أحمد فكرون، الرقص ينفض الغبار عن أسطورة الفانك الليبية


لم أعرف أحمد فكرون مبكراً، استمعت في طفولتي لناس الغيوان ومحمد حسن والكابّو وأم كلثوم، كلٌ حسب من أرافقه من أبناء الأجيال المختلفة في العائلة. تسللت في بدء الثورة الليبية أغنية ” يا بلادي حبك موالي”، لأغرم بها وأبحث عن الفنان الذي غناها؛ فمن منا من لا يريد أن يبحث عن الفنانين الذين غنوا حبهم للوطن؟

غنّى أحمد فكرون أشكالاً موسيقية عديدة، كان كالنورس، طائر حر يبحث دائماً على نوعٍ جديدٍ يدمج به الألحان والكلمات الليبية ويبحث فيه عن حياة جديدة، تأخذ موسيقاه الطابع التجريبي في الراي، الريقي، السُول، البوب والبروجريسف روك، إلا أنّني هنا، سأتحدث خصيصاً عن الفانك، النوع الموسيقي الذي لم أسمعه إلا من أبناء أمريكا السود كبرنس وجيمس براون وفي بعض من أغاني مايكل جاكسون.

لا أفهم الكتابة عن تاريخ الفنانين، صفحات وكيبيديا والمقالات الانطباعية مليئة بها، تسرد تاريخ الفنان الفنّي منذ أول مرة أمسك بها آلته الأولى وحتى آخر أعماله وتواريخ الألبومات التي أنتجها. ولكن هناك فراغات تاريخية في مسيرة حياة فكرون، راودتني على البحث في مسيرته، فالفنان الذي غادر ليبيا في سبعينيات القرن الماضي، يحتفل بنجاحه في عواصم أوروبية من لندن إلى باريس وروما، عاد لبنغازي، التي ولدته وشرب من تجربتها الفنية، في إحدى أكثر الصفحات المغيّبة في التاريخ الليبي، منتصف الثمانينيات.  عاد إلى شعب تقلبت طباعه في نظام يناصب العداء لكل ما يمثله.

حالف الحظ الكابّو عبدالحميد الشاعري الذي وجد منجاه من نيران جماهيرية السبعينيات والثمانينيات في مصر، احتضنه الجمهور المصري، واحتفى بإبداعه وترك له الساحة ليؤسس لوناً فنياً جديداً. خطوة لم يأخذها بجدية، فكرون وناصر المزداوي ونجيب الهوش -الآخيرين كانا أكثر حظاً من فكرون لحصولهم على بعض من الفرص في مصر- الأباء المؤسسين للموسيقى “الحرة” في ليبيا.

أحمد فكرون

وجدوا أنفسهم أمام سوقيْن، أحدهما متطلب يصعد فيه النجم في ليلة ويغيب في فجرها بأوروبا، والآخر، سوق نائم تشتعل فيه نيران الكراهية تجاه كل ما هو غربي الهُوية. اشتعلت تلك النيران حقيقةً في الثمانينيات، بعد نداءات لحرق القيثار والساكسفون والبيانو، والعودة مجدداً إلى العود والقانون. وثق فيديو لوكالة الصحافة الفرنسية، مشاهد لذلك العداء الثقافي الذي انطلق من خطاب زوارة (التاريخي) في ١٥ إبريل ١٩٧٣ للعقيد الشاب.

كان فكرون في منتصف الثمانينيات منتشياً بنجاحاته بعد إصداره لمجموعة من التسجيلات، بدأت بإنتاج أغنية “اوعدني” في ١٩٧٤ بالمملكة المتحدة، خرجت بعد ذلك “نسيان”، البداية الفعلية لنجاحه الفني، واستمرت حتى إنتاج ألبوميْن آخريْن بعنوانيْن ” سوليل سوليل” – العنوان الفرنسي لأغنية ليل السهرانين-، و ” موت دامور” – العنوان الفرنسي أيضاً لأغنية كلمات حب- في العام ١٩٨٧. كان الألبوميْن من عنوانيْهما الفرنسيين موجهيْن للجمهور الأوروبي. توِّج نجاح فكرون بفيديو كليب ليل السهرانين، الفيديو الكليب الذي سيعد نوعاً من الجريمة الثقافية إذا ما راودت فكرون نشره في ليبيا في ذلك الوقت.

ليل السهرانين، الرقص على الحزن:

منذ سنوات قليلة، وعندما هزني الحنين لسماع صوت فكرون مجدداً، وجدتُ فيديو ليل السهرانين، يبدأ الفيديو برجل فرنسي  (سأعرف بعدها أنّه الممثل الكوميدي كولوش) يجلس أمام شاشة تلفاز، تدخل الكاميرا إلى شاشة تلفزيون، فيظهر خيال فتاة راقصة، ترقص معها كلمات عربية لمجموعة من الأفلام المصرية الكلاسيكية كخان الخليلي، في بيتنا رجل، شياطين الليل، وفلم المليونير من بطولة إسماعين ياسين.

أخرج الفيديو، المخرج الموسيقي جان باتيست موندينو، يظهر أحمد فكرون شاباً داخل الفيديو يغني بأسلوب يمزج فيه الأسلوب الغربي وأسلوبه الليبي الحماسي، ” تركني والدمعة في العين، لا نظرة لا كلمة لا شوق… لا لا لا لا”، ” حلفت نهونه يا سامعين، لو يرجع نحلف ما نعود” ترتفع حماسة الروك آن رول داخله، بينما تستمر البيز قيتار، الآلة المفضلة له، في تحديد النوع الموسيقي الذي تنتمي له الأغنية، الفانك.

ليل السهرانين، أغنية تحتفي باللهجة الليبية، اللهجة البنغازية بالتحديد، تعاون فيها فكرون مع الشاعر الغنائي نبيل الجهمي، كانت كلمات الجهمي تحتفي بالصحراء، ببنغازي، بالحب الليبي المسكون بفراق الحبيب، بالشوق. الألحان الممزوجة بها الأغنية، أخذت من الصوفية الليبية شيئاً من طابعها.

لم تتلقى اللهجة الليبية نصيبها من الاحتفاء في الفنون المختلفة، كانت لهجة خجولة، لا تبحث كثيراً على الإفصاح عن نفسها، ساعدت عزلة البلاد وشعبها في هذا الانكفاء. لم يعمل فكرون على تبسيطها أو تحويرها كما فعل الكابّو، رأى أنّ عليه أن ينقلها للعالم كما هي، كان واثقاً بأنّها قادرة في الإفصاح عن ذاتها إذا ما أتيحت لها الفرصة، وإلا لما تشجّع وغنى قصيدة قديمة كسوف الجين.

رقصت على ليل السهرانين مع زوجتي في شقتنا، في أكثر من مناسبة، رغم الكلمات الحزينة التي تجلبها معها؛ فالتلاعب على الحزن، إحدى صفات الأغنية الليبية، ليرقص الليبيون على ألحان الفراق بفرح ساحر. إلا أنني لم أرقص عليها في أي ديسكو، كما فعل الأوروبيون الذين أعادوا اكتشاف فكرون بعد أن وجد دي جي برنس لا نقويج الأغنية وأعاد إنتاجها في بدايات الألفية. نفض الغبار عنها وأعاد تسميتها لجمهوره المتعطش للرقص تحت اسم يو سون.

غنى فكرون ليل السهرانين (سوليل سوليل- الشمس الشمس) لسنواتِ ثلاث بعد الفيديو كليب في حفلات حول أوروبا، وعند عودته إلى ليبيا، وجد نظاماً اجتماعياً جديداً، وبلد مناصب العداء للولايات المتحدة الأمريكية، حاصرت أمريكا البلاد لعقد ونصف من الزمن، أثر ذلك الحصار على مسيرة فكرون الفنية، لم يعد السفر داخل وخارج البلاد سهلاً، كاد أن ينفذ نجمه ونجم آخرين غيره؛ لم تجد موسيقاه مكاناً لها في بلاده.

نسيان، جذور الفانك الليبية:

نسيان – كما غنّاها فكرون في السبعينيات

في ١٩٧٧، خرج الفانك الليبي، كان الشباب الليبي في تلك الفترة مهوسين بالديسكو، فلم يعرفوا أنّ اللون الموسيقي الجديد الذي جاء به فكرون يختلف عن الديسكو؛ لهذا سموا كل موسيقى غربية تحثهم على الرقص بالديسكو. وإن كانت بليل السهرانين ألحان تحثك على الرقص السريع، فإنّ نسيان للرقص الرومانسي البطيء.

” وين ضاع الحنان؟ والحُب اللي كان… نقولك يا حبيبي، تقولّي كان زمان”، يبدأ فكرون غناءه، غير مدرك أنّها ستغنى يوماً ما من أجله، لأكثر من خمس عشرة عاماً، يغلب فيها لون فني واحد في بلاده؛ عمل الشاعر الليبي الكيلاني، أحذ أذرع النظام، على تهميش ألواناً موسيقية مختلفة في البلاد، وسوّق للونه الفني (النجع) ممثلاً في الموسيقار محمد حسن، فبينما استمرت الألوان التقليدية كالمألوف والمرسكاوي تحظى ببعض الاهتمام، كون الأولى دينية والآخيرتيْن شعبية، وبينما أفلح الريقي الليبي الاستيلاء على أذان الشباب، وبذلك أفلح في النجاة من النسيان. كان أمثال فكرون وناصر المزداوي ونجيب الهوش مهملين، منسيين من الذاكرة إلا في قلوب عشاقهم والمقربين منهم، كان ذلك قبل أن يعيد الانترنت إحياءهم، إحياء فكرون بالذات.

ونجت نسيان من النسيان، تلقفها الدي جيز كما تلقفوا قبلها ليل السهرانين، وأعادوا تحريرها وتوزيعها. نسيان شكلت صعود فكرون مرتيْن، وكأنّها تأبى إلا وتذكره بأنها كانت بداية مجده الموسيقي، هي أغنية تمتزج فيه الإيقاعات والآلات الموسيقية الغربية والشرقية، التقليدية والإلكترونية. لم يجرؤ أحد قبل فكرون، أن يغني كلمات ليبية بهذه الطريقة الخارجة من حناجر السول والجاز الأفرو-أمريكيين.

عاش فكرون في ليبيا في رعب، وفي التسعينيات أخرج ألبوم سندباد، الألبوم الوحيد الذي أنتجه في ليبيا، في طرابلس تحديدا. كان النظام يقصيه في كل خطوة يحاول خطوها، فبعد أن اكتشف هوس دي جي برنس لانقويج بليل السهرانين، قرر أن ينفض الغبار على ألبوماته الأولى، ويحملها على الانترنت ويبدأ ببيعها ونشرها، لكنه واجه نظاماً عمل على طمسه حتى إلكترونياً، فحجبت الأجهزة الأمنية نظامه، نفس الأجهزة الأمنية التي كانت تحارب النجوم في الثمانينيات.

جهاز ” محاربة النجومية”، هو جهاز أمني يتحدث عنه الكتاب والمثقفون، ورغم أنني لم أجد دليل قطعي بوجوده، إلا أنّ ممارسات النظام التهميشية في الثمانينيات والتسعينيات قد تكون دليلاً على وجود ما يشابهه، أو آثار منه، فكان لاعبو كرة القدم في البلاد يلعبون بأقمصة عليها أرقامهم فقط دون أساميهم، بل يحظر على المعلقين حتى ذكرهم،  وكانت وسائل الإعلام الليبية المملوكة للدولة هي من تحدد، من يظهر فيها أم لا، هذا عدا عن القوانين الصارمة تجاه المطبوعات، فأي ورقة تطبع كان -ولازال رسمياً- عليها قبل أن تُطبع وتُنشر، أن تمر بموافقة أجهزة الدولة.  كان ذلك، قبل انفتاح البلاد نحو العالم في بداية الألفية.

” من غير ما انت تقول… حسيت بالنهاية، عنّي البال مشغول، وفكرك مش معايا”، كأنّ فكرون، كان يغنّي لوطنه، لا لحبيبه. إذا أحسّ بالنهاية، قبل حتى أن تدركه، لكن النهاية…كانت بداية أخرى. إذ تمكن في ٢٠١٠ أن يعيد إنتاج أغانيه ويسوقها للعالم.

ارحم بويْ، أو لماذا يهم فكرون:

ارحم بوي

سؤال سألت لنفسي، ما أهمية فكرون بالذات، بعيداً عن اللون الموسيقي الجديد الذي أعطاه للأغنية الليبية، التي كانت تتناسخ في ألحان متشابه في الستينيات. ما يضفي عليه أهميته، هما أغنيتيْن، بعيدتيْن عن الشعر الغنائي، وقريبتين من الشعر الشعبي، التقليدي، الذي كان يقرضه الشعراء الليبيون – ولايزالون- دون التفكير في الفوز بأغنية تلحنه.

الشعر الشعبي، هو شعر البادية، شعر الحرية والصحراء والتنقل، شعر محموم بتفاصيل البيئة المحيطة من زرع، وطيور وحيوانات وأشجار، كلمات هذا الشعر هي من أصعب الكلمات الليبية، ويصعب على شريحة واسعة من الليبيين فهمها، أواجه أحياناً فهم الكثير من قصائده.

إحدى أهم قصائد الشعر الشعبي الحديثة هي ” ارحم بويْ”، للشاعر الشعبي عبدالمطلب الجماعي.

ارحم بويْ، خلاني هواوي.

كيف النجم في قلب السما

لاني غرس منبوته سناوي

ولا زيتونة معصاره زوى

تمكن فكرون من غناء القصيدة، وأخذ مقاطع منها، ليغني للحرية وقلق الليبي البدوي من الاستقرار، لم يحب أحمد الاستقرار، كان الاستقرار مهلكة لموسيقاه؛ فلم يخرج الكثير من الموسيقى في التسعينيات وبداية الألفية، كما أنّه لم يستقر أبداً على لون موسيقي واحد. ولهذا، غناءه لارحم بويْ، كان تحدياً مناسباً، لتحرير النص الشعري من إلقاء الشاعر، للشكل الموسيقي.

سوف الجين

تعل خبر يا سوف الجين

علي القديمين

عرب كانت تعرفها وين

تعال خبر واحكي بالحق

علي اللي ريته قبل وزال

سوف الجين، الأغنية التالية التي تمكن فيها فكرون أن يتفوق على تحديه، هذه المرة من ميراث الاحتلال الإيطالي، بقصيدة للشاعر والمجاهد الليبي أبورويلة المعداني، الذي ألقاها في حث الليبيين للجهاد ضد الإيطاليين بعد أن تمكنت القوات الإيطالية من دحر رجال المقاومة، ألقى المعداني أغنيته في وادي سوف الجين بمدينة ورفلة في وسط ليبيا. توفى المعداني في الأربعينيات، لم يعرف أنّ شابا من الجيل الذي يليه، سيخلد قصيدته، يمزجها بألحان غربية تبدأ بموسيقى ” الزُكرة” الليبية.

الشمس تجي وتعدّي، والأسطورة تعدّي وتجي:

نسخة حديثة من قلتي

أخذ مني البحث عن الوجه الآخر من فكرون زمناً، كان وجه يستحق عناء البحث، بحثتُ كثيرا عن أرشيف أغانيه القديمة على يوتيوب، وفي حفلاته، وفي كل أغنية جديدة أكتشفها، كنتُ أتمنى أنّ تكون ” فانك” خالص، بعض الأغاني كانت صعبة التصنيف، لأنها تمزج أشكالاً مختلفة، كأغنية النورس الشبيهة بالسُول، وأغنية ” يا ليل ليّل”، كما أنني لستُ ناقداً موسيقياً بادئ ذي بدء؛ لأتمكن فعلاً من الادعاء بتصنيفها.

فكرون نفسه، أعاد صياغة مجموعة من أغانيه، بعد أن تحصل على عقود لإعادة إنتاج ما غناه، أغنية ” الشمس” مثال جيد لتحور موسيقى فكرون كالحرباء، وربما اختفاء صوته الشبابي، واكتسابه لخامة أكثر فخامة، وأكثر مناسبة لجو ” السول”، جعله يغير من لحن بعض موسيقاه الجديدة.  إلا أنّه لم يتخلى عن إيقاع الفانك الذي تميّز به.

أغانٍ أخرى كانت تمتلك هذا الحس الفانك-فكروني، قِلتي و ” يُمّة يُمة يُمّة“، عوّام وكلمات حب ظهرت مجدداً في آخر ألبومات فكرون المعاد إنتاجها مؤخراً، يظهر طموح فكرون من ” قِلتي”، طموح وشغف جعلاه لا يتوقف على الغناء، جعله ينتصر على سياسات التهميش وحرق النظام لبيته وسلب ممتلكاته الموسيقية في بداية الثورة الليبية، ويعاود الغناء لأوروبا التي احتضنته قبل عقود، ويسافر عواصمها مغنياً في حفلات يعاود الجمهور الشاب الرقص على ألحانها، على أمل العودة لأرض الوطن ويرقص الليبيون في حفلاته، كما ودّ أن يفعلوا.

Leave a Comment

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s