بنغازي أخيراً…سرد تبعات الثورة الليبية.


 

الجزء الأول: ربع المسافة.

 

تأخرت، كان من المفترض أن ألقاها في زمنٍ أفضل؛ ولكن لا يبدو لي أنّها مرّت بزمنٍ جيّد على أيةِ حال، سواء قبل أن أنشئ علاقةً معها أو بعد ذلك بعشر سنوات. لم تكن كما تخيّلتها أبداً، أخبرني صديق بنغازينو ألا أرفع سقف التوقعات، لكنه لم يكن يعلم بأنني رفعته مرتيْن بطريقتيْن مختلفتيْن، واحدة عن عمق الحياة فيها وأخرى عن خوائها.

 

 لازالت هتافات المتظاهرين في الطريق الجديدة بتاجوراء وعلى بعد خطوات من بيتنا تتكرر في أذني، في كل مرة تمرّ فيها بنغازي في خاطري.

 

١٩ فبراير ٢٠١١، الساعة التاسعة ليلاً، كنتُ أنصتُ للبوم المتلبد في قلب نخلة بسانية نخيل تلتف حول بيتنا،

أفكّر في المظاهرات التي تجري في شرق البلاد، عندما، ولأول مرة في تاريخي الشخصي داخل البلدة أسمع هتاف يخفي نعيق البوم ” يا تاجورا نوضي نوضي… والقذافي طلع يهودي”، لا أريد تشريح الهتاف هنا وذكر المغالطة التي فيه، لكن ما هو جدير بالاهتمام أنّه لم يتجرأ أحد في البلدة إلا مجموعة من الشباب في تسعينيات القرن الماضي أن يرفعوا أصواتهم وأسلحتهم في وجه الأخ القايد قبل ذلك، البقية اكتفوا بالنكات، ولكن كانت هذه المرة، مختلفة.

 

 ركضتُ داخل أزقة حيّنا لألحق المتظاهرين، كانت تلك الليلة بداية ارتباطي ببنغازي بعد أن مشينا داخل شوارع البلدة وأزقتها ننادي ” بالرّوح بالدم، نفديك يا بنغازي”. أحرق متظاهرون مقرّ المثابة الثورية بالقرب من مركز الشرطة، بينما وقبل أن يشتعل سعار الجماهير، طوّق مجموعة أخرى مركز الشرطة والمكتبة العامة مقابل المثابة لحمايتهما. كانت بنغازي الشرارة، لا للثورة فقط، بل لكل شيء أتى بعدها، بما فيها الآلية التي اتخذتها لكتابة هذا النص.

 

أغسطس ٢٠٢١ وصلت بنغازي قبل الغروب صحبة صديق، كانت هناك حجّة هذه المرة في ألاّ أؤجل الزيارة، أردت أن أشارك البنغازينو فرحه بزواجه، خرجنا من بين مزارع تاجوراء متجهين شرقاً بالسيارة عند الخامسة فجراً، تحدثنا كثيراً عن الجزء الذي لم يسبق أن رأيناه من الشاطئ الليبي الفارع، كنتُ قلقاً، هناك خوف عارم من المجهول الذي ينتظرني بعد أن أجتاز مدينة مصراتة، المدينة “الثورية” الوحيدة التي أنشأت معها علاقة مبكرة ترتبط بالحرب والأدب والصداقة والصحافة ودلاء البنزين والرحلات الجوية إلى العالم غير الليبي.

 

كنتُ معتاداً على الطريق إلى مصراتة، في كل بلدة أمر بها خزنت ذكرى لي، أعرف القرابولي جارة تاجوراء منذ طفولتي، ولكن آخر قصة حدثت لي فيها كانت في ٢٠١٩ أثناء حرب حفتر وجيشه على طرابلس، عند ذلك انتشرت مجموعة إجرامية داخل البلدة، وفي ليلة كنتُ في مشوار إلى مصراتة ٢٦٠ كيلومتر شرقي طرابلس لأقلّ أختي وزوجها من مطار مصراتة إلى بلدتنا؛ نظراً لتوقف العمل في مطار معيتيقة بسبب قصف قوات خليفة حفتر المتواصل للمطار. تلك الليلة كانت المجموعة الإجرامية نشطة، وكنا قاب قوسيْن أو أدنى من أن تهاجمنا. غير تلك الحادثة، ليست لي علاقة أخرى مع القرابولي، سوى “الزرادي” التي بدأت ومجموعة من الأصدقاء نحييها على شواطئها في الصيف، هاربين من الحريق الإسفلتي والخرساني لشمس طرابلس عندما تغيب الكهرباء.

 

أكره طريق الخُمس، رغم حبي للمدينة ذاتها، هي أيضا لي معها قصة ذات علاقة بالحرب الأهلية، في ٢٠١٥ كنت مع مجموعة من الأصدقاء في رحلة إلى مصراتة مرة أخرى، ولكن هذه المرة لتعبئة البنزين، كانت طوابير البنزين في العاصمة تصل إلى أيام، ولهذا قررنا أن نعبأ بعض الدلاء للاستخدام الشخصي، في طريق العودة من الخمس أوقفتنا بوابة أمنية، أرادوا إفراغ دلاء البنزين لكننا ألححنا على إبقائها، كنا نسمي هؤلاء “ثوار البنزينة”. مدينة لبدة الفينيقية/الرومانية التي أحببتها -وهي تقع داخل مدينة الخُمس الليبية-، في آخر زيارة لي لها وجدت مجموعة من “الحائطيات” الشخصية لمقاتلين من شتى المدن الليبية يخلدون فيها ذكرى الثورة وذكرى دخولهم للخمس، كما يفعل كل قوم يدخلونها منذ نشأتها.

 

نمرّ بزليتن، في ٢٠١٣ زرت ضريح “سيدي عبدالسلام الأسمر الفيتوري”، أشهر أعلام الصوفية في ليبيا، كان الضريح مدمرا عندما زرته، تعرض لتفجير من قبل مجموعة من المتشددين كما تعرض غيره من الأولياء الصالحين والمرابطين في غرب البلاد لعمليات هدم وتشويه؛ لينتهي رسمياً، عهد الطريقة الصوفية في البلاد، بعد مئات السنين من اتباع الناس لها. نصل إلى مصراتة عن طريق بوابة الدافنية، بوابة رأيتها بحالات شتّى، في ٢٠١٣ كان المرور منها سهل، في ٢٠١٤ صارت البوابة مزعجة، كانت محصّنة بالسواتر الترابية والتحصينات وأصبح عناصر الأمن بمزاج سيء وأكثر تشدداً ضد السيارات التي تحمل لوحة طرابلس، لهذا كانوا يفتشوننا جيداً، في ٢٠١٥ وبعد ذلك خفّت تلك الحدّة وأصبحتُ أمر من البوابة بسهولة ولم يستوقفني أحد حتى هذا اليوم فيها. كان يمكنني قراءة مزاج الشارع المصراتي فقط من تلك البوابة.

 

الدافنية قرية قديمة، في عهد الإدارة الإيطالية كانت البلدة ريفية -ولازالت- تحمل في بدايتها، على بعد خطوات من بوابة الدافنية، كنيسة “الشهيد مار جرجس” والتي تحولت من الكاثوليكية إلى احتضان الجالية القبطية المصرية، في ٢٠١٣ أيضاً زرتُ تلك الكنيسة، أردتُ أن أجري لقاءً صحفياً مع راعي الكنيسة القس “مرقص زغلول” للحديث عن تفجير آخر استهدفها قبل سنة، راح ضحيته شخصيْن. كان الحوار مع القس جميلاً، لكنني لم أكتب ذلك الحوار يوماً. وضعتُ التسجيل في ملفاتي ونسيتُ أمره.

 

مصراته مدينة أحمل معها علاقة خاصة، هي مدينة رأيتها في أمزجة مختلفة كما ذكرت، أول مرة دخلت فيها شارع طرابلس وسط المدينة كانت مثقلة بالأبنية المهشمة على يمينك ويسارك، كانت الروح الثورية في المدينة حاضرة بقوة وقتها، أُخبِرت بأنّ لا أحد يريد أن ينسى الشهداء، لا أحد يريد أن ينسى الثورة، ولهذا لم يرمم الكثيرون المنازل والدكاكين على الطريق، بعد ذلك بسنوات، كان بإمكاني ملاحظة أبنيةٍ قد رممت، أخرى هُدِمت ونشأت بدلاً منها أبنية تجارية تحمل ماركاتٍ عالمية كنت لا تراها إلا في طرابلس. دخلتُ وصديقي إلى المدينة الساعة السابعة صباحاً، أردنا أن نعبئ تنك البنزين، نفطر ونعبئ أكواب القهوة؛ كنا مدركين، بطريقة ما، رغم عدم معرفتنا بما يقع خلف مصراتة، أننا لن نرى محطات البنزين ولا المقاهي حتى وصولنا إلى بن جوّاد.

 

ترحّب بك الصحراء الليبية الممتدة على ساحل المتوسط متى ما خرجت من أرياف مصراتة الشرقية، تبحر بسيارتك وحيداً بين ندرة الأشجار وعلامات الحضارة حتى تصل إلى تاورغاء، تثير خوفك وحشة تاورغاء، لا علامات دالة عن البلدة وحضور البشر فيها إلّا فيما نَدَر، بيوتها المهجورة تنتشر يمينك ويسارك، وفي كل مرة تمر بها بإحدى اللوحات الإرشادية على الطريق تجد اسم البلدة ممسوحاً، كأنّها لم تكن موجودة يوماً ما، وكأنّ نخيلها لم يتسلقه رجالها، وأزقتها لم تلعب فيها الفتيات بعد أن يهربن من أمهاتهن وهنّ يحاولن أن يصففن شعورهن. في بعض اللوحات، يمكنك أن تقرأ اسم البلدة وقد بدلته الأيادي الثورية التي تعطشت للانتقام إلى “مصراتة”. ويمكنك فعلاً، وبعيداً عن الأطروحات والتقارير الصحفية وخارج الصندوق الأزرق، أن تشعر بعمق الأزمة الليبية، بعمق الشرخ الاجتماعي.

 

مرّت في بالي ذكرى بينما أخرج من تاورغاء حيث تخبرني إحدى اللوحات الطرقية بأنّ” مصراتة” تودعني، كنتُ أعمل في إحدى المؤسسات الخيرية كمصوّر وكاتب في الجهاز الإعلامي، وبعيداً عن شكّي في قدراتي في التصوير والكتابة أيضاً، إلا أنّني وفي صيف ٢٠١٧، اتصلتُ لأول مرة بناس تاورغاء. كان الحر شديداً في شهر رمضان، شمس الظهيرة تحرق الإسفلت في مخيّم النازحين بشاطئ جنزور غرب طرابلس، مركز تحيط به الكتائب المسلّحة ويبتعد عن الأحياء السكنية للضاحية الغربية للعاصمة، كنتُ في مهمة، أن أصوّر “فرح” أهالي المخيّم بالمساعدات الخيرية التي تلقتها من المؤسسة. كان المخيّم مأساوياً. القمامة، ندرة المياه والكهرباء، الازدحام، والأطفال وحيويّتهم في اللعب بالكرة والحبل رغم ملابسهم الرثّة، يجعلونك تتردد قبل أن تضغط على زر التصوير، كان ذلك المخيّم من أفضل المخيّمات التي عرفتها حالاً. إذ رغم كل شيء، كان يقع تماما على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بعيد عن الغابة الخرسانية وسط العاصمة.

 

شدت انتباهي عجوز تاورغية، كانت تجلس في ساحة صغيرة تستظل من حرارة الشمس تصنع من الجريد اليابس قفّة، يمكن بسهولة تبيّن أنّ العجوز مرّت بالكثير، غادرت المدينة التي عاشت فيها وأحضرتها كلّها معها في يديْها وملابسها ورائحتها وجلستها، تحدثتُ معها، كنتُ أرغب في معرفة المزيد عن حياتها، لكنها كانت لها أجندتها، تخطّت أسئلتي عن الوضع في المخيّم، وأخبرتني بأنّه يمكنني أن أصوّرها فيديو وهي تعمل على الجريد الملوّن وهي تشكّله حتى يصير قفّة، بينما كانت عجوز أخرى تجهز إحدى الفتيات بغزل شعرها. خرجتُ ذلك اليوم من المخيّم وقد كرهت عملي.

 

في ٢٠١١ من نفس الشهر الذي زرتُ فيه المخيّم، كنتُ أتابع أخبار الاشتباكات المسلّحة في مصراتة عبر التلفاز بين انقطاعات الكهرباء والانقطاع التام لخدمة الانترنت وصواريخ الناتو التي تضرب معسكرات تاجوراء، عاشت مصراتة وعاش أهلها رعباً، كانت عيناي تتلقف الصور والأخبار والتقارير حول ما يجري هناك، كانت مصراتة الأمل المتبقي لنا لتعيش “الثورة”  في الغرب الليبي بعد أن تحرر غالبية تراب الشرق، أتلقف التقارير عن عمليات الاغتصاب الجماعي التي ارتكبته جماعات المتطوعين في صفوف النظام الليبي، ينسبون العمليات للمتطوعين من تاورغاء جارة المدينة، يزداد كرهي لتاورغاء ولكل ما تمثله، وعندما انتصرت مصراتة وردّت قوات العقيد التي كانت تحاصرها من كل اتجاه، تغللت داخلي نشوة، ذات النشوة التي سرت بعروق المنتصرين، وجعلتهم بعد ذلك، ينتقمون لما مرّوا به  خلال أشهر فقدوا فيها منازلهم وإخوانهم وعائلاتهم وحياتهم.

 

بالطبع الأمر لم يكن متوقفاً على تهجير تاورغاء وتشتت أبنائها في المخيمات. في ٢٠١٣ كنتُ في رحلة إلى جبل نفوسة جنوبي غرب العاصمة مع مجموعة من الأصدقاء، وكنا نحتاج أن نمر من الزنتان حتى نصل وادي العين الزرقاء على أعتابِ جادو، ولكن قبل أن نصل إلى الزنتان أذهلني منظر لقرية على الطريق خاوية على عروشها، كانت قرية المشاشية التي شارك جزء من أبنائها في محاولة قمع الثورة بالجبل، تنتصب أمام القرية لوحة تحذيرية تقول “منطقة عسكرية محظورة”. كان المنظر يشبه مشهداً في فلم هوليوودي يتحدث عن نهاية العالم.

 

كنتُ محظوظاً نوعاً ما، قد تعالجتُ من الحالة الثورية مبكرا وعلى جرعات، في ٢٠١١ وفي شهر سبتمبر تحديداً، وبعد تحرير طرابلس، كنتُ أيضاً متطوعاً في العمل داخل إحدى الكتائب المسلحة كإداري، وفي أول يوم عمل لي، رأيتُ رجلاً أسوداً ربما كان تاورغياً، ربما فزانياً، وربما من المرتزقة “الأفارقة” الذين كانوا يحكون عنهم أيام الثورة، كان الرجل مثبتاً في نافذة غرفة فارغة بسلسلة حديدية حول معصميْه، يصبّ الدم من جبهته، شخصت في المشهد قبل أن يغلق الباب معذّبُه.

 

في نوفمبر من نفس العام أيضاً، وبعد أشهر من عملي في تلك الثكنة أصدر البطاقات التعريفية للثوار، وبعد أن دخلتُ على المنظر المعتاد للفتيان تحت السن القانونية وهم يتدربون على السلاح، جلستُ في مكتبي لأسمع أحد الثوار الشباب، فتى أعرفه كان يحب الاستماع لبيقي سمولز وتوباك، يتحدث لزملائي في المكتب الإداري عن “متطوع” من جنود العقيد وكيف تلذذ بتعذيبه، كان يحكي قصته وكيف كان الرجل يترجاه أن يتوقف وهو يضحك.

 

وكما تابعتُ أخبار القتال بمصراتة في ٢٠١١، تابعتُ المظاهرات والاحتفالات والتقارير التي تأتي من بنغازي، كنتُ أطلّ من وراء التلفزيون على ساحة المحكمة حيث يرفع المتظاهرون شعاراتهم ويرددون تشجيعهم لمدن الغرب الليبي التي تقاوم قوّات العقيد في جبل نفوسة ومصراتة والشباب الذين اتخذوا أزقة طرابلس الضيّقة لمناوشة المتطوعين سائقي سيارات تويوتا “التندرا” برمي المولوتوف واسطوانات الغاز عليها. أتابع التقارير عن مؤسسات المجتمع المدني والصحف والمواقع الإخبارية التي يديرها شباب بنغازي، وأحلم يوماً ما أن أكون جزءا من شيء شبيه، عندما تتحرر طرابلس.

 

كانت بنغازي تزداد حضوراً في وجداني بعد ذلك، قرأتُ عنها في كتب خليفة الفاخري وكتابات النيهوم الساخرة وسمعتها في أغاني المرسكاوي وقرأت تاريخها من كتب أرّخت لشخصياتها السياسية والثقافية والاجتماعية وبعض أحيائها، لم أكن صديقاً لأحدٍ في بنغازي، لكنني كنتُ صديقاً للمدينة أتتبع أخبار وقصص من أعرفهم من أبناء طرابلس فيها، حفظت أسماء أحيائها وأبطالها، عرفتُ أنّ الكورنيش ووسط البلاد هي عبارة عن تشكيلة من المباني الإيطالية والعثمانية، أما حي كالفويهات، هو حي حديث نسبياً، حي بناه رجال الأعمال الليبيون في الستينيات ليؤجروه “للخبراء” الأمريكيين  والإنجليز في النفط والزراعة والإدارة والآثار والدولة.

 

وكالآثار التي تعج بها البلاد كانت الطريق من تاورغاء إلى سرت، محظية القايد، ومن ثمّ أكثر المدن مأساوية في السنوات العشر الماضية، تشبه زيارة معلم أثري، يمتد على يمين الطريق ما تبقى من مشروع السكة الحديدية الذي كان من المفترض أن يربط البلاد، يختبئ في الأفق، آثار عن حروب متلاحقة حدثت في القرى الجانبية، وأشياء من عهد الجماهيرية وصلتها أيد الثوار وتمكنت من مسحها. أخبر صديقي وحتى قبل أن نصل إلى سرت بأنّ ليبيا كبيرة، خريطة العالم لا تعطيها حقها، بلاد شاسعة وغارقة في الفراغ، يزيد الفراغ بين مدنها وقراها إحساسك بضخامتها، كما يزيد من العزلة الثقافية بين سكانها، شعب قليل يسكن بقعة جغرافية في وسط “العالم القديم” ويبدو أنّه لا يملأ منها سوى مساحة بسيطة، الباقي يسكنه الجن والعقارب والثعابين والجِمال والنفط واللاشيء.

 

فترت علاقتي ببنغازي في ٢٠١٣ كما فترت علاقتي مع الثورة الليبية، ربما هو النضج الشخصي ما ساعد في أن أنظر لها كأي مدينة ليبية أخرى، مجرد مدينة مليئة بالقصص وسوء الطالع، ربما بسبب الأحداث السياسية التي وقعت بدءاً من انتخابات المؤتمر الوطني، إعلان خليفة حفتر في لحظة سكر شخصي سيطرته على مدينة طرابلس دون أن يوجد أي دليل على الأرض لفعله ذلك، انتخابات مجلس النوّاب المأساوية، وإعلان حفتر بعد ذلك انطلاق عملية الكرامة التي ستدخل قوات موالية له من مدينة الزنتان في حرب فجر ليبيا ضد قوات مدينة مصراتة وحلفائها في طرابلس، فشل حفتر في السيطرة على الغرب الليبي في ٢٠١٤ وبدأ التفاته إلى الشرق حيث كانت تجري معركة أخرى بين أنصار الشريعة والصاعقة وحلفائها من أبناء مدينة بنغازي. 

 

في يوليو ٢٠١٧، كنتُ سأتعرف لأول مرة عن صديقي البنغازينو، أول صديق لي من الشرق الليبي، كنت قد تعرفت قبل ذلك على مجموعة من الشخصيات المثيرة للاهتمام، ولكن لم يتعدى الأمر كونهم معارف، تعمقت علاقتي مع البنغازينو وصرنا مع الوقت أخوة، كنّا رفاقا في الحكايات والكتابة والغربة. من حكاياته، تعرفت على بنغازي أخرى، وصرت ألتهم قصصه وانطباعاته ومشاعره عن المدينة كثقب أسود، اشتعلت مرة أخرى علاقتي بالمدينة وشخصياتها العادية. ومنذ يوليو ٢٠١٧، اتفقت معه على زيارته في بنغازي. أجّلت تلك الزيارة مرات عديدة.

 

من قصص البنغازينو رسمت خريطة أوسع وأشمل للمدينة، مثلاً، أعرف بأنّه وفي ميدان الشجرة كان يجلس المثقفون الليبيون دون أن أعرف المكان بالضبط في الخريطة، كما عرفتُ دكاكين وأسواق ومقاهي وحكايات المدينة ولا أعرف أين هي في بنغازي تحديداً، عرفتُ سيرة “فن الخط” في المدينة، وسيرة الجن والبشر الذين يختم لي متحمساً بعد تعريفي لهم قائلاً ” شخصية روائية، يجب أن تكتب عنها”، عرفتُ أيضاً منه سلسلة تطور فن المرسكاوي وشخصياته المثيرة للاهتمام كخديجة الفونشة وعلي الشعالية وعرفتُ منه قصيدة “عقوق” للشاعر الراحل حسن صالح التي يهجو فيها أمّه.

 

“ملعونة أنتِ، أمّي يا مرضعة البغضاء والمقت، حيث تقيمين وأينما كنتِ، ملعونة أنتِ”، يقول حسن صالح، أشعر بحزنه، نعم لم ألعن أمّي البيولوجية ولكنني لعنتُ ليبيا وطرابلس مثله مرّاتٍ عديدة في السنوات العشر الماضية، وأشعر بصديقي عندما يردد القصيدة لي يوجهها لبنغازي مثلي تماماً.

 

أغسطس ٢٠٢١، مرة أخرى، وصلت سيارتنا في منتصف النهار إلى بوابة ” لجنة ٥+٥” الأمنية الأولى، كانت هناك على جانبيْ الطريق لوحات إرشادية لحكومة الوحدة الوطنية، تطمئن الواصل للبوابة بأنّه في أيادٍ سليمة، “ادخلوها بسلام آمنين”، ” ليبيا وحدة واحدة”، ” السلام هو الحل”، ” حكومة الوحدة الوطنية تهنئ الشعب الليبي بفتح الطريق الساحلي”، أخبرتُ صديقي الجالس في المقعد جانبي: أشعر بأنّ اللوحات تفعل في ذاتي خلاف الهدف الذي وُضِعت لأجله.

 

بوابة اللجنة الأمنية ٥+٥ التي تشكلت وفقا لاتفاق وقف إطلاق النار مكونة من بوابتيْن، بوابة قريبة من معاقل قوات بركان الغضب التي كانت تابعة لحكومة الوفاق الوطني، وبوابة أخرى قريبة من معاقل قوات الكرامة، اجتزنا البوابة الأولى بدون استيقاف، إنجاز ضخم؛ فعلاقتي مع البوابات الأمنية كانت دائما متوترة، في البوابة الثانية، استوقفنا رجال الأمن، كنّا شابيْن، وكان من المنطقي استيقافنا. لاحظت صورة صغيرة، موضوعة على استحياء لخليفة حفتر في عامود كهرباء.

 

  • السلام عليكم. أوراقكم يا شباب. يخبرني الرجل.
  • تفضل.

سلمتُ له رخصة القيادة وأوراق السيارة ومن ثم دعاني رجل آخر لفتح صندوق السيارة فنزلت. فتش حقائبنا وعندما تأكد أننا لا نشكل خطراً، أغلقت الصندوق وعدتُ إلى مقعدي، وجدت رجلين يستجوبان صديقي، كان صديقي يملك طريقة في الحديث غير معتادة في ليبيا، كان “محترماً” أكثر مما يجب، كما كانت ثقافته غربية أكثر من كونها ليبية ويملك وجهاً قد يشك فيه البعض أنّه غير ليبي، جلستُ في الكرسي وبدأ أحد الجنود في استجوابنا. 

 

  • وين كاين؟ سأل الجندي صديقي، لم يكن مكترثاً لي.
  • ماذا؟ لم أفهم؟ قال صديقي.
  • وين كاين؟ يعني وين كنت؟
  • آه في طرابلس. قال صديقي.
  • وين طريقكم؟
  • بَنغازي. تطوعتُ لأجيبه.
  • ليس منك، أريد أن أسمعها منه. قال لي الجندي وقد وجه السؤال لصديقي ينظر له وينتظره أن يجيب.

 

هناك قصة طريفة قالها لي صديقي البنغازينو ذات مرة، تقول القصة، بأنّه وفي أعوام الشرّ والمجاعة في بدايات القرن العشرين، كان ” الشراقة” قد ملّوا وجود ” الغرابة” بينهم، فهم يشكلون عبئا اقتصاديا عليهم في وقت هم فيه بأمس الحاجة للمؤونة، أخبرني صديقي بأنّ “الشراقة” كانوا يجرون اختبارا لمعرفة ما إذا كان “الغرباوي” غرباوياً، يسألونه: قل “شبكة” أو قل “بقرة”. في الغرب الليبي نقول ” بُقْرة” وفي الشرق نقول ” ابْقَرة”. حسناً صديقي ورفيق طريقي قال اسم بنغازي بطريقة أمريكانية، ” بِن غازي”، كل ما فعله أنّه استبدل حرف G بالغين مخففاً لسانه على الباء.

 

لم تعجب الجندي كيفية لفظ صديقي اسم المدينة، طلب منه جواز سفره والنزول من السيارة، وبعد دقائق استجواب طلبوا منه هاتفه الذي فتحه لهم، وخلال ذلك جاء جندي آخر وسلّم عليْ وسألني ” من وين جايبه هذا؟” أجبته بأنّه صديقي، لكنّ إجابتي لم تعجبه، كانت علامات عدم الفهم على محيّاه، ابتسم. كنتُ أنا أراقب من المرآة صديقي، أمَر الضابط المسؤول على البوابة منه أن يجلس في السيارة ريثما ينتهي من تفحص جواز سفره وهاتفه، جلس صديقي بجانبي، ” إذاً، هل أنتَ مرتزق تركي أم سوري في أعينهم؟”، سألته. توقفنا لنصف ساعة كاملة حتى يتركنا الضابط، أمضيناها نشاهد صورة حفتر الصغيرة، كانت أول صورة أراها لم يكتب تحتها بأنّه مجرم حرب.

 

” هيا يا زلمة، لنكمل طريقنا”، أخبرتُ صديقي بعد أن سلموه جوازه وهاتفه وتركونا لمصيرنا في الطريق، أعجبت بهدوء أعصابه، لو كنتُ في مكانه، كنتُ سأتصرف بطريقة مريبة.

 

خرجنا من البوابة وانطلقنا في الطريق إلى سرت، كانت الطريق موحشة أكثر من غيرها، لم تتخلى عنّي مشاعر التوتر طيلة وجودي فيها، بالأحرى لم تستقر مشاعري حتى وصلنا بن جوّاد بعد ذلك بمائتي كيلومتر، في سرت لوحات تحذيرية بوجود مخلفات حرب وحقول ألغام على جانبي الطريق، مدينة شهدت أسوء ما في الحرب الأهلية الليبية، أن تكون آخر معاقل القايد ومدينته التي أحب، وأن تتولاها الحروب المتتالية من مطاردة آخر فلول النظام السابق، وسيطرة “الدولة الإسلامية” عليها، وحرب البنيان المرصوص، والحرب بين بركان الغضب والكرامة. توجهتُ بالحديث لصديقي مرة أخرى ” لا عجب أنّ القايد قد ثار ضد الملك، الحرارة قاتلة والفراغ في صحراء سرت موحش”.

 

في المدخل إلى وسط المدينة وبينما نتجه شرقاً في الطريق الساحلي، لفتت انتباهي صورة ضخمة لخليفة حفتر، أخبرتُ صديقي الذي كان لا يزال متوجساً: قل وداعاً للحدود السياسية لحكومة الوحدة الوطنية. “الوداع”، قال. ساعدني على لفظ تلك الكلمات منظر حفتر وهو يرتدي بزته العسكرية البيضاء كتذكير لسكان سرت بعهد القايد، كان دائما يريد أن يكون القائد. وكتذكير لي، بما أمكنه أن يحدث لو سيطر حفتر على طرابلس في أبريل ٢٠١٩. كنتُ أخبر أصدقائي منذراً في أيام الحرب الأخيرة وبينما نجلس في أحدِ المقاهي، مشيراً إلى إحدى اللوحات الإعلانية بجانب المقهى: هذه اللوحة، ستشكر حفتر أنّه حررنا، كما فعل غيره قبل ذلك، من عهد العثمانيين إلى الإيطاليين إلى المملكة إلى القايد إلى الثوار.

 

الجزء الثاني: منتصف المسافة

 

هناك مسألة أودُ أن أناقشها قبل المضي قدماً، فلتعتبرها استراحة مسافر، استراحة أخذناها عند قرب خروجنا من سرت. أردنا أن نفرغ مثانتينا ونتزود لما تبقى من الطريق حتى بن جوّاد في محطة وقود كئيبة متوقفة عن العمل منذ زمن؛ مسألة أعادتها في بالي صورة حفتر الضخمة في مدخل المدينة.

 

كنتُ أحاول منذ مدة البحث عن بدايات تمجيد الأخ القايد ونشر صوره في كل مكان في البلاد، إذ الصورة أو التماثيل تعبر عن بروباقاندا الدولة وتمجيد قوّادها منذ قرون، لم أقبض على الزمن المحدد، ولكن يبدو أنّ “ثورة” الأخ القايد لم تبجله في السنوات الثلاث الأولى منها ما يكفي، كان محاصرا في صورة مجلس قيادة الثورة ولم يخرج من عباءة المجلس حتى خطاب زوارة حيث تحرر وانفرد بكل شيء. تابعت كل الفيديوهات للتظاهرات والخطابات الأولى له، ولم أجد بين الجماهير من يحمل صورته حينها؛ كل ما وجدته مرة، هو صورة كاريكاتورية للملك الإدريس السنوسي في ميدان الشهداء وسط العاصمة تركله أقدام الجيش الليبي، الملك نفسه كان حاضراً بشخصيته الصوفية القدسية في المكاتب العامة والمدارس وداخل بيوت الإخوان السنوسيين أيام المملكة الليبية، قابلت إحدى تلك الصور القديمة للملك لأول مرة في بيت صديقي البنغازينو، إذ كان والده وعائلته، يعودون لأولئك الإخوان.

 

القايد على عكس الملك، كان حاضرا لعقود في الوجدان الليبي بكل ملابسه وأشكاله وثوراته المتلاحقة، مرة يمكنك أن ترى صوره يرتدي بزته العسكرية، مرة ملابساً بدوية، مرة بملابس الفلاحين وملابس الفرسان المنقذين والمنتجين وملابس الإمامة وضباط الشرطة وملابس الاشتراكية وملابس تدل على عروبته الحاضرة حتى انتهى به الأمر عندما توجه لإفريقية لارتداء ملابس جنوب الصحراء الأفريقية؛ حسب المكان الذي تدخله في البلاد، كان يمكنك أن ترى صورة للقايد تعبر عنه وعن ذلك المكان.

 

ما يجعلني أن أسهب هنا، هو محاولة حفتر الدائمة للظهور -في شكله العسكري- بمظهر القايد، كأنّه، وبطريقة واعية أو غير واعية، يحاول أن يتماهى معه ليسوق نفسه لليبيين على أنّه القائد المنتظر الذي سينتزعهم من الحرب ويعيد لهم أيام السلام والأمن وبحبوحة العيش المتخيّلة. في الأيام الأخيرة، خلال كتابتي لهذا المقال، بدأت ألاحظ صوراً وفيديوهات أخرى لحفتر منتشرة على الانترنت، كان يرتدي بزة جديدة، بدلة إفرنجية رسمية، كان معاكساً لمنظر القايد الاعتيادي، القايد كان يكره البدلات الرسمية، وبعيدا عن أيامه الأولى في السلطة لم يشاهد أبداً وهو يرتديها، فقد قرر التخلي عنها. آخر تلك المناسبات التي رأيت فيها حفتر بشكله المدني كانت في إعلانه عن تقدمه للانتخابات في ديسمبر ٢٠٢١، الملابس تفضح الكثير عن لابسها، كان حفتر يحاول أن يرسم صورة أخرى لنفسه في أذهان الليبيين، بأنّه، القائد المدني الموعود، الرجل الذي يريد قيادتهم مدنياً بعد أن حقق انتصاراته العسكرية المتخيلة.

 

 شخصية أخرى بدأت تسوق لنفسها لليبيين على صورة العقيد، هذه المرة هي ابنه سيف الإسلام، بعباءة تشابه في الألوان والتشكيل العباءة البنية التي أحب والده لبسها عندما يريد أن يقدم نفسه لليبيين البدويين أنّه منهم. أكتب الآن، وأفكر في تلك الصورة التي في مدخل مدينة سرت، هل بدلها أتباعه بواحدة تحمل ربطة عنق مدنية؟

 

إذا انتهت استراحة السفر، كان عليْ وصديقي أن نستقل الطريق مجدداً. أن ننغمس في الصحراء الليبية الممتدة على البحر، مجدداً.

 

في الطريق، بانت علينا الكثبان الرملية على يسارنا أكثر من ذي قبل، تذكرت عندها مشهد ذبح رجال من الجالية القبطية في سرت على أيدي عناصر “الدولة الإسلامية”، كان مشهداً مروّعا، هناك على شاطئ البحر في الفيديو تظهر الكثبان الرملية لصحراء سرت، بينما يرتدي عناصر “الدولة الإسلامية” السواد حاملين أسلحتهم، وأمامهم مصريين في ملابس برتقالية، بدأ أحدهم بالحديث عن أمجاد الدولة وتطلعاتها ومن ثم بدأ بحز رقبة أحد المعتقلين، ليهتز العالم بهذا المشهد البربري الدامي. كانت رسالة، بأنّ سرت ليست إلا محطة. بعد ذلك المشهد، لم تجد حكومة الوفاق الوطني والقوات الموالية لها إلا الرد وبقوة على التنظيم واستئصاله من سرت، دفعت المدينة الثمن الغالي لتخلصها من الدولة الإسلامية، وفي أبريل ٢٠٢١، عُرِض لأول مرة مسلسل “غسق” الذي كان من المفترض أن يؤرخ لتلك الملحمة. لولا أيديولوجيته الواضحة.

 

المدن والقرى الليبية التي أنشأت معها علاقة حقيقية قليلة، لا تتعدى أصابع اليديْن، غالبيتها كانت علاقتي معها عبر الآثار الليبية القديمة أو أصدقاء ينحدرون منها. البقية عرفتها عن قراءاتي في التاريخ الليبي أو من النكات، إحداها هي هراوة شرق سرت، لا أعرف لما افتكرت تلك النكتة السياسية الخبيثة التي تقول؛ بأنّه وفي إحدى المؤتمرات الشعبية وقف أحد أبناء القرية يحكي للقايد المشاكل والعراقيل وقلة الخدمات الحكومية، قال له القايد ” من وين أنت؟”، أجابه المواطن ” من هراوة”، قال القايد ” باهي قعمز عليها”، شعر بالانتصار، لكن؛ وفي غفلة منه نهض مواطن آخر وقبل أن يبدأ المواطن في إلقاء شكاويه، سأله القايد ” من وين أنت؟”، “مسه يا قايد”. مسه هي قرية في الشرق الليبي. كما أنّها كلمة ليبية “خبيثة” للدعوة إلى إمساك القضيب.

 

كانت هذه النكتة وأخريات غيرها تنتشر بغزارة في عهد الجماهيرية، حتى أنّه قد أشاع بأنّ هناك جهاز سرّي داخل مكاتب “الأمن الشعبي” لمكافحة النكات السياسية ضد العقيد، وذلك بتبديلها وإعادة توجيهها لإحدى شخصيات النظام القديمة كالرائد عبدالسلام جلّود، الذي كان يناصب حركة اللجان الثورية العداء في الثمانينيات، الحركة نفسها كانت تنادي ضده ” دوم معمّر هو القايد، من غيره خرّاف وزايد”؛ اليوم ورغم مرور زمن عن الثورة الليبية، لا تنتشر هذه النكات بحبكاتها المذهلة، ولكن بدأت السخرية الليبية تتخذ منحى مباشراً بعيدا عن التورية، هل للأمر علاقة برحلتي إلى بنغازي؟ لا أدري، ولكن وطيلة الطريق إليها، كان كل ما أفعله أنا وصديقي عند المرور بالقرب من صورة للجنرال المتقاعد هو السخرية منه وإلقاء إحدى تلك الألفاظ التي انتشرت عنه.

 

وبعيدا عن النكتة، ما رأيته في ضواحي هراوة ذلك اليوم كان أمراً جلياً بأن نتوقف عنده ونشاهده، لولا التوجس الذي أحاط بنا، كانت هرواة تلبس الرداء اللطيف من البداوة، تنتشر مجموعة من الخِيَم يمين ويسار الطريق مع مجموعة من الخيول في أحلى زينتها، فرسان يرتدون الزبون ويشربون الشاي بينما يحضر الشباب لحفلة موسيقية من النجع، بدا المشهد كأغنية للفنان الليبي الراحل محمد حسن خارجة من تلفزيون الجماهيرية، أردت بشدة أن أقف فقط لأشاهد “الفارس في ملهاده، زي العادة…عالي شامخ فوق جواده”. لكن، كانت بنغازي تنادي…وكان الخوف من هُويتي الآتية من العاصمة “المحتلّة” بالنسبة لأتباع الجنرال يلهمني ألا أتوقف.

 

لا شيء يمكن الحديث عنه في المسافة بين هراوة وبن جوّاد، كان رفيق الطريق نائماً وقد ملّ من منظر الصحراء، إذ لا شيء هناك، أحياناً يمكنك أن ترى بيتاً وحيداً في الفراغ يبعد عن أقرب قرية له عشرات الكيلومترات، أحياناً أخرى لا ترى في الأفق سوى لهيب الشمس على الطريق المتكسرة أو آثار من الطريق الإيطالية القديمة التي وصلت بين طرابلس وبنغازي يوماً ما. ولهذا سأستغل هذا الجزء للحديث العشوائي عن ذكريات طرأت لي حين القيادة ومصادفتي للشاطئ الليبي يحاول محاكمة الصحراء.

 

اثنان من تلك الذكريات حدثت لي في مركزيْن من مراكز احتجاز المهاجرين غير القانونيين، والذين جاؤوا إلى ليبيا أفواجاً للبحث عن سبيل إلى أرض الميعاد شمال المتوسط، كنت، في عملي في المؤسسة الخيرية التي تحدثت عنها، وكنت أيضاً في مهمة تصوير وكتابة تقرير عن زيارة لمراكز المهاجرين لتوزيع المساعدات الإنسانية التي تغدقها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي على ليبيا حتى تبقي القادمين من خلف الصحراء عندها، أولى الزيارتيْن كانت لمركز في مدينة الزاوية غربيْ العاصمة – أول مدينة ليبية أنشئ معها علاقة حب- في عام  ٢٠١٧، أيضاً في إحدى نهارات رمضان الصيفية القاسية.

 

بعد أن قادتنا السيارة إلى جنوب المدينة، اجتزنا ريفها ودخلنا مكان التقاءها بالصحراء الليبية، كانت شمس الظهيرة تتضح علاماتها في مبنى بأسوار عالية منعزل عن محيطه، دخلنا المبنى، بدى المكان كئيباً، لا أشجار أو ألوان فيه، نزلنا من السيارة، بحثت عن المهاجرين، لم أجدهم في البداية، كان هناك مجموعة من المسلحين الذين يعملون في المركز ورجل في الخمسينيات يرتدي جلباباً، كان قائد المجموعة. فتحوا باباً حديدياً للسجن/المركز لا يمكنك أن ترى ما الذي بداخله من العتمة. بدأ المهاجرون يخرجون في طابور. كانت مهمتي تصويرهم، اصطفوا في طابور طويل في حرارة الشمس وبدأت أتجول حولهم لأبحث عن زوايا تصوير، بعضهم تحاشى الكاميرا، أحدهم؛ أذكره الآن، جذبتني قدماه الملونتيْن بحبال صفراء وخضراء وحمراء، قررت أن أنزل تحت مستوى أقدامهم، شيء لا يجب أن تفعله لتصور مجموعة من المهاجرين لاستلام “عطايا” الأمم المتحدة، ظهرت قدماه وأقدام الآخرين المتتالية كمجموعة من السجناء. عندها جُذِب انتباهي لمجموعة النساء، كان القائد بالجلباب يلاعب إحداهن، نادتني الكاميرا لأصور المشهد، ولكن خشيت، كان المسلحون يراقبوننا، يراقبونني أنا بالذات، يراقبون أعين الكاميرا. عندها رأيته، يحتضنها، يعصر ثدييها، ويقترب جسده من مؤخرتها، كانت محاولة صريحة للتحرش، ولم يكن للضحية إلا أن تضحك بينما تحاول الإفلات منه.

 

المرة الثانية التي زرت فيها مركزا للمهاجرين، كانت في مدينة الخمس، هذا المركز كان قريبا من وسط المدينة، لكنه يبدو منعزلاً أيضاً، عن كل الأماكن المحيطة به، يقع أعلى هضبة تحتها وادٍ مليء بالنفايات، في الصيف الحارق -كما هي العادة-، دخلنا المركز، على اليسار عنبر النساء بفناء محاط من كل جانب -ومن أعلى- بقفص حديدي يزيد من حرارة المكان، بالقرب من الباب الحديدي، تجمعت النساء حولي عندما رأين الكاميرا، أخرجنَ قدر معكرونة “امبكبكة” غير مطبوخة جيداً، كانت المعكرونة بيضاء، رائحتها قميئة وصارت وليمة للذباب، كانت النساء تشتكي، اعتقدن أنني صحفي، وأردن أن ينقلن قصصهن، بدأن الحديث عن معاملة أعضاء المركز العنيفة لهن، ناشدنني أن أبحث عن من يخرجهن، واحدة، من غينيا، كانت على عكسهن جالسة في الخلف، تنظر بحقد اتجاهي، كأنّها تعرف بأنني لم آت لنقل صوتهن، ولكن لتصويرهن وهن سعيدات بالصدقة الدولية.

 

عنبر الرجال كان مقابلاً للبوابة الرئيسية، أحد الجنود دخل ليفتح القفص ومن ثم باب المبنى حاملاً سلاحه، صارخا في النزلاء، كان الرجال يخرجون فرحين. أحدهم اقترب مني، أخبرني بقصته كاملة، حاول الهروب من ليبيا مرات عديدة، وفي كل مرة (ينقذه) حرس السواحل، مرة كان صحبة ١٥٠ آخرين في زورق، كادوا أن يغرقوا في عرض البحر بعد أن تركهم المهرب، أخبرني أنّه عايش كل مراكز اللاجئين في مدينة طرابلس وكلها كانت سيئة ولكنه فضلها على هذا المركز، كان نيجيرياً مسيحياً، وقال لي بأنّ أعضاء المركز في رمضان يجعلونه وغيره من المسيحيين يصومون كالمسلمين من النيجر ويكتفون بوجبة الإفطار بعد الغروب فقط، أخبرني بزوجته في عنبر النساء وطفله الذي يعيش معها، وبأنّه يحتاج أن يراهما لكن لا يسمح له بذلك، كان اسمه كما ترجمه لي “صوت الرّب”، بدأ يريني الأوشام التي يحملها، وشم لابنه ” الأمير وِل”، لأنّه؛ كما اعتقد، كان يعود من سلالة ملوك حكموا نيجيريا يوماً ما. وعدته أن أنقل قصته، كنت منتشياً بعملي وبالحديث معه، لكنني لم أفعل ذلك يوماً؛ وهذه المرة الوحيدة التي أنقل فيها جزء من قصته. كنتُ سأترك عملي بعد شهريْن على أيةِ حال.

 

الأمر المهم، والذي فيه بيت القصيد، أنني تعرفتُ على البنغازينو بعد شهرٍ من تلك الحادثة، في يوليو ٢٠١٧، في منتصف المسافة “المعنوية” بيننا، في تونس، كنتُ أعرفه، أو على الأقل أعرف نصّه، وما يكتب عنه، فقد جمعتنا الشمس التي غابت عن النوافذ المغلقة. هو كذلك، لم يكن يعرف عنّي إلا هذه المعلومة. كان نقاشنا الأول غريباً، سألني بعد أن ردد اسمي ” ماهو تعريفك للأدب؟”، وقتها، لم أكن أعرف الأدب، ولازلتُ كذلك. لهذا تخلصتُ منه، بعدها لم تتوقف النقاشات بيننا، تحدثنا في كل شيء، في الطبيعة البشرية، الموسيقى، الطعام، الحياة، السعادة والأخطاء أيضاً، الحرب والموت وخفايا قصص مدننا، تحدثنا عن عذابات وآهات المجتمع الليبي، خيباته، طحناته، ما هي فرصة نجاته كمجتمع، الماضي الثقيل الذي يحمله على عاتقه. كنا نتفادى في البدء الحديث عن انطباعاتنا المختبئة حول مكانيْنا، كنّا خارجيْن من حربيْن حقيقيْتين، كنا نداوي جراحنا الخاصة؛ على العكس، في المرة الثانية التي سألتقي به فيها، حيث سأعيش صحبته في المنفى الإرادي لأشهر في أزقةِ المدينة العربي، كان جل ما نتحدث فيه ونضحك منه هي تلك الانطباعات، ” ليس لديكم هذه في بنغازي؟”، أحياناً كنتُ أتحرش به حول كيفية تشغيل الغسال الأوتوماتيك، ليضحك فيرد ” لا والله، لازالت في طرابلس فقط”.

 

نوفمبر ٢٠٢١، اليوم وبينما أنا جالس في مكتبي بوطني، أكتب هذه الكلمات، وأفكر في مستقبل الوطن بعد أقل من شهريْن، مستقبل أخشى أن يكون أثقل من الماضي القريب، البائد، البعيد، القديم والسحيق، لازلتُ أفكر في هذه المسألة منذ زمنٍ طويل، أن أحاول تحليلها بحبٍ وبعمقٍ ودون أن يشعر أحدهم بأنّ كلامي فيه نوع من التعالي على أحد، المسألة بسيطة: ما هي القصة وراء (ولنترك الأقنعة جانباً) النظرة شبه العدائية بين أبناءِ شرق وغرب البلاد؟ وتوافقهما كشمالٍ في تهميش أبناء الجنوب الليبي؟ المسألة تبدو سهلة للوهلة الأولى، ولكنني أظن أنها تحتاج تأملاً، تفكيرا وبحثا وتقصيا حقيقيا، دون إلقاء أي أحكام، دون لوم لطرف، دون انحياز، دون اعتقادات مسبقة، أنا نفسي؛ لا أعتقد بأنه بإمكاني -حتى الآن على الأقل- البحث والكتابة فيها جيداً، فأنا منحاز بطبيعتي البشرية للمكان الذي ولدتُ فيه وشكلت فيه قصصي وشخصيتي وحياتي.

 

منذ مدة قرأت كتابا أظنه من أهم الكتب التي كتبت -بنظرة فيها بعض من الاستشراق طبعاً- عن ليبيا، “عيال ربّي” أو ” Children of God” للكاتبة الأمريكية آجنس كيث، عاشت السيدة آجنس في طرابلس وبنغازي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، صحبة زوجها الذي كان خبيراً في النباتات والغابات وجاء لينشئ صحبة الليبيين مصلحة للغابات، لأنّه، وكما يعلم الجميع، ليبيا بلد تندر فيه الغابات، ويشكل زحف الصحراء الدائم نحو الأرياف والمزارع والمدن الشاطئية خطراً، قد يترك ما تبقى من البلاد من خضار لقمة للصحراء الكبرى. المهم؛ لفتت انتباهي ملاحظة للسيدة آجنس، عندما تعرفت على شخصيات من طرابلس وبنغازي، كانت تسمعُ من كل طرفٍ نظرته عن الطرف الآخر. ” الغربيون يقولون عن الشرقيين أنّهم كسالى وعليهم العمل والتوقف عن الاحتجاج الدائم”، ” الشرقيون يقولون عن الغربيين أنهم يحتكرون القرار والعمل السياسي ويحيطون بالملك الصالح من كل جانب” هذه الملاحظات -والتي قد يعتقدها البعض مؤامرة ماسونية دُبّرت في الخمسينيات وأنشرها الآن لزيادة الكراهية بين أبناء الوطن-، هي واحدة من ملاحظاتي -وملاحظات العديدين غيري حسب ما أظن- التي أراها منتشرة.

 

يحكي لي صديقي البنغازينو هذه النكتة، لديه طريقة مذهلة في حكيْها، ولهذا دائماً ما أطلبها منه عندما ألتقي به في كل مرة تجمعنا الغربة، يقول، بأنّه وفي تسعينيات القرن الماضي، استضاف أحد المراسلين لقناة الجماهيرية، القناة الرسمية والوحيدة في تلك الفترة، مجاهداً من مدينة إجدابيا شرق البلاد، كان المجاهد يحكي كيف حاربوا الطليان في عمليات كر وفر، وكيف كانوا شجعانا لا يهابون دبابات وأسلحة العدو وهم يمتطون أحصنتهم، أوقفه المذيع وقال له ” طبعاً، لا غرابة في ذلك”، قفز المجاهد، وحلف للمذيع ” على اليمين ما كان معانا غرباوي”. كنتُ أنفلتُ ضاحكاً كل ما سمعتها. في ليبيا يقول أهل الغرب عن أهل الشرق “شراقة”، ويفعل أهل الشرق نفس الأمر، أنا من “الغرابة”.

 

الآن وفي منتصف المسافة، لاحظتُ أمريْن، أولهما أنني ذكرت، دون أن أعي، نكتتيْن في كل جزء من هذا النص الطويل. الثاني، هو كيف شكلت النكتة صداقة بيني وبين البنغازينو، جعلتني أجتاح مسافة ألف كيلومتر بين طرابلس وبنغازي، بعد سنة من انتهاء حرب حفتر الأخيرة على العاصمة، وكيف شكلت التعبئة الإعلامية الواضحة في إشعال نار، اكتشف مشعلوها كلمة السر لفتح باب الشرخ الليبي وزيادة تقسيمه معنوياً ووجدانياً والذي قد يؤدي لانقسامه الجيوغرافي المُحتمل، كيف شكلت تلك التعبئة في وجداني هاجساً وخوفاً من أن تكون زيارتي لبنغازي، بها خطر يهدد حياتي وحياة رفيقي، وقد زادت البوابة الأمنية التي استوقفتنا ذلك الهاجس، ولكن للصحراء أثرها، فكما أثرت في صاحبي بالنوم كطفلٍ تاركا لي اكتشاف بداية انفتاح الشرق الليبي نحونا، أثرت فيْ أنا، بالتأمل في ذلك الانفتاح، بينما تصحبني أحياناً الطريق الإيطالية القديمة والبيوت المهجورة والبوابات الأمنية للوصول إلى بن جوّاد، محطتنا الثالثة بعد مصراته وسرت.

 

لأكون صادقاً، حديثي الأول لم يكن عشوائياً، أقصد حادثتيْ مراكز إيواء المهاجرين، القضية هنا تساعد في فهم الحالة الليبية، وهي عن القادمين من الجنوب للهروب إلى الشمال، أمر آخر له سردياته التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي يصعب الحكم عليها في نص واحد، أو حتى في كتاب واحد. غالبية قاطني تلك المراكز جاؤوا من الحدود الجنوبية للبلاد، باستثناء الحرّاقة من دول شمال أفريقيا الذين ضاقت بهم الدنيا وأحكامها، ليجربوا حظهم في العبور إلى الشمال الآخر عبر ليبيا.

 

أولئك المهاجرون، والذين يستغل قضاياهم جزء لا بأس به من أحزاب ومؤسسات ليبيا والعالم في تحقيق أهدافهم السياسية، هم رمز للجنوب الذي يصرّ المتحاربون من أبناء الشمال على تجاهله إلا إن كانت منه النُصرة، أحياناً، في حروبهما معاً، حروب قد لا تتوقف إلا بعد أن يدرك الليبيون الخسارة العظمى، التي اقترفوها في حق أنفسهم، بأن يتركوا السلاح، يتركوا الغنيمة، يتركوا الماضي بكل أبعاده، أن لا يهملوا إثر ذلك قيَم العدل، القضاء النزيه، جبر الضرر، الحرية، الصلح، والتخطيط لمستقبل أفضل، مستقبل قد لا يراه الآباء ولا الأبناء، ولكن قد يراه الأحفاد، مستقبل لا يخشون فيه من كونهم ليبيين.

 

أغسطس ٢٠٢١،  بدأت بن جوّاد تستقبلني بعلامتيْن، إحداهما الحياة المتناثرة على خديْ الصحراء كالنمش، الأخرى محطات الراديو بلغاتٍ مختلفة، مما ينبئ عن وجود أحد الأطراف الخارجية بالقرب من الساحل الليبي، اكتشفتُ أول مرة تلك المحطات في مايو ٢٠٢٠، كنتُ أقود سيارتي في وسط البلاد بطرابلس، أقلّب محطات الراديو في سيارتي، بحثاً عن محطة تناسب ذوقي الموسيقيْ المتقلب، ولكن غير الراغب في تغيير مسجل السيارة بجهاز أحدث، توقفتُ عندها على محطتيْن، إحداهما تابعة لقوات حفتر تعبئ الشارع داخل طرابلس وبالطبع في المدن المجاورة، كانت المحطة تدخل مجال التردد وتختفي، الأخرى كانت محطة تركية، لم أتبيّن محتواها بالطبع، نظراً لجهلي باللغة ذلك الوقت. هذه المرة وبينما تحتضنني بن جوّاد، ويستيقظ صديقي من نومه، أكتشف محطات تركية أخرى، الكثير منها تبدو للموسيقى والبرامج الثقافية -والسياسية بالطبع- والترفيهية في تركيا، كان فهمي للغة أفضل بعد ستة أشهر قضيتها في إسطنبول أجرب فيها حظي بالاغتراب مرة أخرى، بعض الأغاني والدعايات كنتُ أسمعها في وقت إقامتي بإسطنبولي المذهلة، بحثتُ عن قنوات أخرى، لفتت انتباهي قناة معينة، كانت تتحدث بلغة لستُ معتاداً عليها، ولكنني أعرف نظامها الصوتي ما يكفيني للتعرف عليها، كانت اللغة الروسية؛ فكرت أنّ اللاعبين الدوليين في البلاد، يعملون على جعلِ جنودهم يشعرون كأنهم في وطنهم، بينما أنا، في الناحية الأخرى من قصتهما وذبذباتهما، لا أشعر بأنني في وطني. بالأحرى، لا أشعر أنّ وطنِي هو وطني، وهو ما يعززه اختفاء محطات الراديو الليبية غير الدينية في بن جوّاد.

 

الجزء الثالث: استراحة غذاء.

 

إذاً، وبعد رحلة طويلة في القفَر والخلاء، عبأنا البنزين في بن جوّاد ودخلنا إحدى استراحاتها المستلقية على الطريق للتزود بمَتَاع ما تبقى من الرحلة. أول مرة أسمع فيها اسم بن جوّاد كانت في ٢٠١١، عندما بدأت تتشكل القوة العسكرية للثوار المدعومين من الناتو في حربهم ضد العقيد، شهدت بن جوّاد عمليات كر وفر بين الجيشين المتحاربيْن في أولى حروب القرن الواحد والعشرين الأهلية لليبيين.

 

عندما تقرأ التاريخ الليبي، تجدُ أنّه مليء بالحروب الأهلية، حتى لا تكاد تجد مرحلة طويلة زمنياً استقرت فيها أمور البلاد والعباد، الإمبراطور الليبي سبتيموس سيفاروس نفسه، جاء حكمه من حرب أهلية وغدا حكم عائلته بحرب أهلية، العائلة القرمانلية كذلك، ضاع حكم سيدي يوسف القرمانلي بعد أن سلم الأمر لابنه علي، أمر لم يعجب ابنه أحمد الذي حاصر طرابلس لثلاث سنوات خارج سور المدينة القديمة؛ لتتدخل دولة الخلافة العثمانية لفك النزاع وتستولي على السلطة، لتستمر حلقات الحروب الأهلية حتى تترك أمر البلاد للإيطاليين، حتى في أيام الجهاد ضد الإيطاليين، كان المجاهدون أحياناً، يتحاربون ضد بعضهم البعض. ويبدو، أنّ ليبيا، لم تستفق من تخدير الحرب أبداً. في كل عصر، تعيش البلاد حرباً، أهلية كانت أم لا. وإن لم يكن هناك أي حرب أهلية داخل حدود البلاد، تتدخل الدولة في حروب أهلية لبلدان أخرى، كما فعل القائد في تشاد ولبنان والجزائر والسودان وغيرهم حول العالم.

 

لا شيء يمكن أن تعبأ به في بن جوّاد، هي واحة صغيرة التفت حولها قرية صغيرة ساعدها في النهوض وجودها في خليج السدرة، نظرياً كنّا لازلنا في الحدود التاريخية لـ”إقليم طرابلس”، عملياً كنّا في “إقليم برقة”، إقليمان خياليان؛ ككل الحدود البشرية، صنع حدودهما سباق تاريخي بين الرومان واليونانيين، تمكن الإخوان الرومانيان فلّيني من الجري من قرطاجة إلى حدود إجدابيا قبل خصميهما القورينيين. كما تمكن حفتر اليوم أن يسبق حكومات طرابلس إلى سرت ويغزو مساحات واسعة من البلاد.

 

واحدة من مظاهر وجودك الفعلي تحت سيطرة “القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية”، هو الدينار الليبي النُحاسي وعلى ظهره زهرة السلفيوم الأسطورية، عملة سُكّت في ٢٠١٧ من قبل الفرع الشرقي لمصرف ليبيا المركزي، لازالت العملة ممنوعة من التداول في الغرب الليبي بينما تقادمت عليها الأيدي في الشرق، لم تكن المرة الأولى في بن جواد التي أرى فيها العملة، فقد أرانيها صديقي البنغازينو مرة، كان ذلك الدينار بالنسبة إلي؛ أحد رموز الانقسام السياسي والاقتصادي الحقيقية في البلاد. أذكرُ أنّه وفي ٢٠١٨ بدأت تتوافد على طرابلس مجموعة من العملات النقدية الورقية فئة ٥٠ دينار، هي أيضاً طُبعت من قبل فرع المنطقة الشرقية لمصرف ليبيا المركزي في روسيا، صدرت تعليمات بمنع تلك الأوراق إلا أنّ صعوبة التمييز بينها وبين الأوراق التي يطبعها الفرع الرئيسي في طرابلس جعلها مع الوقت مقبولة. ظل الدينار النُحاسي وحده ممنوعاً.

 

ما يشدك في قرى كبن جوّاد هو مدى التشابه الكبير بينها وبين كل تلك القرى و”المدن” الليبية الصغيرة، لا تحمل أكثر الأماكن الليبية هُوية خاصة بها، بل لا تحمل أيضاً هُوية ليبية عامّة، وعدا عن أسماء المحلات التجارية والمطاعم التي يحرص البعض على تسميتها باسم المنطقة، ستجد تشابهاً في أسماء الكثير من الدكاكين على طول البلاد، إذا قدت أحدهم مغمض العينين إلى بن جوّاد قد يدرك أنّه ليس في طرابلس أو بنغازي، ولكن سيجد صعوبة في معرفة المكان الذي هو فيه. الأمر لا يتعلق بالهُوية الوطنية، فتونس على سبيل المثال، هناك تشابه كبير بين هُوية مدنها الساحلية بأبنيتها البيضاء ونوافذها السمائية وطريقة البناء التونسية ولكن يمكنك التمييز بين الحمامات وصفاقس وتونس، حتى القرى الصغرى الممتدة على الجنوب التونسي والتي همشتها الدولة لها مسحة خاصة بها. في ليبيا، الهُوية الوحيدة الجامعة بين كل البلاد هي التهميش، القبح، الخراب ومسحة الكآبة والانسلاخ من الهُوية المتوسطيّة والعربية للبلاد. رأيت مشهد بن جواد مرات عديدة، في الزاوية، في جبل نفوسة، في الطريق إلى صبراتة، زلطن، والقرى الصغرى بين المدن الكبيرة. إنّه نفس المشهد يكرر نفسه مرة بعد أخرى.

 

كما يكرر مشهد القرى الليبية نفسه، أعتقد أنني أكرر نفسي هنا مرة تلو الأخرى؛ ولهذا سأعرج قليلاً على أيامِ النشوة الثورية التي سلبتني لأشهر، ففي العشرين من أغسطس ٢٠١١ دخلت قوات الثوار من مدينة مصراتة طرابلس من محاور عدّة، كان عليها أن تمر ببلدتنا، إذ أنّ تاجوراء هي الضاحية الشرقية للمدينة ودخولها يعد دخولاً رسميا لطرابلس، لازلتُ أتذكر مشهد سيارات الثوار وهي تعج بالطريق الرئيسي في شارعنا، ذات الشارع الذي قدنا فيه أول مظاهرة ضد العقيد الليبي في البلدة منذ أكثر من أربعين عاماً، كان الثوار شباناً مثلي، أذكر من نشوتي أنني عانقتُ أحدهم، كان فتىً يصغرني في العمر، كان أول إنسان في حياتي أعانقه من شدة الفرح.

 

بعد ذلك بثلاث سنوات، تحولت مشاعري تجاه مصراتة وثوّارها إلى نوع من الحقد، فقد صار “غزوهم” لطرابلس واضحاً وتحولوا مع الوقت لمن كانوا يقاتلونهم، صاروا “العقيد”، كان العام ٢٠١٤ أسوء عام في تاريخي الشخصي، وربما في تاريخ الكثيرين من أقراني، كنّا نتخرج من الكلية على دفعات، كنتُ على وشك التخرج قبل أن تدخل العاصمة في بدايات الحرب الأهلية الليبية الثانية، توقف مشروع تخرجي لأشهر، كنتُ أذهب باستمرار إلى بيت صديق لي يقع في وسط الاشتباكات بين قوات مصراتة وقوات الزنتان، كنتُ انتحارياً، كانت بلدتنا هادئة نسبياً ولن تمر بآثار الحرب الأهلية الثانية إلا بعد أشهر عندما تقاتل أبناؤها فيما بينهم؛ لذا، كان علي أن أجرب ذلك الشعور المأساوي الذي تجرّه لك الحرب، ذلك الرعب، ذلك الخوف، ذلك الخواء من الذات، من الحياة، من الأمل. كانت البوابات الأمنية تستوقفنا في الطريق لذا قررنا أحياناً الدخول من الأزقة حتى نصل لبيته، كان أهله قد تركوا البيت إلى مكان أكثر أماناً، أما هو، فقرر حراسة البيت، حرسناه معه، كنا نشاهد الأفلام بينما تهتز جدران البيت بعد كل قذيفة تسقط بالقرب منه.

 

أثرت  فيْ الحرب ذلك العام الأسود نفسياً وجسدياً، أثرت في طريقة تفكيري وتعاملي مع الآخرين، جاءت في وقت أعيش فيه شبابي الأول، لم أكن مستقراً، وأظنني لازلتُ كذلك، في زيارة لتونس بنوفمبر ٢٠٢١ التقيتُ صديقة إيطالية بعد أربع سنوات من الفراق، كنت أمشي معها على ضفاف البحر الأبيض المتوسط بحلق الواد عندما أخبرتني ” حدثتني امرأة يوماً أنّ الليبيين متشككون دائماً، إنهم لا يثقون بأحد”، كنتُ أعرف ما ترمي إليه، فأنا متشكك في نوايا الناس وغالبا ما أفكر كثيراً في كل كلمة يقولونها، ” نعم”، قلتُ لها، ” هذا أمر طبيعي عندما يعيش الإنسان أربعين عاماً تحت نظامٍ يحاسبهم على الكلمة ومن ثم يعيشون عشر سنواتٍ أُخر في حربٍ قاسية، هذه خمسين سنة من انعدام الثقة بالحياة”، أضفت، لا أعرف حتى الآن كيف حللتُ الأمر بسهولة في ذلك المساء، ربما ما ساعدني في ذلك هو هواء حلق الواد الساحر، نعم… هناك أزمة ثقة في النفس الليبية، أزمة ثقة صنعتها الحروب المتتالية؛ فقد وعد القذافي ببناء مجتمع مثالي وما فعله هو بناء مجتمع مثال للتفسخ والحرمان، وعد الثوّار ببناء دولة الحرية والديمقراطية والمساواة والعدل وما إلى ذلك من الهراء، وما أنتجوه هو استمرار اللا دولة، حفتر نفسه وعد بالسلم وبالجلوس على طاولة واحدة مع منافسيه، ليخرج في صباح ٤ إبريل ٢٠١٩ معلناً ساعة الصفر لـ “تحرير العاصمة من الإرهاب”، وفي مارس ٢٠٢١ وعد المتنافسون بالجلوس على طاولة الحوار وإجراء الانتخابات، ماذا حدث؟ لا انتخابات بعد ديسمبر ٢٠٢١. من الطبيعي أن يكون الليبي متشكك، أو كما نقول في ليبيا ” مخنّس”. سيكون من غير الطبيعي أي شيء عدا ذاك.

 

كنتُ متشككاً في الدينار النُحاسي عندما استلمته من المطعم، حدّقت في زهرة السلفيوم، الزهرة الأسطورية التي تروي الخرافات والقصص أنّه بإمكانها أن تشفي كل الأمراض، بإمكانها إعادة الشباب وبإمكانها أن تعيد قوتك. زهرة السلفيوم، كما تقول الأسطورة، هي زهرة لا تنبت إلا في الجبل الأخضر، وهي بذلك زهرة قورينية، فكرت في تلك الجلسة مع صديقي على أعتاب بن جوّاد، أنّ علي البحث عنها عندما أزور قورينا، فربما تشفيني من مرض “الخنس” الليبي. وربما تشفي القرى الليبية من القَفَر ومن تهالك أبنيتها وناسها، ربما أيضا تشفي الدولة الليبية، لكن حتى أصل إليها، كان عليْ أن أنهي “سندويتش الكبدة” وأصل إلى بنغازي للقاء البنغازينو أولاً.

الجزء الرابع: بنغازي إلا قليلاً

 

وأنا أحاول كتابة هذا الجزء في فبراير ٢٠٢٢ فكرت في الجدوى التي قد يضيفها نص متقاطع، قد يبدو غير مترابط، مكتوب على فترات متأخرة مثل هذا، يبدو النص بالنسبة إلي -في كل مرة أعود إليه- عبارة عن “شهريات” أكثر منه وصف أو محاولة لتحليل الوضع الليبي من ناحية شخصية، ولكنني سأستمر، ربما يمكنني فهم ولو القليل.

 

 الذكرى الحادية عشر للثورة الليبية على أعتاب العودة، تبدو مخرجات ثورة فبراير بالنسبة إلي الآن، كمحاولة رخيصة للتماهي مع مخرجات ثورة العقيد، الليبيون حتى هذا اليوم لم يخرجوا من عباءة الأخ الراحل.

 

في يناير من كل عام، كما كان الوضع في أغسطس كل عام قبل الذكرى السنوية لثورة الفاتح من سبتمبر، تتحرك أجهزة “الدولة” للاستعداد للاحتفال بالثورة، تختفي القمامة من الطرق والشوارع والأحياء الرئيسية، تبدأ عمليات الصيانة لأعمدة الإنارة ولبعض الطرق الرئيسية التي ستتهالك خلال عامٍ بالضبط أو قبل ذلك بكثير، تنتشر الأعلام الليبية واليافطات التي تحتفل بذكرى الثورة، تبدأ “الدولة” بصرف ميزانيات المرتبات المتوقفة منذ أشهر، وتستعد لغلق الشوارع احتفالا بيوم الثورة ليحتفل الجميع، تصبح مدينة قبيحة كطرابلس، فجأة أقل قبحاً، ولكن على عكسِ ثورة الأخ القائد، يبدو الأمر الإيجابي الوحيد – وربما السلبي؟- أنّ فبراير لا تنشر في يافطات الاحتفال إلا صور ضحايا وشهداء الثورة. ففبراير وعلى عكسِ ثورة العقيد، لم تكن بيضاء، كانت حمراء، كدم الغزال. وعكسها أيضاً، لم يكن لها قائد واحد.

 

أحد جيراننا كان أول الشهداء الساقطين في انتفاضة فبراير، كان “اسطى” قهوة، اخترقت جسده رصاصة بينما كان يتظاهر منادياً بسقوط العقيد في الأيام الأولى قبل تحول الانتفاضة السلمية إلى “ثورة” مسلحة. امرأة كانت تشاهد التظاهرات يوم ١٩ فبراير ٢٠١١ من نافذة بيتها، هي أيضاً اخترقت رأسها رصاصة مضاد الطائرات التي كان جنود العقيد يطلقونها على المتظاهرين. بعد ذلك بأيام وفي يوم ٢٥ فبراير ستخرج بلدة تاجوراء في مظاهرة مارثونية لمسافة ١٥ كيلومتر باتجاه “الساحة الخضراء” للمطالبة برحيل العقيد، الألاف من الشباب كانوا يتحركون وسط الوحل وبرك المياه المتراكمة المتشكلة قبل أيام بعد أن أثرت الأمطار النازلة في البنية التحتية المتهالكة، كلهم كانوا يصيحون بسقوط القذافي، مشهد يبدو قبل ذلك بشهر، بعيد عن تخيّلاتهم وتخيلات العقيد ومن حوله، أمر لا يمكن حدوثه، كالغول والعنقاء والخل الوفي. كان أبناء الأحياء المهمشة يزدادون مع كل خطوة يخطوها أولئك الشباب، كنتُ أحدهم.

 

في فبراير ٢٠١٢ خرجتُ للاحتفال بالثورة، كان أول وآخر احتفال بيوم وطني أحضره في حياتي، بعد ذلك لم يعد مهماً أن أحتفل بثورة، يعدّني الكثيرون من ” جيل كتّابها”، بدى الأمر مزيفاً. صار ميؤوسا منه حتى قبل اندلاع الحرب الأهلية بين حلفاء الأمس.

 

في أغسطس ٢٠٢١ تحركنا من بن جوّاد متجهين نحو بنغازي، وكالعادة، لا شيء يذكر في الطريق سوى بقايا المباني الإيطالية والاشتراكية التي بُنيَت على أفضل تقدير في ثمانينيات القرن الماضي بالإضافة لصور حفتر هنا وهناك، أصبح المشهد المكرر بالنسبة لي، ممل، كهذا النص الذي يبدو بطريقة ما مكرراً، أحاول أن أجد فيه ما يثير اهتمامي ولكن لا أجد، أحياناً تنتابني اللهفة عندما أرى مجموعة من الجِمال على جانبيْ الطريق أو نخلة وحيدة بين الكثبان الرملية أو قرية من ما تبقى من آثار الاحتلال الإيطالي لليبيا، ولكن سرعان ما تختفي تلك اللهفة عندما أكتشف أنّها مجرد سراب، سراب تصنعه الصحراء الكُبرى. صديقي، اختار كالعادة الخيار الأفضل: النوم.

 

الجماهيرية الليبية لم تنتهِ حتى الآن، هذا ما أؤمن به، نحنُ الآن في الجماهيرية الثانية، تلك الجماهيرية التي آمن بها سيف الإسلام القذافي وسماها “ليبيا الغد”، يمكن للمرء أن يجدها بسهولة، لازالت العلاقة بين المواطن و”الدولة” مماثلة لتلك العلاقة التي كانت في الجماهيرية الأولى، لازال المواطن ينتظر “هبات” الدولة، الغالبية من الكتّاب والفنانين الليبيين لازالوا ينتقدون الدولة التي لا تدعمهم وكأنّ وزارة كوزارة الثقافة موجودة للصرف على مهنتهم التي لا يهتم بها أحد في البلاد، الدولة ربت الشعب على أن يكون معتمداً عليها، الجيل الجديد يحاول بقوة أن لا يقع في هذا الفخ، إلا أنّ غالبيته العظمى لازالت تنتظر أن “تعيّن” داخل أحد أجهزة الدولة، لا يهم أي جهاز، المهم أن يكون لهم معاش حكومي حتى وإن لم يذهبوا للعمل. لازالت الدولة أيضاً، تحتكر قطاع الخدمات العامة الذي فشلت وتفشل فيه، الدولة الليبية لا تريد لأحد غيرها أن ينظف القمامة أو يرصف الطرق أو يبني أو حتى يسهل أمور الحياة على المواطن، كما أنّها لا تريد أن تفعل ذلك، كما كان الوضع قبل ذلك في أيام العقيد. ربما الأمر الوحيد الذي لا تحتكره الدولة الليبية هو خدمات “الأمن”.

 

الأمر ميؤوس منه بالطبع، هذا الحكم لا يتعلق بمقدار الوطنية التي قد يملكها أحدهم، إنّه يتعلق بمعوقات نفسية راكمتها عشر سنوات من الحرب والأزمات الاقتصادية والطوابير الطويلة المتكررة أمام السلع الأساسية كالغاز والخبز والبنزين وطوابير المصارف، المواطن الليبي يبدو سهل التدجين، وخروج شخصيات كعبدالحميد الدبيْبة في المشهد يبدو بالنسبة للمواطن العادي كخروج المهدي المنتظر، خصوصاً عندما يكون ذلك المهدي يشبهه في ملامحه، تصرفاته، لغته، طريقة مشيه وتلعثمه في الحديث أمام الكاميرا والحشود، يشبه صفاته. عبدالحميد الدبيْبَة وإن لم يكن كذلك، هو الليبي العادي عندما يستلم السلطة، ذلك الحلم الذي يملكه كل ليبي ويتوّعد به في كل النقاشات بأنّه وإن استلم السلطة، سيكون خيراً على البلاد.

 

يبدو اليوم مشهد خروج حشد من المواطنين كمن خرجوا في تلك السنوات في فبراير أمر مستحيل التخيّل، حتى لـ”كاتب” يحب الخيال مثلي.

 

انحصرت المظاهرات، تلك الوسيلة الجديدة التي بدأ الليبيون يعبرون بها منذ فبراير، انحصرت منذ ٢٠١٥ في مجموعة من المظاهرات التافهة والرخيصة والتي تحشدُ لها الحكومات المتلاحقة لجمع أتباعها، أذكر وفي أيام “حكومة الإنقاذ” في طرابلس والتي سبقت وصول حكومة الوفاق فوق الفرقاطة الدولية عام ٢٠١٦، أذكر أنّ تلك الحكومة كانت في كل جمعة تستقطب نفس الوجوه من المتظاهرين والذين عرفت الكثير منهم، أحدهم كان جارنا، تحشدهم في ميدان الشهداء ويتظاهرون  “معها” وضد أعدائها، لكن لم يحدث يوماً أن رأيتُ مظاهرة ضدها بعد أن بدأ يختفي منظمو ذلك النوع من المظاهرات منذ ٢٠١٣ وحتى ٢٠١٥ في “ظروف غامضة”، شباب كانوا يرفعون صوتهم عاليا ضد الحكومات والمجموعات المسلحة، ضد الجميع، ومع الشعب، صاروا وجوها للمعارضة، اختفوا أو اغتيلوا. صارت المظاهرات الجديدة أيضاً، شبيهة بظاهرة مسيرات التأييد الشعبي التي كانت تفتعلها الدولة الليبية أيام الجماهيرية الأولى في كل مناسبة وحتى قبل دخول فبراير. فعل الأمر الكثير من السياسيين، وهذا ما يفعله الآن -في فبراير ٢٠٢٢- عبدالحميد الدبيْبة وحكومته وهو يواجه -حتى هذه اللحظة- خصمه فتحي باشاغا، الرجل الذي كان عدواً لحفتر، وصار حليفاً له.

 

  • ليبيا، تحب تفهم ادوخ، تحب ادوخ، يطبوك.

أقول دائماً.

 

التركيبة الإدارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة الليبية في فبراير هي مجرد استمرار لتلك في دولة سبتمبر مع اختلاف المسميات فقط، أمر قد يعزوه البعض إلى حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد وأنّه وحتى لهذا اليوم لا توجد دولة ليبية حقيقية منذ اختفائها في ٢٠١١، وهو أمر به بعض من الصحة، إلا أنّ له علاقة بالتركيبة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الليبي نفسه، مجتمع حتى هذا اليوم لم يخرج للعصر الجديد، لم تعمل الدولة يوماً على جلبه لقرننا. منحته فقط فرصة لبس “ملابس” العصر واستخدام آلاته وأدواته، وفضلت أن يترك عقله في العصور السابقة، لأنّ ذلك يعزز وجودها ويؤيده، فهي الحامية والوصية عليه، سواء كانت دولة مليشيا واحدة أو دولة مليشيات.  

 

إذاً ما الذي أحاول أن أقوله هنا؟ ربما هو سؤال لم أجد له حتى الآن إجابة معينة، لأنني ببساطة لا أملك الحقيقة المطلقة في أي شيء، ويبقى كل ما أفعله مجرد تخمين، كلاعب شطرنج يحاول التنبؤ بحركات خصمه التالية. سأضع هذا السؤال في هيئة قصة: آخر مظاهرة حضرتها كانت في ٢٠١٣، لا أذكر ما كانت عليه تلك المظاهرة، ربما كانت مظاهرة ضد المجموعات المسلحة التي كنّا نطالبها بتسليم السلاح والتوقف عن ابتزاز الدولة، فعل بدأت تقترفه بأشكال عدة كأن تختطف رئيس الوزراء وتبتزه أو تحاصر مقرات الدولة، لم نكن نخاف من “الثوار” في تلك الفترة، كانوا بالنسبة لنا شركاء، شباب عاديين يشبهوننا، فقط يحملون سلاحاً عليهم تسليمه، أذكر أنّ مجموعة من الشباب وقفت أمام “هاشم بشر” أحد أشهر ثوار طرابلس الإسلاميين فترتها ودخلت معه في نقاش حول تسليمه سلاحه. بعد ذلك توقفت عن الخروج إلى أي مظاهرة، وبدأت حقاً أسخر من كل من يفعل ذلك، بدى الأمر بالنسبة لي كالحرث في البحر. لا جدوى منه.

 

تحولنا نحن بعدها إلى “عامة الشعب” وتحولوا هم تدريجيا إلى السلطة، استبدلوا الدولة وأصبح في المدينة الواحدة مجموعة من السلطات المسلحة، التشابه الآخر بجماهيرية العقيد – عدا أنّ العقيد كان يحكم سيطرته على البلد بأكمله، على الورق بالطبع-، الدولة في النهاية هي في يد من يحتكر السلاح. حتى اليوم تختلف “القوانين” داخل مناطق مدينة طرابلس، مثلاً بالنسبة لي، كنت أشعر بالأمان في بلدتي تاجوراء أكثر من أي مكان آخر، وهو أمر يرجع لكوني ابن البلدة – بمعنى آخر لكنه غير صحيح كلياً، ابن القبيلة-، لا يمكن لأحد اليوم خارج البلدة ما دمتُ فيها أن يلاحقني داخلها -إلا بالاختطاف-، هذا يعدُ تعدياً على سلطة المجموعات المسلحة داخلها، كما يعدُ تعدياً على أبناء المنطقة/البلدة. كما أنّه وفي البلدة تجري الأمور مختلفة عنها في منطقة أخرى، في تاجوراء المجموعات المسلحة في العادة ليس لها أيديولوجيا، مجرد شباب أحبوا السلطة والنفوذ التي يمنحها لهم السلاح فتحكموا بها، قد تجد في منطقة أخرى أنّ المجموعة التي تتحكم في جزء كبير منها لها خلفية “سلفية”، يعني أنّ لها قوانينها الخاصة، في بنغازي وبما أنّ المجموعة المسلحة هي “الجيش العربي الليبي” فأيدلوجيتها هي نصف-عروبية نصف-قبلية نصف-حفترية، تتشكل تصرفاتها حسب تركيبة “المشير” التي تعود إلى عهدٍ ترعرعت أفكاره في أحضان العقيد.

 

يخبرني صديقي البنغازينو عن إنفاذ القانون في قبائل شرق البلاد، “الميعاد” هو إحدى المناسبات الاجتماعية للصلح بين القبائل عندما يرتكب أحد أبناء قبيلة ما جرماً في حق ابن قبيلة أخرى، كان -ولا يزال- ذلك الإرث الاجتماعي نافذاً في أيام الجماهيرية، تأتي سلطة قانون الجماهيرية بعد سلطة القبيلة، هل ترى الأمر؟ حتى في عهد سلطة الشعب، سلطة الأخ القائد، كان هناك تنوع للسلطات، ولم تكن الدولة وقانونها، الفصل الأول والأخير بين المتخاصمين.

 

تحولتُ أنا أيضاً تدريجياً إلى القلق والتوتر حينما أرى مظاهر “الثوار”، وبدأت أتلعثم أحياناً حتى في حديث عابر مع أولئك “الثوار”، حديث طبيعي في حفل زواج أو عزاء أو حتى في مقهى وهم بعيدين عن السلاح، صاروا يشكلون بالنسبة لي كائناً مختلفاً كالجن والغول الذي تخيف به الأمهات أطفالهن. تعافيت من ذلك مع الوقت بالسخرية منهم، أمر يفعله الليبيون الآن، يلجئون إلى السخرية منهم -بالطبع بعيداً عن مسامعهم- كما كانوا يفعلون مع القائد، عزاءهم الوحيد في مواجهة الأزمة الاقتصادية والسياسية والأمنية في البلاد، هذا سلاحهم الوحيد، دخلوا في فترات أكلح وأكثر قسوة من ما دخلوه في عهد العقيد، لكنهم لم يجرؤوا حتى الآن أن يخرجوا في مظاهرات “شعبية” كما حدث في ١٧ فبراير ٢٠١١ عندما تمكنوا من أن يرفعوا أصواتهم، أول مرة بعد أربعين عاماً من دولة العبث، يطالبون برحيل بابا معمر، الأخ قائد الثورة، القائد المعلم، رسول الإنسانية، أمين القومية العربية والرجل الذي يوما ما، تنبأ بأنّ السلطة والثروة والسلاح ستكون لا محالة في يد الشعب، حدثَ ذلك ولكن بطريقة لم يتنبأ بها العقيد.

 

أغسطس ٢٠٢١، دخلنا إجدابيا، استيقظ صديقي أخيراً، استقبلتنا بعاصفة ترابية، أخبرته بأنّ لي مع إجدابيا قصص طويلة، هي البلدة التي وُلدِ فيها خليفة الفاخري، كاتبي الليبي المفضل، لم يكتب عنها، لا أذكر أنّه فعل بما أنني قرأت كلّ كتبه، كما أنّها “مدينة” أجداد هشام مطر، الروائي الليبي/البريطاني.  قلتُ لصديقي، أنني وفي ٢٠٢٠ كنتُ قد أرسلتُ مجموعتي القصصية دم أزرق إلى بنغازي، وكان عليها أن تمر من إجدابيا، أرسلتها مع إحدى شركات النقل البري، أوقفت البوابة الأمنية في إجدابيا السائق، فتشوا سيارته كما تجري العادة، وجدوا الكتاب، ولأنّني كنتُ قد اخترت تصميماً للكتاب يشبه فيه علبة سجائر “الرياضي” الليبية وكتبت فيه عبارة “القراءة خطر على صحتك” ولكن بالمقلوب، أمسك أحدهم بالكتاب، لم يستطع قراءة الجملة ولم يفكر أن يقلب الكتاب ليقرأها، سأل السائق:

 

  • هل هذا كتاب سحر؟

 

هنالك شيء وحيد مختلف في إجدابيا عن كل ما رأيناه في الطريق، كانت غابة خرسانية عظيمة نادرة الأشجار داخل الصحراء. ككل ما أكتبه، مجرد غابة خرسانية داخل صحراء. سنصل إلى بنغازي أخيراً.

الجزء الخامس: بنغازي أخيراً

 

إذاً هذه هي بنغازي، مدينة محطّمة، جيوغرافيا تليق بمدينة كبيرة وقادرة على تحريك التاريخ لصالحها لولا الرجال، محميّة من كل جانب بالصحراء الليبية، واحة ليبية تستلقي على أعتاب البحر الأبيض المتوسط، واحدة من مدينتيْن ليبيتيْن فقط تمكنتا من إثبات وجودهما -حتى هذا الزمان- على ضفاف هذا البحر، بحرنا كما يقول الروم. تتوزع المدينة في أحياءٍ متباعدة تفصلها الثكنات العسكرية والبرك. نزلنا بفندق عند مدخل المدينة، لم تمضِ سوى ساعة حتى جاءني البنغازينو، واصطحبنا مباشرة إلى وسط البلاد، سيدي خريبيش، كورنيش بنغازي وميدان المحكمة، المكان الذي بدأ منه كل شيء، عندما وقف المحامي فتحي تربل مع مجموعة من المتظاهرين لإحياء ذكرى أحداث السفارة الإيطالية.

 

أرتبك في بنغازي أكثر من ارتباكي في طرابلس. أنا هنا غريب. بالأحرى “غرباوي” جاء إلى مدينة يتصاعد فيها الخطاب القبلي والجهوي ضد العاصمة الليبية أولاً و”الإقليم” الذي جاء منه. تصعدُ بنا سيارة البنغازينو فوق الكوبري لتبدو وسط البلاد من بعيد، مدمّرة، تبدو مقارنة بالمدن الأثرية التي أهلكها الزمان، أكثر هلاكاً. ننزل شارع “جمال عبدالناصر”، الرجل الذي بدأ معه التاريخ الليبي المعاصر عندما كان القائد والقوميون العرب يتتلمذون تحت آيديولوجيته دون أن يدري هو في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ” كان هنالك تمثال لجمال عبدالناصر يطلّ على بحيرة فندق تبستي، أسقطه أهالي المدينة عند اندلاع الثورة”، يخبرني البنغازينو، عبدالناصر الشخصية غير الليبية الوحيدة التي أنشئ لها تمثال في عهد القائد، الشخصية الليبية الوحيدة التي أنشئ لها تماثيل هي المجاهد (الطرابلسي) عمر المختار، تحضر الشخصيتان في آيديولوجيا القائد وخطاباته. ويبدو أنّ العقيد لم يعترف يوماً بأيٍ من المجاهدين الليبيين أو المناضلين والشخصيات العربية، سوى هاتيْن الشخصيتيْن. جمال عبد الناصر كان “أباه” الروحي، عمر المختار هو “جدنا”، حتى سن الرشد كنا دائماً ما ننادي عمر المختار بجدّي اعمُر.

 

 نتحرك بالقرب من البركة وتدخل بنا السيارة وسط البلاد. بقايا المدينة الإيطالية التي أنشأها الإيطاليون فوق “قرية” بنغازي، كلّها مدمّرة، ما لم يدمّر منها، قد أصابته قذائفٌ قبّحته. أغالب دمعي، أتحسّر، وأتنهد؛ فقد خبرت قصص الحرب في بنغازي من قصص البنغازينو.

 

ولكن حالما تنزل الكورنيش تسحبكُ بنغازي الحقيقية، بنغازي المدينة بزحمة ناسها، بنغازي التي لا تأبه بك، كل المدن الليبية تبحث عنك وتترصد خطواتك وتطارد أفكارك وهُويتك (الجهوية/القبلية) إلا طرابلس وبنغازي، مدينتان لا تكترثان لك، ما دُمت بالطبع، لا تتفوّه ضد أسيادهما. تدفنُ رأسك تحت صورهم وتماثيلهم وشعاراتهم إن لم ترغب بالهتاف لهم. لا أذكر في أيامي في بنغازي، أنني تحدثت عن الثورة أو حفتر أو الوضع في ليبيا في المدينة، حتى تلك الأحاديث التي حاول “البنغازيون” جرّي فيها للحديث حول الحرب، كنتُ فقط أستمع لكلامهم أو أتجاهله قبل أن ندعو معاً للبلاد وأهلها.

 

حفتر في كل مكان في بنغازي، كما كان القائد قبله. صوره تحاصر المدينة، بل يمكنك أيضاً أن تجد صور حليفه عبدالفتّاح السيسي في بعض الأماكن الرئيسية في المدينة. شيء غريب. مضى زمنٌ طويل منذ أن مجّد الليبيون قائداً مصرياً، القائد كان عدواً للسادات، ونجح في آخر سنواته في شراءِ مُبارك. لكن، تبدو تجربة السيسي في مصر هي التجربة التي يريد أن يستنسخها خليفة، يريدُ أن يجعل الجيش جهازاً مستقلاً بالكامل عن الدولة، له موارده الخاصة واستثماراته الخاصة وحياته الخاصة كأندية الضبّاط والجيش والمسؤولين على ضفاف نيل القاهرة. أكتبُ هذا المقطع بالذات وأنا في إحدى مقاهي قاهرة المعز في مارس ٢٠٢٢.

 

” إنّهم يريدون مسح المدينة القديمة وإنشاء مبانٍ استثمارية جديدة”. يقول لي البنغازينو ونحن نتطلع إلى ميدان المحكمة والمباني المنهارة حوله، ندخل إلى سوق الربيع وسوق الحشيش فيحكي لي عن ذكرياته وذكريات الكتاب الليبيين في المدينة، هنا حفظَ الفاخري القرآن، وهناك جلس صادق النيهوم، وفي هذا السوق بالذات في حواري المدينة، كانت بنغازي تبيع الكتب لأبنائها. مدينة الأدب الليبية. المدينة التي عاش فيها الشعراء والفنانون وتغذوا من مفرداتها ولغتها وحياتها.

 

  • لا يجب أن تبقى في بنغازي، إنّها مملة.

قال لي البنغازينو، ” عليكما أن تذهبا إلى الشرق، تركبان الجبل وتمران بالمَرج وتمران إما من الوادي حيث ستريان عربات الإيطاليين القتالية أو من فوق الجسر لتريا مشهد الجبل العظيم، ستقود في أجمل طريق رأيتها في حياتك حتى تصل إلى شحّات”، يضيف لي، كان علينا أن ننسق ليوم يمكنه أن يخرج فيه معنا بعيداً عن الفرح وأهله، ولكنه كعادته في الإخلاف بمواعيدنا، يتهرب، يتركني وصدّيقي نتجه وحدنا إلى الجبل. قبل ذلك، كان علينا اكتشاف بنغازي أكثر، في النهار، معه.

 

في اليوم الثاني، التقينا بالبنغازينو مجدداً عند الحادية عشر، ركبنا سيارته، وذهبنا نبحث عن بقايا ما تشكل من بنغازي، في بنغازي، لا يكتفي البنغازينو في الحديث عن بنغازي، عكس ما كان يفعله في الغربة، يبتعد عن مدينته حتى أوقعه أنا وأورطه فيها.

 

في ٢٠١٨ افتقرنا بعد أشهرٍ من العيش معاً، أنا فضلتُ العودة إلى البلاد والزواج من حبيبتي، هو فضّل البقاء في تونس والبحث عن حبٍ له فيها لم يجده، لكنني كنتُ بطبيعة عملي الجديد، أزوره دائماً، أعانقه ونذرع معاً الطرقات التي حفظناها في “المنفى المؤقت” معاً، كانت تونس منفانا ووطننا البديل. نتحادث مجدداً عن أحوال المنفى، وما استجد له في حياته، تمرّ بنا الأحاديث على بنغازي، كان يقول دائماً ” لم أعد أقدر على العيش مع شعبي”. يتحسّر لكن تمر به بعدها ذاكرة لذيذة تفضح مقدار حبه لذلك الشعب ولذلك البلد. كان دائماً ما يعيد تلك الجملة في كل زيارة أو لقاء في مكانٍ آخر. أعرف ما يمرّ به. فقد خبرته.

 

  • سنذهب لبوسكو بنغازي. يقول البنغازينو.

 

الجزء السادس: (بوسكو) بنغازي أخيراً.

 

في هذا الجزء، سأحكي ما رأيته في بوسكو/غابة بنغازي، وهي حديقة تأخذ مساحة مهمة من وسط المدينة، هي أيضاً، يخبرني البنغازينو، معرّضة للاختفاء لصالح الاستثمار. كل شيء في هذه البلاد معرّض للاختفاء لصالح الاستثمار، تبدو ثقافة ولغة وهُوية الليبي في انقراض مستمر منذ عقود. يأتي زمانٌ لن يعرف فيه الليبيون من يكونون. ربما أتى هذا الزمان.

 

تعود أشجار بوسكو بنغازي كالكثير من الأشجار المتناثرة في ليبيا إلى حقبة الاحتلال الإيطالي، هي أشجار زُرعت لمجابهة الصحراء الليبية، كان “البوسكو” في زمنٍ ما فعلاً غابة متراصة من أشجار مختلفة أهمها اليوكالبتوس (أو كما يسمّيها الليبيون السروِل)، يمكنك تتبع تناثر الأشجار القديمة للبوسكو القديم في الطريق إليه، اختفت معظمها لتوسع المدينة وتحرّكها أفقياً في كل جانب إلا جانب البحر، لتقترب هي نفسها من حدود الصحراء التي احترمها الليبيون عبر الزمن. ولهذا كان من الطبيعي أن تزاح مجموعة الأشجار ويتحول البوسكو مع الزمن إلى حديقة عامة تجمعُ ثلاث متضادات: كونها متنزّه لأهل المدينة يبتعدون فيها من صخبها، كونها (ملاهي) تجتمع فيها ألعاب الأطفال، وكونها أيضاً سجناً للحيوانات البريّة أو ما يسميه البشر “حديقة حيوانات”.

 

وللأمانة، عند دخولي للحديقة أحببتها، الحديقة توضح مدى الجرح المتعمق في بنغازي، لقد توقفت المدينة عن التطور الحضَري منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهذه الحديقة شاهدٌ على ذلك. كل ما فيها يعود إلى القرن العشرين، الألعاب، نمط المقاهي، الممشى، توزع الحياة فيها، يبدو المكان كموقع مناسب لفلم وثائقي عن أيام الجماهيرية الأولى، أخبرتُ البنغازينو بذلك ” هذه حديقة أشباح”، كان هو نفسه يحمل عنها ذكريات أشباح، ذكريات قديمة تعود إلى نهاية القرن العشرين وبدايات الواحد والعشرين. نمر أولاً بمقهى، نشرب قهوتنا على عجل بينما تمر أمامنا الحياة البنغازية، ألاحظ خلف سور البوسكو كشكاً على هيئة بيت السنافر، فكّرت في الأكشاك التي رأيتها في بنغازي، إنّ لها روحٌ خاصة، أقول لأصدقائي “لا تجد مثل هذه الأكشاك في طرابلس، أكشاك تمثل ثقافة مدينة أخرى على أشكال ثمرات البرتقال وبيوت السنافر وعلب النوتيلّا والبيبسي”، أفكّر أنّ لكل كشكِ في المدينة حكاية. الأكشاك أيضاً، يخبرني البنغازينو الذي لم يلاحظ اختلاف أكشاك مدينته لاعتياده عليها، هي أيضاً مهددة بالانقراض، فهي في النهاية تستولي على أرض الدولة.

 

نتعب من الحديث عن بنغازي، نمشي داخل البوسكو أكثر، هنالك بيوتٍ لحيوانات بريّة كثيرة: دجاج وتيوس وطيور وأرانب وغزلان ودواب أخرى، ” علينا أن نرى الفيل”، يتذكر البنغازينو رفيقه. نمشي، نقترب من حبسٍ كبير، كان كئيباً دون الحاجة للوصول إلى قفص الحبس، وصلنا إلى القفص، هناك توقفت الحياة عندي، كان في القفص فيلٌ هزيل، من مشيته، يمكنك الشعور بما يمر به، كان يغصب قدميْه على الحركة في القفص الصغير الذي يربطه بالعالم خارج الحبس، ببطء يمشي في حركة دورانية لا تتوقف إلا قليلاً، عندما يقف، أدعوك ألاّ تنظر في عينيْه، فستعرف فقط عندها أنّ روحه قد غادرته. سيجذبك مثلما جذبني ذلك الحزن المغلّف لعينيه ويحبسك فيهما لزمنٍ لن تدرك فيه أنّ رفاقك، كما حدث لرفاقي، قد تركوك وذهبوا ليشاهدوا بقية الحيوانات المحبوسة.

 

ولأنني أبحث عن الرموز في كل ما أراه، لا يسعني إلا التفكير في الفيل الذي رأيته كرمز، شعب وُضِع للفُرجة ودُجِّنَ لأكثر من مئة عام، يعيش في خدعة العيش داخل الاتساع وهو يكبر ليكتشف أنّ سجنه قد ضاق به، ولكنه لا يمكنه أن يخرج من ذاك السجن، لأنّ سجّانه يحتاجه للعيش فيه، فتغادره الحياة حتى وإن ظل يأكل ويشرب وينام.

 

حال الفيل في البوسكو ليس الأسوء، الحيوانات الضارية اختفت من السجن، ماتت جائعة ولم يتبقى منها سوى ضبع وحيد، كان حاله أسوء من الفيل، كان ذلك الضبع راقداً على جنبه ينتظر الموت.

 

توقفت الحياة في ليبيا بعد ٢٠١١، هذه حقيقة يجب على كل الثوريين أن لا يختلفوا فيها. هذه آثار الحروب الأهلية والصراع على السلطة، هذا ما تفعله الحرب، يحاول الليبيون منذ سنوات أن يعيشوا، مثلهم أفعل ذلك، وعلى المرء ليعيش في بلد كليبيا الآن، أن يتجاهل الحال الذي يعايشه، الأمر ليس له علاقة بالآثار النفسية للحرب، هي فقط سليقة الإنسان، “النجاة”، غريزتنا الأولى التي تجعلنا نضحك ونعيش ونستمع للموسيقى ونصلّي لله ونبحث عن نكاتٍ في أفواهٍ أصدقائنا ونخزن الذكريات والقصص والحب والكراهية فينا، بدلاً من أن نتجه نحو الحل المنطقي الوحيد، الحل المحرّم بالطبع، وهو الانتحار الجماعي. ليبيا بلدٌ ميّت، ولتعيد إحياء الميّت، فأنت مقدم على إحدى المعجزات، التي أتمنى صدقاً أنّ عصرها لم ينتهِ.

 

الجزء السابع: شحّات أخيراً.

 

في اليوم التالي، ذهبتُ أنا وصدّيقي إلى الجبل الأخضر، استيقظنا مبكراً، بحثنا في بنغازي عن “سندويتشات” الصباح فلم نجدها، بحثنا عن مقاهٍ للتزود بالكافيين، وجدنا واحدة، تحركنا نحو الشرق. ذلك الشرق الذي يرد على ألسنة بني بنغازي. لكلٍّ شرقه، أقول لنفسي..

 

في الأفق تظهر الشمس بينما نقترب من الجبل.

 

يبدو الجبل الأخضر كقطعة من الجنة في ليبيا، تضريس طبيعي لا وجود لمثيله في الساحل الشماليِ لإفريقية كلّه حتى تصل تونس الخضراء، جبل ضخم يبدو كقطعة من أوروبة أكثر منه لجيوغرافيا الصحراء الكبرى. أقول هذا لا قدحاً في الصحراء وجاذبيتها. بل وصفاً موضوعيا للجبل وحقيقته الجيوغرافية.

 

يسهلّ عليك الجبل صعوده، يدعوك لذلك كظامئ في الصحراء يبحث عن واحة، فبدلاً من واحة يجدُ الفردوس. تضمّك طريقه الإيطالية القديمة وأشجاره التي تحيط بك والحياة التي تجري داخله. تصل إلى أولى قراه مبكراً. تصعدُ الجبل، تصل لانبساطه لتجد المروج حولك تحيط بك، منذرة بدخولك لقرية المرج.

 

لقرية المرج تاريخٌ أسودٌ في القرن العشرين، جاءها الزلزال في ١٩٦٣، كانت أول كارثة طبيعية (الكوارث القادمة كالتصحّر وفقدان الماء ستأتي قريباً إذا لم نستفق مبكراً) تواجهها حكومة المملكة الليبية المتحدة بعد كوارثها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، دُمّرت المرج وراح ضحيّة ذلك الزلزال ٢٤٣ إنساناً ليبياً. لم تمضِ إلا سنوات قصيرة حتى بنت حكومة المملكة المرج الجديدة وبقيت قرية المرج القديمة كآثار شحّات. الزلازل ليست ظاهرة جديدة على التاريخ الليبي، هُدِمت صبراتة عندما كانت مدينة رومانية مرّة بزلزال. كما أنّ الزلازل البشرية كانت دائماً أشدّ هدماً من زلازل الأرض. في المئة العام الماضية، زُلزِل المجتمع الليبي باحتلال أوروبيٍ تحول إلى فاشيٍ ومملكةٍ ضعيفة وديكتاتورية قاسية وحرب أهليةٍ سوداء.

 

في المرج، تحضر شخصية أخرى في العلامات الطرقية، استبدل (أو أضاف) أهل المرج صور خليفة حفتر بصور اللواء عبدالرزاق الناظوري. رمزٌ آخرٌ عن مدى عمق الأزمة في ليبيا، تملك نبوءة أنّ حفتر ليس البطل الوحيد للشرق الليبي، ينافسه (رغم ظهور المنافسة كمشاركة أو تبعية) في الحكم آخرون.  مشكلة واحدة (أو سوء فهم ربما) بين الأصدقاء وقد تندلع الانقسامات في صفوف حفتر، كما اندلعت في صفوف قوات “الغرب الليبي” قبل أشهر من كتابة هذا الجزء في ديسمبر ٢٠٢١.

 

 المرج، وهي تجمّع لمروج ومزارع وأرياف تفرّقها طريق قديمة تصل بين قرى ومدن الجبل، المرج جميلة حتى في الصيف، بالنسبة إلى رجلٍ مثلي يقدّر جمال الطبيعة الليبية بكافة تشكلاتها وتنوّعها كان المرور من المرج حريٌ بأن ينسيني ما الذي تمر به بلادي وما الذي يعنيه وجودي في الشرق الليبي، والرسالة التي أبحث عنها في هذه الرحلة، ما أحاول أن أخطّه وأفهمه. كنّا وصدّيقي في حالة صمت، صمت مليء بالحب لمكانٍ لم ندخله من قبل.

 

” عندما تشارفان على وداع المرج، ستجدان على الطريق دكانة صلاح، اشتروا منه سندويتشات المفروم والشاهي”، كنتُ أتدارس وصدّيقي الوصية التي ألقاها عليْ صديقٌ بنغازينو آخر، ليس هذا المكان المناسب للحديث عن محاسنه ومثالبه. وجدنا دكانة صاحبنا، كما وصفها الصديق. ركنّا السيارة في أول استراحة سفر داخل الجبل.

 

أهل الجبل يختلفون عن أهل السهل في مأكلهم ومشربهم. هذا ما يخبره بك الشاي بطعمِ “المردقوش”. الشاي المشروب الرسمي في ليبيا، تكاد القهوة تختفي خارج المدن الكبيرة. الشاي مشروب يدعو للركح، للجلوس وترك الوقت يمشي كما يشاء، القهوة -الإيطالية والعربية منها- تشربُ على عجلٍ -نعم، كذبَ درويش-، أدركت حكومة الاحتلال الإيطالي ذلك في بداياتها، كانت في مواجهة شعبٍ يعشق الجلوس لساعات لشرب الشاي وتزجية الوقت، منعت الشاي لكنها واجهت غضباً شعبياً جعلها مع نهاية الوقت تتراجع في منعه. كانت دعاية الاحتلال الإيطالي تنادي بأنّ الشاي مشروب الكسالى. القائد هاجم المقاهي أيضاً، في الثمانينيات، مشغلاً نفس الدعاية في الراديو بالأغاني التي تصدح بترك المقاهي والذهاب إلى العمل، هاجمت الدولة المقهى وتركت الشعب وشايه، مادام ذلك الشاي لا يحرّض على التجمع في الأماكن العامة. جلسات الشاي هي جلسات خاصة، ولهذا لا تنتشر في ليبيا صالونات الشاي، هو مشروب يشكّل ثقافة الشعب، وثقافة الشعب منغلقة على ذاتها. في عهد ثورة فبراير أيضاً حوربت المقاهي (ولازالت بين الفينة والأخرى تُحارب)، ولكن لأسباب اجتماعية ودينية.

 

كان الشايُ الذي أغدقنا به العم صلاح، لذيذاً.

 

في الطريق إلى مدينة البيضاء، مركز الحركة السنوسيّة في ليبيا ومحظية الملكِ الإدريس الراحل، يبدو الجبل شبه فارغٍ إلا من المزارع الكبيرة والقرى الصغيرة، يجمعها كُلّها الطريق الإيطالية، البنايات الإيطالية، بوابات (ما نسميه زبّارا بالإيطالية) الأراضي الإيطالية، ومحطات الراديو الإيطالية. يبدو واضحاً أنّ أثر العمران في الجبل توقف عن الاستمرار بعد الإيطاليين إلا فيما ندر، محاولات بسيطة بين نظاميْ المملكة والجماهيرية. أمر سيتضح أمامي عندما نصل إلى مدينة قورينا التاريخية ومعبد الإله زيوس، بمتاحفها وملحقاتها المهمّشة التي توقفت عند العمارة الإيطالية لهذه الأماكن السياحية المهمّة -حتى وإن كانت من ناحية اقتصادية فقط-.

 

تمر بنا ساعتيْن، نصل شحّات أخيراً. المدينة التي بناها القورينيون. مكان يحتاج لنصٍ لوحده للحديث عنه. شحّات تنسيك طرابلس، بنغازي وتنسيك ليبيا (لولا تذكير بعض الثوّار لك في حائطيتاهم على الآثار القديمة). لا تترك لك فرصة التفكير في الأزمة الليبية، هي مهرب للبحث في تاريخ هذه الأمة. نعم، لكن بخدعة تقديم نفسها بكامل عظمتها، حتى يخيّل لك أنّ الأمة الليبية يوماً ما، كانت تحمل على عاتقها الحضارة ولم تكن فقط جزءاً دائماً من ثقافة وحضارة أخرى. منذ الميلاد (وقبله) كانت المدن الكُبرى في ليبيا (عدا مدينة غدامس الصحراوية) تتبع حضارة أخرى، إما فينقية أو بونيقية (ربما يمكن تسميتهم ليبيين، ولكن المدن البونيقية الثلاث كانت تابعة لقرطاجة) أو رومانية أو يونانية أو فاطمية أو موحديّة أو عثمانية أو إيطالية أو اشتراكية عروبية. اليوم، ليبيا هي إحدى ملاعب الصراع بين حضارات العالم الآخر، فقط اللاعب هنا ليبي.

 

نزلنا إلى حوضِ كليوبترا على ضفاف المتوسط، اغتسلنا بماء الشرق. وعدنا إلى بنغازي.

 

الجزء الأخير: طرابلس أخيراً.

 

عدنا عند غروب الشمس إلى بنغازي، مضى اليوم الثالث عن الرحلة، اليوم الرابع سيكون مخصصا لفرح البنغازينو. ولأنّ الفرح لا مكان له في هذا النص، ولأنني سأعتبر طقوس الحفل طقوساً ليبية خاصة لا دخل لأحدِ بها، ولأنّني الآن اكتشفت أنني حقاً لم أشعر بمضيِ الوقت لا في الجبل ولا في بنغازي بقدر ما شعرت به عند السفر بالسيارة، مما يبيح لي تكاسلي الواضح في السرد في الأجزاء الأخيرة، لأخدع القارئ بأنّ كل ذلك جزء من الرحلة. لهذا كله، فهذا النّص لن يطول، ولن أذكر ما حدث في اليوم الأخير لي في بنغازي.

 

استيقظنا اليوم التالي باكراً، كانت أمامنا طريقٌ طويلة وصديقنا البنغازينو تركنا -كما يفعل دائماً- من أجل امرأة، وهو أمر محمود على أية حال. خرجنا من بنغازي سريعاً، ودعتُ المدينة التي أحببت وأسفت لها في آن واحد. لكن بنغازي كانت لها حيلة متبقية في يدها، فعند تركنا لحدودها الإدارية بالضبط انتشر الضباب في المكان، كانت الساعة السادسة صباحاً، الشمس تنهض كسولة ببطء، ولا يمكن للمرء أن يرى أمامه سوى أمتارٍ قلائل، كانت المرة الأولى التي أقود فيها داخل الضباب الكثيف، كانت القيادة صعبة، عليك أن تنبه غيرك من السائقين في الطريق كما عليكِ التريّث لفهم ما يحدث أمام عينيك باحثاً في الطريق التي يشكلها الضوءُ أمامك. مستقبلك مجهول، وأنت واقع تحت رحمة الطبيعة وانتباه غيرك من السائقين. لماذا تصّر ليبيا على أن أبحث في رموزها التي تلقيها عليْ؟ لا أعرف.

 

اليوم، العاشر من إبريل ٢٠٢٢، يبدو المشهد مماثلاً لذلك الصباح عندما عدتُ إلى طرابلس، ذكرياتي حول السنوات العشر الماضية يغطيها السراب، كما هي رؤيتي لمستقبل البلاد، لا شيء مضمون، هذا النص ضبابي، الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي وحتى الديني لهذا الشعب ضبابي، نحن نعيش في زمنِ السراب، وكل ما عليك فعله لتزيد فرصتك في النجاة كفرد -وربما كمجموعة- هو أن نستيقظ.

الجزء بعد الأخير: عام عن بنغازي.

 

اليوم ١٦ أغسطس ٢٠٢٢، مضى عامٌ كامل عن زيارتي لبنغازي. حدث الكثير منذ إبريل الماضي، تأزّم الوضع في ليبيا، حاول فتحي باشاغا رئيس حكومة البرلمان الليبي الدخول إلى طرابلس وطُرِد منها ذليلاً، كما يحاول حتى اليوم تحشيد قوات لصالحه. عبدالحميد الدبيْبة صار أكثر التصاقا بمنصبه وأصبح عدوانياً -أكثر- تجاه كل من يخالفه. أحرق متظاهرون غاضبون مبنى البرلمان الليبي في طبرق، تظاهر شباب في مدينة طرابلس ليوم أو يومين، تبدلت التحالفات، فأصبح الدبيْبة أكثر تقربا لخليفة حفتر بعد استبداله لرئيس المؤسسة الوطنية للنفط بحليف لخليفة حفتر. الفرقاء الليبيون اليوم، أكثر بعدا عن الواقع وعن معاناة الشعب الليبي. احترق أبناء الجنوب الليبي بنيران تهريب النفط. لازال الضباب يخيّم في البلاد بأكملها والشيء الوحيد الواضح هو أنّ الشعب الليبي، لازال يعاني، ولازال رهينة لدى المتنافسون. أما أنا، لازلتُ أرجو لليبيا كل خير، ولازلتُ أرجو أن أراها – رغم صعوبة هذا- تنهض مجدداً، فهي تستحق، ويستحق شعبها أن يعيش بكرامة على أرضه.

 

اليوم ٥ يناير ٢٠٢٣، تأخّرت كتابة ونشر هذا المقال كثيراً، وذلك لظروفٍ عدّة، أهمها أنني كتبته للنشر في منصة عربية لم يكتب لها الولادة، بالإضافة إلى ظروف خاصة تعود إلى ما واجهته في ليبيا وخارجها، كما تعود إلى علاقتي المعقّدة بالحبيبة بنغازي، والتي لازلتُ أؤمن بأنّها تملك مفتاح حل الأزمة في ليبيا، فهي، كما يقول أهلها، ربّاية الذايح.

 

Leave a Comment

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s