نداءُ الراية الخضراء، إنّ الألوان الزرقاء والصفراء والحمراء والسوداء، لا تبعث في الإنسان روح الأمل، بل إنّها تمثل الخراب والدمار واليأس، أما اللون الأخضر، فهو لون الأمل، لون الحياة، وحتى الجنة يرمز لها باللون الأخضر، وهذه هي رايتنا الخضراء، راية العزة والكرامة ترتفع خفاقة عالية، على أرض الجماهيرية، أرض العزة البطولة والإقدام التي رُويت بدماء قوافل الشهداء الأبرار، وحتى تبقى هذه الراية خفاقة عالية؛ لنقف لتحيتها تحية الله أكبر.
وقعت على عينيْ منذ أيام صورة للأستاذ محمد الأطرش، مدير مدرسة الشعلة الإبتدائية، تقع المدرسة خلف بيتنا ولا يفصل بيننا شراك للبرسيم ترعى فيه الأغنام، عندما رأيتُ الصورة، اندفعت إلى عقلي مجموعة صور خاطفة كدتُ أنساها عن زمنٍ بعيد قضيت فيه تسع سنوات تلميذا في مقاعد المدرسة، أنا الآن أكتب هذه الكلمات بعد أن أقلقتني تلك الصور مرة أخرى فجأة، أجلس في شقتي باسطنبول وقد غادرني النوم أفكر في الأطرش، كانت الصورة التي رأيتها قبل أيام تظهره ضعيفاً ملقيا على فراش المرض في إحدى المستشفيات، يبتسم بصعوبة، يرتدي مريول المرضى ويبدو أنّه في آخر أيام حياته، دعوت الله أن يرحمه إن كان لا يزال يسمع دعواتي، وقبل أن أنهي دعواتي عاد مشهد آخر رأيته فيه قبل سبع سنوات، دار مقطع فيديو لأستاذ في إحدى مدارس بلدتي يضرب أحد التلاميذ، كان الأستاذ ممتلئ الجسد بضخامته التي عهدتها وبعصاه التي عهدها الكثيرون ممن درسوا في الشعلة يرمي كامل ثقله على الفتى ويسبّه، تنهار العصا على جسد الفتى في كل مكان، يأمر الأستاذ من الفتى أن يمدّ له يده، ولكن الفتى الصغير وبخوف يحق له أن يعيشه كان مجمداً، في كل مرة يمد يده للأستاذ وقبل أن تنزل على يده العصا، كانت اليد تتهرب من الضربة، فيجلده بدلاً عن ذلك ويقول له ” مد إيدك، يا حيوان… يا تفاحة فاسدة”، أذكر أنني قرأت التعليق الذي كتبه من نشر الفيديو يهين الأستاذ وينادي بفصله عن العمل، كان نداءً… جديداً، نداء لم يفهمه مثلي من اعتاد أن يعيش في جو من الرعب على نداءات الأطرش الصباحية في الأطفال المتأخرين والمخربين وفي الأطفال الأجمعين، لم يكن النداء، نداءً للراية الخضراء.
تقول الأسطورة أنّ اسم مدرسة الشعلة جاء بعد أن نشب حريق في المدرسة، جعلها شعلة تحترق في ليل البلدة لليلة، ولأنّ هيكلها صمد من الانهيار، عاشت المدرسة، فبدلوا اسمها الشعبي “الماشين” إلى اسم به ثورية، اسم قوي، اسم سيربي جيل براعم الفاتح العظيم، فبدل الاسم إلى الشعلة، التحقتُ بها في ٩٦، أيام كنت نشرب اليوقا، ونبدل زجاجات السعادة وكوثر والتبر بدكانة السويح في الطريق الجديدة، وأيام كنتُ أصحبُ أبي إلى الجمعية، لنأخذ حصتنا من الدقيق والأرز وشاي الزُهرة والزيت والطماطم المعجون وبالطبع بسكويت زينة والشمعدان. في ٩٦، كان اسمي صدّام في سجلات المدرسة، كنتُ في الخامسة من العمر، رأى أبي أن يسجلني مستمعاً في الصف الأول الابتدائي، وتعهد المدير الذي سبق الأطرش، أنني إذا سجلتُ علامات ممتازة في فترات الدراسة الثلاث سينقلني إلى الصف الثاني، نجحتُ بامتياز، وانتقلت إلى الصف الثاني إلا أنني لم أغادر كوني مستمعاً ولكن بطريقة غير رسمية، لازالت صحيفة الصف الأول ابتدائي دليل على وجود اسمي، الاسم الذي أحبه أبي وشعر بأنّه سيكون لطيفاً عندما يضيف إليْه اسمه، كان من المفترض أن أكون ” صدّام حسين” الجديد، لم يكن الاسم رسمياً بالطبع، سمعتُ عبر الزمن تفسيرات مختلفة عن السبب، في البداية، أخبرني أبي أنّ الاسم كان ممنوعاً في ٩١ وذلك لمشكلة شخصية بين القائد وصدّام حسين التكريتي ( باعتبار أنني صدّام حسين التاجوري)، ولكن تفسير آخر سمعته قبل رحيلي لاسطنبول، قال أبي لزوجتي بأنّني عندما جئت إلى الدنيا، نشر زملاؤه في العمل على حائط الإشهارات في المؤسسة مباركة له، ” نبارك للمهندس حسين النّعاس بولادة ابنه صدّام”، ناداه مديره -والذي كان مقرباً للقائد-، جلس معه في مكتبه، طلب المدير لأبي القهوة وبدأ بحنكة سياسي يسأله عن الحال والأحوال، ” كيف حال العائلة؟ كيف حال تاجوراء؟ ما الذي يفعله والدك؟ هل هو بصحة جيّدة؟ سمعتُ أنّك تحصلت على شبلٍ جديد، مبارك مبارك، نحتاج الكثير من البراعم لبناء الجماهيرية، ما اسمه؟”، قال المدير، ” اسمه الصدّام”، قال أبي بفخر، ” الصدّام حسين…اسم جميل، ولكن أخبرني، أليس من الأفضل أن تسميه باسم والدك؟ لابدُ أن يكون لك ولد باسم أبيك”، قال المدير، فهم أبي الإشارة، ” ما اسم والدك؟”، قال المدير، ” اسمه محمد”، وهكذا سجلتُ في كتيّب العائلة باسم محمد، ولكنني لم أستخدمه إلا في الصف الثاني الابتدائي، عندما أصبح الأستاذ محمدّ الأطرش مديراً للمدرسة.
حلمتُ بالأطرش كثيراً في سنواتي التسع في الشُعلة، ورغم أنني كنتُ في مكانة مميزة لدى الأستاذ تختلف معاملته لي على بقية التلاميذ، إلا أنني كنتُ أرتعد من مجرد سماع صوته، ناهيك عن رؤية صورته، لذلك، كنتُ مواظباً على الاستيقاظ باكراً مع الفجر، تصنع لي أمي بعض البيض وكوب شاي الساعة السابعة صباحاً، الساعة السابعة والنصف أكون قد خرجتُ ذاهباً إلى المدرسة، يأخذ وقتُ وصولي للمدرسة منذ مغادرة باب البيت ثلاثة دقائق فقط، أحياناً أجد الباب الحديدي مقفلاً فأجلس لوحدي تحت شجرة توت مقابلة للمدرسة أراجع دروسي في عقلي، أو أشرد في خيالات الطفولة، أحياناً أخرى كنت أجد الباب مفتوحاً، وأحمد الله أنّ البواب قد استيقظ باكراً هذه المرة، أدخل المدرسة وأذهب إلى ساحة لعب كرة السلة، أجلس تحت سارية العلم الأخضر ألمس العلم وأرتّل النداء الخيالي في عقلي، تمنيتُ كثيراً أن أقف في الساحة يوماً، في الطابور الصباحي وأنادي في الأطفال أن يقفوا تحية احترام لعلم بلادي، ومن ثمّ أرفعه عالياً، تدربت يداي على رفع العلم بطريقة خيالية، إذ كان محرماً أن أرفعه قبل أن يبدأ اليوم الدراسي، تدربتُ في خيالي كثيراً على النداء، وتدربتُ أيضاً على لمس الحبل الأخضر الخشن ومعرفة كيفية عمله لترتفع الراية عالياً على السارية الخضراء، أيضا. لكنني لم أكن واثقا في نفسي، كنتُ طفلاً خجولاً -ولازلت رغم ما أكتبه- كما كنتُ أخاف من أي خطأ قد يحدث، من ضربات الأطرش ومسباته لي ومن محاولتي أن أفتح يدي لعصاه لتضربني، غير مدرك أنني سأهرب من العصا عندما تقترب من يديْ، فيصفعني في وجهي ويركلني ويأمرني أن أنزل إلى الأرض وينادي بطالبيْن يبدو جسديْهما قادريْن على حمل الفلقة وتحملي وزن قدميْ بعد أن يدخلا بين الهراوة والحبال وقادريْن أيضاً على ربط الحبال وضغطها جيداً على الأقدام حتى لا تهرب، فيتمكن أن يسدد الضربات إلى بطن قدمي. كنتُ دائماً ما أشرد في هذه السيناريوهات الخيالية.
لم يضربني الأطرش إلا مرة واحدة في حياتي، كان ذلك في الصف التاسع، عندما عاقب تلاميذ الصف بأكمله، ولم يجد أي عذر لأن لا يضربني، بعد ذلك، أمرنا أن ننزل إلى ساحة كرة السلة حيث ننشد النداء، وأخبرنا أن ننزل في وضعية البروك، وضعية تدريب جنود في العسكرية، جميعنا فتيات وفتيان، ثم أمرنا أن نزحف على مسار الساحة كاملة حتى يأمرنا بالتوقف. ورغم هذه الصورة المرعبة للأطرش، لم يكن مصدر مخاوفي الوحيدة في المدرسة؛ ولأنّ المدرسة صاحبتها أسطورة الاشتعال، لابد من مسبب لذلك الاشتعال، كان جميع التلاميذ يؤمنون بوجود غولة في حمام المدرسة، وهو أمر لا ريب فيه، خصوصاً عندما تعرف أنّ للحمام رائحة نفادة من بول التلاميذ، طيلة سنواتي التسع في المدرسة لم أجد الحمام نظيفاً يوماً، كانت رائحته وشكله وكل ما فيه مقرفاً، وكنتُ وغيري من زملائي نفضل أن نتبول خلف غرفة قريب من ملعب الكرة الترابي. بجانبنا شعارات ثورية لم نفقه الكثير منها، أحدها كان يخبرنا أنّ المدرسة يخدمها طلّابها. كنّا نفعل ذلك في مراتٍ نادرة، نأخذ الاستراحة حصة للنظافة، ندور بها على ساحات المدرسة وحديقتها وبين الفصول ولكن لم ينظف أحد الحمام يوماً. كانت الغولة تحرسه، إلى هذا اليوم، ورغم أنني تخلصتُ من الخوف من الغولة، وعندما أمر من المدرسة داخل سيارتي، لا يجذبني في بنائها الذي صارت عينيْ معتادتيْن عليه إلا ضوء الحمام المفتوح. عندها فقط، أذكر النشيد الذي كنا نردده.
الله أكبر… الله أكبر،
الله أكبر فوق المعتدِ،
والله للمظلوم خير مؤيدِ،
أنا باليقين وبالسلاح سأفتدي،
بلدي ونور الحق يسطع في يدي،
قولوا معي، قولوا معي…
الله، الله، الله، الله أكبر،
الله فوق المعتدِ.