في بلدتي تاجوراء، الضاحية الشرقية للعاصمة الليبية طرابلس، نشأت على رؤية الصليب المعقوف للحركة النازيّة، كنت أراه في كل مكان، في مقاعد الدراسة، على جدران المنازل والمدارس وفي كراسّات أصدقائي، وكان لي مساهماتي في نشر الرمز؛ كان الرمز بالنسبة إلينا لا يعنِي شيئاً سوى تمجيد لهتلر الذي، حسب رأي أهل البلد وقادتها، كان رمزا للنضال ضد الإمبريالية الغربية، كبِرت، وعرفتُ أنّ الصليب المعقوف يستفز العالم خارج بلادنا، وقد يصل ذلك الاستفزاز إلى درجة إلغاء من يتبنّاه من الحياة العامة في ذلك العالم. لكن ظلّ الرمز لا يشكّل خطراً على سلامتي حتى سافرت إلى هولندا مراتٍ عدة مع صعود تيّار اليمين المتطرف والنازيين الجدد في أوروبا، وفي كل مرة كنتُ أنزل في فندق بقرية بوسوم زاود، قرية صغيرة بالقرب من أمستردام، للقرية حديقة عامة كبيرة متصلة بغابة من أجمل ما رأيت من غابات، وكنت كل يوم أتجوّل بين الحديقة والغابة وأجلس عند كرسي ينفتح على حقلٍ ويتجه إلى الغروب، لهذا أتحيّن وقت الغروب للجلوس هناك، في إحدى تلك السفريات ذهبت إلى الكرسي لأجد نفسي أمام رمز الصليب المعقوف محفورا في ظهره، لا أعرف ما الذي دهاني تلك المرة، أصابني خوف عظيم من رؤية الرمز الذي شاهدته مرارا في طفولتي، عند عودتي إلى الفندق كنتُ أراقب وجوه الهولنديين الذين تحوّلوا فجأة من قوم وديعين في نظري إلى مشاريع عنصرية مصغّرة قد تستهدف دمي العربي، صار للرمز، لأول مرة في حياتي، معنًى مغايرا لما نشأتُ عليه.
يتحدث العرب كثيرا عن ثقافة الإلغاء، أمر يتشاركون فيه مع الرافضين لحركة الصوابية السياسية و”الصحوة” (Wokeisim) اليسارية المتطرفة والتي انتقلت من الدفاع عن ضحايا الاعتداء الجنسي من النساء فيما يعرف بـحركة “أنا أيضاً” (Me too)، إلى محاربة كل من له رأي حر في هذا العالم، صار المبدعون من كوميديين وفنانين وكتاب ومخرجين الهدف الأول لثقافة الإلغاء، ثقافة لا تريد نقدا لها ولا لمن ينضوون تحت رايتها، ثقافة تهدد كل من يصدر عنه ما يخالف رؤيتهم للعالم وآرائهم، ثقافة “تلغيهم” من المشهد العام، تقطع عنهم رزقهم. راح ضحية تلك الثقافة الكثير من المبدعين في أمريكا، اختفى بعضهم عن الفضاء العام، آخرون عادوا لأعمال حظَت بجماهيرية أقل بسبب مقاطعة وسائل الإعلام الكبرى لهم، آخرون وبعد زمن عادوا لمجدهم القديم، ولكن هناك فئة منهم، من ضمنهم الكوميدي المُبهر ديف شابيل لازال يحظى بشعبية عظيمة كبطل مناوئ لثقافة الإلغاء.
يتحدث العرب عن ثقافة الإلغاء، نعم، يحاربون ما يحاربه ديف شابيل والمبدعون في العالم الغربي، يحاربون ثقافة الإلغاء الغربية، لكن يتجاهل الكثير منهم – وأحيانا يتماهون مع- ثقافة الإلغاء عندهم، وحتى لا يكون هناك لغط بين الثقافتيْن، سأسمّي ثقافة الإلغاء العربية هنا “ثقافة الممحاة”، لسببيْن، الأول هو أنّها ثقافة نابعة من القوى المحافظة العربية (ما يسمّيه الغربيون اليمين)، الثاني هي أنّ فاعليتها وتأثيرها أعظَم من الأخرى، بل إنّ لها قاعدة شعبية عظيمة تشكّل صوتها. ثقافة الممحاة تعمَل لا على دفع المبدعين عن الضوء فقط، بل ترفض وجودهم حتى داخل المجتمع، تريد، لو أمكنها، أن تمحي وجودهم كليا لا ما يبدعون.
في أوجِ حركة “أنا أيضاً” في ٢٠١٧ التي طالت شخصيات عامة كثيرة في أمريكا، كانت هناك حركة أخرى داخل ليبيا تعمل على مطاردة ٢٥ كاتبا وكاتبة من الشباب في ليبيا بعد مشاركتهم في أنطولوجيا أدبية للشباب الليبي عنوانها ” شمس على نوافذ مغلقة”، كنتُ أحد أولئك الكُتّاب، ورغم أنني والكثيرين من الشباب في ذلك الكتاب لم نكن الهدف الرئيس لحملة المَحي التي طالت الكتاب من مجتمع مواقع التواصل الاجتماعي الليبي، إلا أنني تأثّرت، أذكر أنني عشتُ رُهابا لمدة شهر بعد نشر صور كل المشاركين في الكتاب مع سيل كبير من الشتائم والمطالبة بالعقاب الجماعي، رُهاب لم يعالجه إلا الخروج -هربا ونفياً اختياريا- من ليبيا إلى تونس لأشهر قبل العودة إلى البلاد، حالفني الحظ في تونس بالاستمرار في الكتابة، إلا أنّ الكثيرون من الكتاب المشاركين في الكتاب – وخصوصا الفتيات- قد تركوا عالم الأدب، بعضهم تحت تأثير قوة المجتمع المحيط، البعض الآخر بسبب الصدمة النفسية التي عانوها من الحملة الاجتماعية التي نادَت بسجنهم وقطع أرواحهم عن هذا العالم، سُجِن أحد الكُتّاب وعُذِّب، لكن ما كان غريبا أنّ من سجنه وعذّبه لم يكن يعرف عنه شيئاً سوى وجهه الذي رآه في الحملة، لم يكن يعرف عن إبداعه شيئا، لم يقرأ له، لم يضطر لذلك، بل ألصَق إليه تهما كان بريئا منها. كان دور “الدولة” الليبية آنذاك، ممثلا في وزارة الثقافة والتنمية المعرفية، مخجِلا، متواطئا وذاعنا للأصوات الشعبية، إذ تبرأت الوزارة من علاقتها من الكتاب، رغم أنّ الكتاب طُبِع بعد موافقة الرقيب في الوزارة.
دائما ما أسمع كلمة “الرقيب” تتواردها ألسنة المثقفين العرب، ينسجون في مخيالهم موظفا حكوميا يعمل على تجريد الإبداع من ما يراه “مُخلاً”، وتكون لديه الكلمة العُليا في الموافقة على نشر الكتاب في بلدٍ بعينها أم لا؛ كان الرقيب الوحش الأوحد الذي يواجهه الكاتب العربي لعقود مضت، وبعد أن يتمكّن من الهروب من مقصّه، سيجد الكاتب نفسه مواجهة “مثقفين” محافظين يكتبون عنه ويهاجمون إبداعه في الصحف، كان الكاتب يعيش في أزمة لكنّها أزمة يمكن التحايل عليها، أمكنه مواجهتها والتعامل معها، هذا كان الحال قبل اشتداد سلطة مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تبعها اشتداد سلطة الشعوب على كُتّابها.
روايتي، خبز على طاولة الخال ميلاد، هربت من مقص الرقيب الليبي، بعد نشرها خارج البلد، رقيب في ظنّي، لم يكن ليفعل الكثير فيها، إذ أنّه حسب خبرتي الشخصية معه، هو رقيب لم يعد يقرأ، ويعتمد على شيئيْن للوصول إلى قراره، كيف وصل الكتاب إليه، وهل هناك من يتحدث عنه في المجتمع المحيط. نُشِرت روايتي كما أردتُ لها أن تخرج، وقد حدث أن هنّأتني وزارة الثقافة والتنمية المعرفية عبر وسائل التواصل الاجتماعي على وصول الرواية إلى القائمة الطويلة والقصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، بل هنّأتني أيضا على فوزها بالجائزة، رغم أنّه لم يكن لها دورٌ مساند طيلة مسيرتي، لكن بعد أن نهضت الأصوات المناوئة للرواية والمطالبة بمحاسبة كاتبها الذي “تطاول على المجتمع”، ألغت الوزارة تهانيها، حذفتها من صفحاتها، رضخت “السلطة” لمجتمعها لتلاحق، حتى هذا اليوم، الرواية وكاتبها.
يواجه الكُتّاب في ليبيا مشكلة حقيقية، بدون سلطة تقف في صفّهم أو حتى “تحاسبهم”، إذ أصبح لكل من “هبّ ودب” الحق في ملاحقتهم ومحاسبتهم، يواجهون ثقافة تريد محيَهم وإبداعهم من الوجود، ثقافة لا علاقة لها بالصوابية السياسية وما إلى ذلك من الهراء، بل هي ثقافة -رغم تشابهها معها- مناوئة للصوابية السياسية، وهي ثقافة موجودة داخل كافة المجتمعات العربية، إذ يمكن وبسهولة إثبات تصاعد هذه الثقافة في العقد الماضي عن العقود التي كان فيها الرقيب هو الحكم الأول والأخير على المُبدِع. صار للجميع الحق في إصدار الحُكم على المجتمع والعمل الرقابي. بعد فوز خبز على طاولة الخال ميلاد بالجائزة العالمية للرواية العربية، سُرِّبت نسخة مقرصنة منها عبر الانترنت، وصارت الرواية تتناولها أيدي الليبيين، جُلّهم لم يقرأوا كتابا واحدا، يسجل كُل واحد فيهم الكلمات التي يريد محيَها منها بدءا من العنوان واسم الشخصية والبلد حتى محي الكاتب نفسه، تحوّل الجميع إلى “الرقيب”، وحش فرانكشتاين بستة مليون عين، لكل عين ذائقتها، ولكل عين كلمة لا تعجبها.
لا يتحدث العَرب كثيرا عن ثقافة الممحاة، لازالوا يحاربون طواحين الهواء التي تمارس رقابتها على العالم الغربي. يبدو الأمر، بالنسبة إليْ، شبيها بما كنّا نفعله اتجاه الصليب المعقوف للنازية. هذه ليست دعوى لترك محاربة “ثقافة الإلغاء” الغربية، بل على المُبدِع الحقيقي أن يحارب الرقابة على الإبداع أينما كان، ولكن… وكما يقول المثل الليبي: ما ضمّيتي حوسة حوشك، بضمّي حوش الجيران؟ ( لم تنظفّي بيتك، وترغبين تنظيف بيت الجيران؟)، علينا أن نعمل على حماية المبدِع، في أي قطرٍ عربي، من الصوابية الاجتماعية قبل أن نواجه الصوابية السياسية. أن نواجه الخِنجَر العربي قبل مواجهتنا للصليب المعقوف.