوة عظام الإنسان، كما أنّ غياب الشمس عن حياتها قد يؤثر في صحتها النفسية، كهيباتيا التي تشعر بالاختناق في منزلها. ضيق تتساءل هي إن كان حالة نفسية تراودها فقط دون غيرها من النساء.
” في ليبيا ستجد القيود المادية أقل اهتماماتك، ليس مهماً إن كان لديك شرفة، جنان به شجر، ليست هذه هي القيود، القيود الحقيقية هي القيود الاجتماعية، حتى لو كنت ساكن بمزرعة في وسط الدهماني، لن تستطيع الخروج لجنانها”، تقول هيباتيا واصفة تلك الوصاية الاجتماعية التي تراقب تحركاتها، كلماتها، أفعالها، صورتها وحياتها أينما حلّت.
لم يمضِ سوى وقت قصير حتى جربت هيباتيا بيتاً جديداً عليها، كان البيت في حي “الصريم” وسط العاصمة طرابلس، كان هذا الحيْ في غالبية منازله من بناه الإيطاليون، ولهذا كان به حديقة على مساحة أصغر من بيتها الذي عاشت به في الجزائر، أحبت ذلك المنزل، لسبب واحد فقط، كانت هناك شجرة برتقال كبيرة في الفناء الخلفي له، ” كنتُ معتادة على الجلوس تحت تلك الشجرة، في قمة الاستمتاع، مع إنّ البيت كان بسيطاً، لكنني كنتُ سعيدة جداً، أجلس أحياناً لقراءة كتاب تحت ظل تلك الشجرة”، تقول هيباتيا بنبرة متحسرة على صديقتها الشجرة وهي تعيش الآن في شقة لا أشجار فيها، نافذة مطبخها تطل على حائط، وشرفتيْن صغيرتيْن نسبياً، إحداهما تطل على القمامة.
- الشرفات، أن تطل على القبح:
زاوية الدهماني، إحدى مناطق طرابلس القديمة، حي كبير تغلب عليه العمارات السكنية، يقع في إحدى هضاب طرابلس من ما يتيح له إطلالة مميزة على البحر الأبيض المتوسط وميناء سيدي الشعّاب، تسكن هيباتيا في إحدى العمارات القريبة من البحر، إلا أنّ إطلالة شقتها عبارة عن أرض مفتوحة مليئة بأكياس القمامة.
” عندما دخلنا الشقة وجدتُ أنّ شرفة غرفة النوم مغلقة بجدار ونوافذ ألومنيوم مصمتة تمنع دخول الضوء، شعرت بالضيق عند رؤيتها ولم أرضى أن أبقى في الشقة إلا بعد إزالتها”، تقول هيباتيا عن إحدى شرفات بيتها التي حتى بعد إزالة الجدار العازل، جهزت الشرفة بطاولة وكراسي وهيأتها لقضاء وقت ممتع للعائلة، لكنها لم تحب الجلوس فيها نظراً لإطلالتها على مشهد القمامة، أما الشرفة الثانية الواقعة في الصالون فهي صغيرة، وهي مطلة على البحر أيضاً، لا تجلس فيها العادة، إذ أنّها تستخدمها كمكان لتخزين مولد الكهرباء والوصول إلى مكيف الهواء، كما يفعل العديدون.
قرار هيباتيا بنزع الجدار العازل في الشرفة هو قرار غريب عن المرأة الليبية، فعلى مر السنين كانت علاقة المرأة مع الشرفة علاقة جافية، نظراً للأعراف الاجتماعية، ينذر وجود المرأة فيها إلا لنشر الملابس إن كانت الشرفة مفتوحة، وحتى عندما تفعل ذلك، ترتدي الحجاب والملابس الواسعة وتحاول قدر الإمكان أن تخفي نفسها عن العالم الخارجي الذي قد يلاحظها.
العمارة التي تعيش فيها هيباتيا في تصميمها غير مهيئة للسكن، كانت هي وعمارتيْن بجانبها مخصصة للشركات والمكاتب الخدمية، إلا أنّه تم تحويلها لعمارات سكنية في السنين الماضية، لهذا فالشرفات وتصميمها وتصميم العمارة السكنية بأكمله غير مهيأ للحياة فيها، وهذا يعكس على أماكن نوافذها وتصميمها.
- النوافذ، علاقة معقدة:
النافذة، عنصر البيت الذي يخيف المرأة الليبية أكثر من غيره، هي في علاقة معقدة معها، تخاف المرأة أن تقترب من النافذة، خصوصاً عندما تكون مفتوحة على بيتٍ آخر به نافذة أخرى، يحاول المصمم الليبي أن يبعد نافذة المطبخ خصيصاً عن هذا السيناريو، بما أنّ المطبخ هو المكان الذي تعيش فيه المرأة، في الغالب نافذة المطبخ إما تكون صغيرة، أو تطل على حائط ومنعزلة عن مصادر الضوء، كالمطبخ نفسه الذي يكون في زاوية بعيدة عن حركة الرجال.
” النافذة هي السبب الجوهري في رغبتي في الهجرة، لأنها رمز لخنق المجتمع للمرأة، أنا مكبلة، متوترة، لا أشعر بالراحة، قلِقة، خصوصاً عندما أكون امرأة غير محجبة”، تخبرني هيباتيا بينما يرتفع صوتها كأنّها ترى أعين المجتمع المحيط بها تراقبها فينتابها الخوف، بالنسبة لها فإنها تشعر بالتوتر عند اقترابها من نافذة مطبخها، ” مطبخي يطل على حائط، لا أستطيع فتح النافذة، أشعر بالقلق الرهيب يتملكني”، تضيف.
العلاقة المعقدة للمرأة مع النافذة لا تجدها في المنازل فقط، بل في صالات المناسبات الاجتماعية، في نوافذ السيارات، المحلات التجارية الخاصة بملابس النساء، المطاعم والمقاهي، فمع قلة المقاهي المختلطة في البلاد، تنتشر مقاهٍ خاصة “بالعائلات”، حيث يمكن للنساء دخولها بنسب أقل للتحرش، هذه المقاهي بها نوافذ واسعة وكبيرة لكن مصمتة يصعب منها رؤية الخارج أو قد تكون مغلقة بستائر، حتى المقاهي المختلطة، وفي الأماكن المخصصة بالعائلات، يلاحظ إقفال الزجاج الواسع الملاصق لتلك الأماكن بالستائر، بينما تنعم الجهات الأخرى بالحرية.
تذكر هيباتيا حادثة لها في يناير 2017، خرجت من البيت لتناول الإفطار والقهوة في أحدِ المقاهي بالعاصمة، كان اليوم ممطراً، لذا فهو الجو المثالي لجلسة بمقهى أمام نافذة واسعة تشاهد فيها المطر بينما تعمل على حاسوبها الشخصي، دخلت المقهى باحثة عن مكان قريب من النافذة، إلا أنّ الأماكن في الجهة المختلطة كانت محجوزة، لذا فقد دخلت إلى المكان المخصص للعائلات، ” كانت كل الطاولات بالقرب من النوافذ فارغة، إلا أنّ أمراً غريباً جذبني، كانت النوافذ مغلقة بالستائر، حاولت فتح الستار لكنه لم يفتح”، تتحدث هيباتيا عن خيبة أملها، فالمشهد الرومانسي الذي رسمته قد لا يتحقق.
“ذهبت للحديث مع الخزينة، أخبرتهم بأنني أريد أن أفتح الستار، أخبرني بأنّ الدنيا برد، وبأنّ النوافذ مجرد ديكور فقط، ثم قال بأنهم قد أغلقوا النوافذ بالستائر لأن الفتيات يشتكين من الشباب”، تضيف عن هذه الحادثة، التي جعلتها تتراجع عن طلبها وتقرر الخروج من المقهى، بحثاً عن مقهىً آخر يمكنها أن تجلس فيه أمام نافذة ما، فهي شغوفة بالنوافذ الواسعة المطلة على الحياة.
شغف وجدت صعوبة في إرضائه مع تعدد المنازل التي عاشت فيها في ليبيا، حتى عندما يتعلق الأمر بتجربة بسيطة كشرب قهوة أمام النافذة أو ممارسة الرياضة، أو مجرد الغياب في أفكارها وهي تشاهد الطبيعة، ولكن واقع المرأة الليبية يجعلها تأخذ الحذر من النوافذ، بأن ترتدي الملابس التي يراها المجتمع مناسبة إذا شاءت ذلك، أن تتطلع إذا ما كان هناك مراقبون في المكان، وأن تخفي جسدها عن النوافذ حتى داخل غرفة نومها.
يأخذ الآخرون حيزاً من تفكير جميع أهل البيت لا المرأة وحدها، فحتى زوج هيباتيا نفسه يخشى من النوافذ المفتوحة، ” رغم إنّ زوجي ليس تقليدياً، لكنني أراه أحياناً يقلق بشأن النوافذ المفتوحة، لأن المجتمع يفرض عليك هذا الأمر حتى لو لم تكن مؤمناً به”، تقول.
هيباتيا لا ترغب في الهجرة فقط، إنها تخطط لها وتأمل أن تغادر البلاد في أقرب وقت ممكن، ستبحث عن بيت بنافذة كبيرة يمكنها فيها أن تمارس اليوقا أو تشرب القهوة بينما تسقط المطر على الأشجار المحيطة بها، تسمح في الأيام المنيرة بدخول أشعة الشمس دفعة واحدة لها، حتى تعيش المعنى الحقيقي للحياة، ذوقها الحقيقي، قبل أن تخسره في ليبيا.
عظيم يا صديقي
LikeLike
منور عبدالمولى، ليك وحشة صديقي
LikeLike