“رزق حكومة ربي يدومه”، وعيتُ بهذه العبارة في الرابعة عشر من العمر، كنتُ طالباً في مدرسة السابع من إبريل الثانوية، واحدة من أول وآخر المدارس العسكرية/الهندسية في البلدة، كنا نجلس بملابس الجنود على مقاعد الدراسة، كانت مدرسة اللغة الإنجليزية، ليبية سوداء عليها ملامح فزّان الأسطورية العظيمة، كانت من أروع معلماتي وهنّ قليلات، لم يدم وجودها معنا سوى شهر، كانت دائماً ما تخلط درس اللغة الإنجليزية بالثقافة، تحدثنا في العادة بالإنجليزية دون توقف، ومن ثم تترجم لنا.
واحدة من تلك القصص كانت تقول أنّه ” كان هناك مكتباتي إنجليزي كان يضع صندوقاً من القمامة أمام دكانته، وكان رجل ما كل صباح يأتي ليدمر ذلك الصندوق، كان صاحب الدكانة يراقبه يضرب الصندوق ويطيح به، يخرج ليعيده أو يبدله بصندوقٍ جديد، استمر هذا الحال حتى توقف الرجل عن ضرب الصندوق”، لم يعد المعتدي يجدُ متعة في الخراب، وانتصر صاحب الدكانة بتهذيبه، بالصبر والإصلاح. هذا ما أرادت معلمتنا أن تضعه في رؤوسنا.
” رزق حكومة ربي يدومه”، قال أحد التلاميذ في الكراسي الخلفية.
“رزق حكومة ربي يدومه”، كررت العبارة في رأسي لأحفظها، أتركها هناك في عقلي، تأخذ وقتها في الظهور وجمع الحكايات عنها، تعلمتُ مع الوقت أنّ الناس من حولي كانوا يقولونها عندما يشاهدون سيارة “عامة”، واحدة من سيارات الدولة التي تهبها لموظفيها للعمل، يستخدمها الموظفون في غير ذلك، غالبا ما كانت السيارات العامة في أسوءِ حال. كان الناس يستخدمونها أيضاً عندما هم أنفسهم، يتجاوزون القانون باستخدامهم لمقدرات الدولة الليبية، يقولونها بفخر ” رزق حكومة ربي يدومه”، أما أنا كنتُ أقولها دائماً عندما أجد صندوق قمامة محطّم، تتبادر على ذهني عندها تلك الحكاية التي قصتها لنا معلمتنا، ويتبادر في ذهني معنى التعبير.
رزق، تقول معلمتي في شهري الأول داخل منظومة بناء الجندِي المثالي، الجندي الذي يملك سلاح الهندسة في يده اليمنى والكلاشنكوف في الأخرى. رزق هي الكلمة الأم لكلمة ” Risk” الإنجليزية، والرزق هو رزق الحكومة الليبية، حكومة لم تعترف يوماً بأنّها حكومة، كان متعارفا عليه في ذلك الوقت في عام ٢٠٠٥إرفرنجي أنّ الحكومة هي الشعب، الشعب هو صاحب السلطات جميعها، القرار، التنفيذ، الحساب، المراقبة، المراجعة، هو مرجع كافة سلطاته، والشعب، من ما يتناهى لك من التعبير، قرر أنّه ليس الحكومة، سماها بفعل تمردّي عليها وعلى زيفها وادعاءها أنّها هو. كان يعرف أنّ ذلك الرزق الذي تنشره الحكومة في كل مكان ليس رزقه، هو رزقها، رزق السلطة، ولهذا؛ كفعل تعبيري عن التمرد، قرر أن لا يقلق نفسه بتحطمه وتهشمه وفساده واستغلاله وغسله وسرقته، يغض نظره عن المجرم الذي أقترف الخطيئة ضد الرزق، يسخر منه في أحسنِ الأحوال، يتعاطف معه أحياناً، ومن ثم يلتفت لمجابهة يومه.
بعد هذا التعبير تعرفتُ على تعابير أخرى، تشي، بطريقة ما، عن علاقة الشعب مع الحكومة، كيف يرى الليبي من يحكمه، هل هناك معيار للحكم على العلاقة، وكيف يمكن أن يكون إن وُجِد؟ تفضح الكلمات اليومية التي يستخدمها أي شعب في العالم، عن سيكولوجيته الجماعية، عاداته وتقاليده وثقافته، تاريخه الاقتصادي والاجتماعي والديني والسياسي، تتحول بعض تلك الكلمات إلى عبارات، العبارات يصل بعضها إلى أن تصير شعبية، يتناولها الجميع: الفلاحون، العمال، الكتّاب، الشيوخ، السياسيون والجنود والمعلمون. بعض تلك العبارات الشعبية تواصل اكتساحها للعقل الجماعي لذلك الشعب، فتصبح أماثيل، أثر، نصوصاً مقدسة لا يجب المساس بها، شعب كالليبيين، أحب كلمات الأولين، خلّدها وقدّس بعضها، هو في النهاية يقول عندما يقتبس إحدى تلك النصوص ” قالت العرب الأولى”.
“كان عندك حاجة عند الكلب، قوله يا سيدي”. قالت العرب الأولى، أجدادنا الليبيون، تفاجئك العبارة، إنّها تعلن عن نفسها دون مواربة، واضحة، يمكنك وضعها في أي موقف حياتي، في السوق ربما عندما تحتاج أن تبتز البائع (أو يبتزك هو عاطفياً) ليقلل لك من ثمن ما قد تشتريه، إنّك تكره البائع، هو يكرهك، ولكن تدخلان في إغراءات كلامية وابتسامات ونكات ربما، كل منكما يعتبر الذي أمامه كلب، لكنه في هذه اللحظة سيّده، وهو ما يشبه أحياناً تعامل الكثيرين مع السلطة وتعاملها معهم، الكل في حاجة.
الكلب من الكائنات المغضوب عليها في الثقافة الليبية وحكاياتها، تقرعه أمثالهم وتحتقره وتحاربه، هو كائن نجسٍ، كريه، جبان أحياناً، ناكر لأصله -عكس طبيعة الحيوان الحقيقية-، لكنه أيضاً كائن متسلط، يحتاج أحياناً الإرضاء، اللعب معه، فقط لأخذ العظمة التي يمسك بها، ربما تحتاج أيضاً أن تناديه “يا سيدي” ليفلتها لك. ولهذا، فقد رأى الليبيون أنّ الكلب حيوان ملائم لحشره في السياسة. هو عندهم، يشبه السلطة، يشبه الحكومة.
الثقافة الشعبية الليبية وتأريخها يكتظان بـ ” الكلاب الضالة” و”كلاب الحراسة” والكلاب الأسطورية. فلهذا يستخدمونها عند دخولهم في أي “صفقة” مع السلطة، يتضرعون لها كل مرة، يطلبونها ويتوددون لها ويحبونها ويصفقون لها ويشجعونها في أسوء الأحوال، يسايرونها ويتغاضون عن أخطائها في حقهم، فقط لينالوا منها حاجتهم، وعندما يفعلون، يعودون للإدراك أنّها بغيضة، كريهة، يسجلون ذلك، يخبرون الجميع عندما يتهمونهم بأنّهم تعاملوا مع السلطة وسكتوا عن جرائمها وتخلفها وشموليتها ووحشيتها ” كان عندك حاجة عند الكلب، قوله يا سيدي”.
مثلان الآن، يمكن للمرء أن يرسم بها بروتريه لمجتمع، يبدو هذا المجتمع في علاقة طويلة الأمد من الحرج مع السلطة، هو مجتمع لا يثق فيها، لا يعتبر نفسه جزءا من منظومتها الأخلاقية، وتبدو هذه السلطة منذ ما يزيد عن قرنيْن بعيدة تماماً عنه، لا تحب التعامل معه، تضعه على الهامش، تدعه يستعطفها حتى تلقي له بالقليل الذي يجري فرحا به، تعرف أنّها ليست سلطة بانعدامه، هو أيضاً يعرف ذلك، لهذا يجهز أجندته ضدها، ومع قيده الذي تلفه هي عليه، يخترع طرقاً أخرى للمقاومة، حيث يكون فعل عرقلة سعيها لنشر النظام عند البعض فعل مقاومة، عند الآخرين يعدُ فعل “النفاق” كذلك مقاومة، وعند غيرهم يكون إلقاء النِكات مقاومة. مقاومة لواقعه المعاش أحياناً وللسلطة أحياناً أخرى.
” إن شاء الله تخلى وتنبت فيها نخلة”، سمعتُ هذه الجملة أول مرة في فيديو لشيخ ليبي اسمه علي المشّاي، لم أعرف اسم الشيخ قبلها، أضحكتني سخريته من الواقع الذي يعيشه، كان يطلب مستحقاته من “الجمعية”، بعض المواد الغذائية التي اعتاد منذ تحول السلطة إلى اشتراكية في سبعينيات القرن الفائت، على أخذها وتقاسمها مع بقية المواطنين، كانت تلك المواد في العادة يغيب بعضها، قد يذهب المرء للجمعية باحثا عن الشاي والأرز والزيت والدقيق والأحذية وفناجين القهوة ولا يتحصل إلا على الملح، وقد يستمر أخذه للملح لأسابيع يأتي فيها كل مرة ليسأل هل من جديد قد أتى، وقع الشيخ المشّاي في هذا الشرك، عرف أنّه مشهد متكرر، أطلق العبارة على شيخٍ آخر كان يسأله عن الجمعية، ثم غادر المشهد.
بعد أن وضعت هذه العبارة في عقلي وخزنتها وبدأت استخدامها، نسيت الرجل العجوز لزمنٍ طويلٍ حتى مؤخراً، عندما تفكرت العبارة وأحببت أن أسمعها منه، كتبت العبارة ” إن شاء الله تخلى” وانتظرت نتائج البحث، انتشرت مجموعة من الفيديوهات، كان ناشروها يستخدمونها وغيرها في الإسقاط على واقعهم الذي يعيشون، بعض الأحيان كنغمة بها من الحنين ما بها، أحياناً أخرى بنغمة تكشف مؤامرات خططت للإطاحة بقائد الوطن، تجمع تلك الفيديوهات مجموعة من مقولات الحاج علي المشاي، وتبكي على وطنٍ ضاع، على سلطة لم تعد في يد الشعب. تحوّل كلام الشيخ من نكتة، عبارة ساخرة في الهواء، إلى نبوءات وكلمات تختصر حكمة العرب الأولى.
” إن شاء الله تخلى وتنبت فيه نخلة”، عبارة قاسية، مليئة بفقدان الأمل، مليئة بالغضب والرفض للواقع المعاش، مشحونة بالذل والسواد والرغبة في أن نرى العالم يحترق، يتجهُ خيالك عند سماعها إلى رسم تلك الصورة التي تختفي فيها بلاد بأكملها، بأبنيتها، بأناسها، بشعبها وحكومتها وتاريخها وأشجارها وزيتونها وجبالها وحيواناتها وأغانيها، لتنبت في النهاية نخلة وحيدة فيها، هل هي رغبة في رؤية مستقبل جديد لهذه القرية؟ مستقبل تبدأ فيه بنخلة وحيدة؟
هي أيضاً تشي بعلاقة القائل مع الأرض، برفضه لها ولارتباطه بها، يعلن فيها أنّه يفضل مغادرتها -حياً أو ميتاً- على أن يعيش فيها.
هناك شيء أخبرتني به معلمتي في اللغة الإيطالية المدة الماضية بينما نتعلم كلمات جديدة، لمعلمتي فكرة هائلة في جذبك اللغة، تستخدم الثقافة الليبية اليومية، العادية، والبسيطة جداً وتتحدث فيها معك بالإيطالية، هي امرأة بحجم وطن، كنز لا يعرف عنه إلا القليل. كنّا نتحدث عن الشعوب، طباعهم وعلاقتهم بوطنهم، وصلت المعلمة إلى نتيجة أنّ الليبيين، ” نون سونو باتريوتّي، ليسوا وطنيين” تقول.
” تشِى أونا ليبيكا فرازِى كِى سي ديتشِى، هناك عبارة ليبية تقول ” إن شاء الله تخلي وفيها نخلة””، أخبرها. هذه المرة كنتُ أنا التلميذ في الصف الذي يستخدم عبارة، تعد، بطريقة ما، سياسية.
الحاج علي، الرجل الذي اشتهر بالعبارة، لم يكن يقلها من انعدام “وطنيته”، كانت تتضح علامات “الوطنية” في فيديوهاته ومواقفه الأخرى، ربما كانت وطنية مشحونة بالغضب من السلطة، غضب يتمنى فيه أن ينتفيا هو وهي سواء، يمكن للوطن بعدها أن يبدأ الحياة بنخلة، الشجرة التي، على عكسِ الكلب، هي رمز الأم عند الليبيين، تاريخهم مربوط بجذوعها وثمارها.
” ما بهاك يا مرت بوي الأولى، تضربي فيا وتعطي فيا ناكل”، يقول المخيال الشعبي الليبي، مفضلاً بين السلطات التي تتوارثه، يفضل أن يعيش في يدِ دولة تحكم قبضها عليه وتلقي له بالقليل على أن يعيش في دولة تتركها جائعاً، لكن هي أيضاً جملة مليئة بالدلالات الأخرى، دلالة فقد الأمل، فقد القدرة على المقاومة والرضا بحكم زوجة الأب الثانية، السلطة الجديدة، يؤكدُ على ذلك عندما يقول ” الجن اللي تعرفه خير من الجن اللي ما تعرفاش”، يحكمُ على كل الحكّام بأنّهم متشابهون، ولكن الأفضل أن يبقى المرء خاضعا لحاكم خبره وعرفه وبدأ يتعلم كيفية مناورته أو إرضاءه. هذه العبارات، سمعتها مراراً وتكراراً للمقارنة بين “دولة” فبراير ودولة العقيد الليبي الراحل.
عبارات أخرى مليئة بها الثقافة الشعبية الليبية تحكي عن شخصيته السياسية وترسم ملامحها أحياناً في زمنٍ بعينه، بعضها يموت ويندثر أو يؤرخ في الكتب ويسجل، والبعض الآخر يستمر في حياته على اللسانِ الليبي، يستعين بها كل ما احتاج أن يعبر عن رأيه السياسي، تعج كتب الأمثال الشعبية الليبية عن أمثلة اختفى استعمالها، عن أخرى استجدت، وأخرى بعد مقارنتها بما يتداوله الناس، بدلت معناها وارتدت رداء الحداثة، غيّرت القليل من كلماتها لتواكب عصرها، وتكون جاهزة للبسها على السلطة الجديدة. ولتكون تاريخاً أليماً يوضح ما عاشه ويعيشه هذا الشعب من تجاهل واحتكار واحتقار وترهيب وتجويع وحصار ومهانة وذلٍ.