تخيّل معي
تخرج فابيين من الدوش لافةً الفوطة على جذعها الممشوق مخبئة نهديْها وما فوق ركبتها، تلف فوطة أخرى على رأسها لتجفف شعرها الذهبيْ، تتحرك نحو النافذة المطلة على بحيرة لايك زيورخ، تتحرك نحو جهاز الموسيقى خاصتها وتشغله، تجعل من خيوط الشمس تحتضن ما اعترى من جسدها، جيدها، ساقيْها، ذراعيها وشفتيْها…إنّها تحب هذه اللحظات، تظل تراقب النافذة أسفل ممر منزلها، يقترب من بعيد على دراجة هوائية فتىً مرتدياً بزةً زرقاء اللون يحمل مجموعة من الجرائد في سلة الدراجة، يركن دراجته بالقرب من منزلها، يحمل مجموعة الجرائد ويتقدم نحو الباب، تتابع خطواته…دائماً ما تفعل، إنّ فابيين محبة لقراءة الجرائد، وبالرغم من أنّها في الثلاثين من عمرها من ما يعني أنها شابة نضرة ومن جيل ينتمي إلى الانترنت وأنّ ما ستقرأه في الجرائد تجده مفصلاً وبملايين النكهات على الشبكة العنكبوثية إلا أنها ورثت هذه العادة من والدها، تحب أن تمسك صفحات الجريدة الواسعة بحيث تخبئ جسمها خلفها، تحتسي كوب القهوة التي تحضرها صحبة الإفطار، وسيجارة التشستيرفيلد….إنّ فابيين فتاة وحيدة، ظلت تعيش في بيت والديْها الراحليْن دون صحبة أحد سوى كلبتها ( عود) أو كما تطلق عليها بحروف الأعجمية ( أود)، كلبة أتت من أعتاب الصحراء العربية أهداها له أمير عربي إلتقت به في أحد البارات.
لا يهم كيف التقت بعود حقيقةً، ما يهم أنّ فابيين بها شيء من اهتمام اتجاه كائنات ما وراء البحر الأبيض المتوسط، في شقتها تجد نبتة صبار تزين البالكونة التي تطل على البحيرة، بها أيضاً حصير ابتاعته من إحدى رحالاتها إلى تونس، تجد في حليّها الخميسة والعين والحويتة كما تجد الشنبير، حتى أنّها ابتاعت ذلك النوع من العباءات البيض التي ترتديها نساءُ المغرب العربي، وكانت عود الجائزة الأكبر لها، على الأقل قبل أن تقرأ جريدة اليوم.
بشرتها البيضاء الناصعة يمكنها أن تمتص منك عنجهيتك، ابتاعتها من أمّها واستطاعت أن تنفذ بجلدها الأبيض من جلدة أبيها العربية، ذلك المهاجر الفلسطيني الذي نفذ بجلده أيضاً من براثن السجن على أيدِ السلطات الإسرائيلية بعد أن أنهت سيطرتها على الأرض التي لطالما حسبها بنو الإنسان كلهم أنّها لهم، تعرّف على والدتها في ضربة حظ…استطاع ذلك المهاجر العربي أن يجعل من السيدة السويسرية الغنيّة أن تنهك من قدرة قضيبه المتهيّج وجسده المخمور على إنهاء ليلة التعرف بالبار بطريقة فاجآتها…سألته من أين؟ قال: من أرض الله. فبنت أرضاً لها على جسده وأنجب منها فتاةً سمتها فابيين، سويسرية بها هوس عربيٌ يختفي داخل جلدتها البيضاء.
لا يمكنك إن كنت عربياً إلا أن تتخيل فابيين إلا وهي عارية أو شبه عارية ولكن عليك أن تعلم أنّها تعشق ارتداء الفساتين القصيرة المزهّرة والتي تستلقي ذيولها بحيث يمكنها بالكاد أن تخفي ركبتيْها، روتينها الصباحي المعتاد بعد الاستحمام وإلقاء نظرة على النافذة لانتظار فتى الجرائد وارتدائها لأحد فساتينها المزهرة هو تحضيرها لإفطارها المعتاد: أومليت وعصير العنب، ومن ثم تحضر بكرجا من القهوة التركية التي تعلمت صنعها في تركيا…فابيين كما يجب أن تعلم تحب السفر والترحال، تجلس محتسيةً قهوتها مقلبة صفحات الصحف. أخبار وأعمدة رأي بعناوين تتحدث عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والمعضلة السياسية والأمنية التي تمر بها المنطقة هناك، إنجلترا تريد أن تغادر الاتحاد الأوروبي، اليونان تحاول استعادة قليل من اقتصاد مهتوك، رجل عربي قتل خليلته بعد أن عرف أنها صورت فلماً إباحياً وهي تمارس الجنس من الخلف، أشياء كهذه وأخرى في صفحة الصحة عن نجاح عملية استئصال لورم خبيث في أحد الأماكن التي يعجز الأطباء عن استئصالها، كلنا أورام يا فابيين….
” كلب ليبي نجح في الهجرة إلى سويسرا”، جذب عينيها هذا العنوان للصحفي فابيان، صديق قديم لفخذها، أرادت أن تتخلص من هباء السيجارة التي تدخنها، تابعت القراءة، هناك عنوان فرعي لقصة المقال يقول فيه الكاتب ” أول كلب يطالب باللجوء” اختفت….اختفت في قراءة التقرير المفصل عن هروب كائن ما من أرض، ورم آخر تمّ استئصاله بصعوبة منه…ورم كونه ليبياً.
“
جاءَ عككز – اسم باللغة العربية يعني الأعرج- إلى سويسرا طالباً اللجوء، وضع أقدامه الثلاث على تراب جنة الحيوانات في الأرض رافعاً القدم الأمامية إلى الأعلى في مشهد درامي صحبة صاحبه مسعود، “هربنا عبر البحر الأبيض المتوسط لأخلق لصديقي الوفيْ عالماً أفضل يمكن أن يحيى فيه سعيداً دون التعرض للسيارات الصادمة أو الأطفال المشاغبين”. قال مسعود صاحب الكلب، الشاب الليبي الذي أبحر عباب البحر المتوسط لينقذ كلبه الوحيد، يسرد مسعود القصة كاملة قائلاً:
ذات صباح، وكالعادة كنتُ أسقي حوض النباتات بحديقة منزلي الذي يقع على أحدِ الطرق الرئيسية في البلاد، لم يكن بإمكان إنسان أن يقطع الطريق بسهولة دون أن يكون قاب قوسين أو أدنى من سيارة تصدمه، كان بالطريق التي تمتد كيلومتريْن جسر واحد يقع في منتصفها، لك أن تعرف أن منزلي كان يقع في آخر مترات من الطريق قبل أن تتفرع، عليك أيضاً أن تعرف أنّ الجسر يقع على بعد كيلومتر تقريباً من منزلي، كنتُ أقف بالبالكونة التي بها بعض أزهار الزنبق وزهرة صبّار تمتد مترًا أعلى الأرض أشاهد السرعة الجنونية للسيارات، أشاهد المارة الذين يقطعون الطريق كأنّهم في إحدى ألعاب الفيديو قيمز التي يتعين عليك فيها أن تقطع الطريق قبل أن يصدمك متعاطي الحبوب المخذرة الذي يجتاز من اليمين واليسار لا فرق.
رأيته حينها، كائن اعتاد أجداده أن يموتوا على الطريق بعد أن تصدمهم شاحنة ما يريد أن يعاود التجربة لا يريد أن يتطور أو يتعلم من أخطاءِ غيره يذكرني كثيراً بأصدقائي الذين حفظت وجوههم قطّاع الطريق، أقصد المارة الذين يقطعون الطريق من مكان إلى آخر لا أولئك الذين يقطعون الطريق حقاً كما قد يفسر حديثي سيدي الصحفيْ.”
استيقظ عزيزي القارئ صديقنا مسعود بعد أن فاجأه أن يخطو الكلب خطوة سريعة حيث أنه وبحواسه القوية أحس أنّ أقدام وأصوات اعتاد على جريها خلفه في الأزقة تركض نحوه من جديد، قطع الطريق ينظر إلى الوراء هارباً من مجموعة من الأطفال يحمل أحدهم حبل قصير والآخرين ثلاثةٌ منهم العصيْ كأنهم كانوا يبحثون عن الذي ضرب أخاهم الصغير، في تلك اللحظة مرّت سيارة كانت تسير بسرعة مناسبة لأن تلتقي إحدى زواياها بقدم الكلب اليسرى وتخرجه عن وعيه للحظات، الضربة الأليمة جعلته يسقط على الطريق وتمر السيارات من حوله محاولةً تفادي ” الأذى” الذي يعيق حركة المرور، استعاد الكلب بعضاً من وعيه، حدق في الأطفال في الجزء الآخر من الطريق ينظرون إليه يستمتعون برؤيته يتعذب، ينظر منهم إلى السيارات يصيح بالسيارات أحدهم ” هيّا…..هيّا”، كأنه يستجديها أن تضرب الكائن العاق الذي ما دخل منزلاً حتى غادرته الملائكة، حدق مسعود بالمشهد….نزل بسرعة من البالكونة، خرج إلى الطريق، التفت الكلب إلى مسار السيارات، أدرك أنه ميت….لابد أن سائقاً ما لن يراه، حاول أن يقف، استجمع قواه، كانت هناك سيارة تقترب منه، كان السائق يقود على صوت المسجلة يهذي ويميل مع أغنية مرسكاوي، إنّه مخمورٌ حتماً، تحرك الكلب ببطء…. جر قدمه الأمامية المكسورة تتدلدل في الهواء كأنها بندول، وقف مسعود على الجانب الآخر من الطريق يحاول أن يقطع الطريق لا يستطيع، يريد أن يوقف السيارات لإنقاذ الكلب لا يستطيع، الكلب شارف على الوصول إلى منتصف الطريق، الأطفال يريدون أن يقطعوا الطريق ليلحقوا به، السيارات لا تأبه، كاد أن يركب المادة الفاصلة بين الجانبيْن، هلعه كما هلع مسعود صوت صفير عجلات نتيجة فرملة لسيارات تمشي بسرعة غير مناسبة للتوقف الاضطراري كادت أن تضرب الكلب لو لم يستيقظ السائق، هرب الكلب قافزاً إلى أوسط الطريق، حدق فيه السائق وسبه ” يا ابن العاهرة!!” اقتنص مسعود الفرصة….قطع الطريق.
” فلتعلم أنني قاسيت الأمرين في جعل عككز كما تراه الآن، كلب منزلي أليف يحب أن يحتضن الجميع الغرباء والذين ألفهم، عندما وصلتُ إليه كان مستلقي هناك بين جانبي الطريق، أردت أن أحمله لكنه عضني – كان بساعد مسعود اليمنى علامة على جروح كأنها عضة- في يدي، شعرتُ بألمٍ قاتل، أردت أن أسبه….هذا الكلب أحاول مساعدته ولكنه يرفض ذلك، نزعتُ قميصي ولففته على فمه حتى لا يسعر، حملته بقوة وأسرعتُ به إلى المنزل، اتصلتُ بصديق لي ليقوم بإسعافي، سأموت لأنني أنقذت كلباً من الموت كنتُ أسخر من نفسي، ضحكت، مر الوقت حتى وصول الطبيب كالمرارة، كالجحيم يشعل حرارة جسدي المرتفعة، ارتميت على كنبتي والعرق يتصبب مني محدقاً في الكلب المسجى أمامي، ساخراً من قضمته، حدقت في عجزه، في عينيه تكادان أن تنهمرا دمعاً على حريته، لكنني قاسيت، جاء صديقي….رآني مرتمياً على الكنبة، نظر إلى الكلب المسجى، تعجب، تحرك بعيداً عنه، أخرج الإبرة، وهوووب! قام بحقني بالمصل المضاد، حقنة مضاعفة لأن الكلب ليس منزلياً قال….ضحك مني ساخراً بعد أن رويتُ له وهو يعاينني قائلاً: إذاً لقد تحولت إلى محب للكلاب الشاردة! أمثاله يموتون بالعشرات كل يوم، ما الذي يغيره إنقاذك لواحد منهم؟ لم أحبذ إيجابه لأنني نفسي لم أعرف بماذا أجيب، هل أجيبه أنها مجرد إندفاعة شيءٍ تحرك داخلي اتجاه هذا الكلب؟ أخبرني: إنّ الكلب لا يبدو على ما يرام، يجب أن تتخلص منه، أبيت ذلك….خرج ساخراً وضاحكاً.
مرت الساعات وأنا والكلب فقط نواجه بعضنا البعض، أنا مخدرٌ أنتظر نزول درجة الحرارة، هو يلعق قدمه، مكان الوجع مرة بعد حين، يحاول أن يغلب النوم….كان منهكاً، إنها ضربة موجعة، نهضت واضعاً يدي على اليد الأخرى، مددتها إليها….نظر إليها ثم التفت إلى الناحية الأخرى غير مكترث بها، تحيزت الفرصة…ضمدت له ساقه، حاولت أن أقوّمها بعصاً لففت بعضا من الشاش عليها كيْ لا تفقد قدمه ما تبقى من قوةٍ فيها وأن تتعود على وضعها الجديد، وضعت له بعضاً من الطعام، في البدء لم يكن يريد أن يأكل أو يشرب…حاول أن يهرب لكنه لم يستطع، كان يعتقد أن ما أنقذه في البداية هو مقدرته على الحركة لا حرارة الحياة التي نشبت في جسده الذي فقد قوته على الحركة شبه كلياً، استسلم في النهاية لكنه لم يرد الأكل أو الشراب، جعلته يمضي بعض الوقت وحده، ألقيت بجسدي إلى النوم.
في ذلك اليوم لم يأكل شيئاً…. حاولت أن أغصبه على الأكل لكن دون فائدة، في المساء حادثت بيطارياً أعرفه، أنا أعرف الكثير من أصحاب التخصصات الطبية، إني طبيب متقاعد عن العمل منذ تخرجي على أيةِ حال، أخبرني أنّه سيمر عليْ صباح اليوم التالي، قضيت الليلة أمام الكلب أريد أن أراقبه كيْ لا يموت. سيموت حتماً مع ضعفه وجوعه.
صباح اليوم التالي، قام البيطري بمداواة الكلب المسكين، كان رجلاً من أولئك الذين لن يمكنك معرفة مهنته حقاً في تلك البلاد، فكرت في كم البيطرين الذين قد أصادفهم يومياً دون أن أعرف مهنتهم، يمكنك أن تحزر مهنة أحدهم في ليبيا إن كان طبيباً عادياً أو مهندساً أو عاملاً أو حتى تاجراً، غير ذلك ستواجه صعوبة ما، ولولا أنّه كان صديقاً لي ما عرفت أنّه بيطريٌ أبداً، عاين القدم، قال لي وهو يضع نظارتيه الطبيتين: لا فائدة منها، القدم مكسورة على عدة مستويات، هنا وهنا وهنا…وأشار إلى أسفل الساق، الفخذ والكتف…أعاد العصا، ثم حقنه بإبرة تغذية، جلسنا نحتسي الشاي ونتحادث عن الكلب، قال لي أنّه لم يذهب إلى معاينة كلب ( عربي) – هكذا نطلق على الكلاب الليبية الشاردة في ليبيا- منذ زمن، أخبرني أن آخر كلب من هذا النوع قام بمعاينته هو كلب لسيدة سويسرية، كانت عجوزاً قادمة مع زوجها الإيطالي العامل في مجال النفط، كانت تربي مجموعة من الكلاب الليبية…تضع لهم الحليب، توفر لهم الطعام، إنها حتى تستقطب الكلاب الجديدة عدا تلك التي تربيها، قال: عندما دخلت لمنزلها، هالني عدد الكلب….كانت باحة المنزل واسعة وترابية، من ذلك النوع من المنازل الليبية التقليدية، عشرون كلباً ليبياً رآهم، لم يتبينهم من الوهلة الأولى….كانت الكلاب نظيفة، تلعب، ولا تعير انتباهاً لإنسيْ، استقبلته السيدة السويسرية، أعدت له الشايْ قال لي، قالت له: إنني أريد فقط أن تعاين أطفالي الصغيرة وتفحص عليها وتطاعمها إن لزم الأمر، فعل ذلك….أجزته جيداً، سألها: لماذا تهتمين بهذه الكلاب الشاردة؟ تغيرت تفاصيل وجهها، لكنها ابتسمت ابتسامة صفراء أخيرا وقالت: في سويسرا….لهذه الحيوانات حقوق أكثر من التي لديْك هنا! ، أعطاني بعض الإبر وقال لي: إذا لم يأكل عند انتهاء هذه الإبر، تخلص منه، سيكون من العبث أن يعيش على الإبر ما تبقى من حياته!
شعرت بالإهانة…..شعرت أن أحدهم امتهن إنسانيتي، هذا الكلب المسكين سيكون أعرجاً طيلة حياته التي لن تستمر طويلاً على أية حال، سميته ” عككز” في تلك اللحظة بالذات، احتضنته…تلك الليلة نمت بجانبه، أقسم لك أنه إذا شاهدني أحدهم في تلك اللحظة كان سيضحك من جنوني، لا أحد يحتضن الناس هناك…كي يحضتن الكلاب الشاردة والمسعورة!”
ليال ثلاث لم يبرح مسعود مكان الكلب حتى فرغت منه الإبر، تركه، كان يفكر في قصة البيطري صديقه وما قاله له عن سويسرا، دخل إلى المنزل يبحث عن بندقية الصيد (فلوبر) خاصته، بحث عنها في خزانة ملابسه، كانت البندقية الممشوقة التي لم يتم استخدامه منذ أيام والده الميت، ” أبي كان يعشق الصيد” قال مسعود…. ” كان سيضربني إذا رآني أعتني بحيوان مثل هذا الاعتناء منادياً إياي بالمخنث”، بحث عن رصاص الفلوبر إذ وجده في صندوق خشبي بجانب البندقية، نفخ فيها، مسح الغبار، وضع بها رصاصتين….أخذ بصحبته الذخيرة إذا لم يمت الكلب من أول ضربة، كان سيوجهها على رأسه قال، عبر السلالم إلى حديقة المنزل الأمامية، تحرك حيث القاراج أين كان يعتني بعككز طيلة أربعة أيام، عقد العزم على قتل الكائن إلى أن أوقفته ” معجزة” على حد قوله يرى عن طريقها الكلب يتناول أولى لقماته من اللحم والحليب الطازج منذ الحادثة وفي حياته كلها.
فرح مسعود، عاد أدراجه لكي لا يضايق ضيفه….منذ تلك اللحظة، عاهد نفسه أن يوصله إلى بر الأمان وأن يسعى قدر استطاعته لجعله يعيش حياة كريمة، صنع له بيتاً صغيراً بحيث يمكنه رؤية الضوء، ” ليس جيداً أن تبقي كلباً في الظلام…إن لم يكن مسعوراً سيصبح كذلك، إن الناس في ليبيا يبقون كلابهم في الظلام لا يرون الشمس لأشهر إلا في أوقات الطعام حتى يتوحشون فيتمكنون من حماية منازلهم من اللصوص والمتلصصين” يخبر مسعود سبب إخراجه عككز للحديقة، تعود الكلب على رؤية صديقه الجديد يتكرر عليه ليحاول ملاعبته ويمسح رأسه الذي يطأطئه خوفاً عند قدومه، تعود على اليد الذي تطعمه الطعام، أصبح يأكل أمامه، أخذ من مسعود أشهراً من المعاناة والملاطفة وإعادة البرمجة للكلب حتى يألفه، أرخى حباله وجعله يمرح في البيت كما يريد، عائقه الوحيد هو قدمه الأمامية التي لم تعد صالحة للمشي، وقف في البداية أمام الباب المغلق كأنه يبحث عن آخر فرصة للخروج، لابد أنه كان يحلم بكل الذين آلموه من أبناء جنس صديقه.
” الكلاب، وأقصد هنا تلك الكلاب الشاردة المسمى ( العربية) والتي تراها في جماعات تملأ الشوارع والنفايات والريف وأماكن الخلاء بعيدا عن البشر، تموت هناك يومياً بالعشرات إما باصطدام السيارات بها أو عن طريق حملات التعذيب ( اللعب) التي يقوم بها الأطفال، إنهم يمسكون أحدها ويحومون الأزقة به ضاربين ممرغين التراب راجمينه ومجرجرينه وخانقينه، رأيت يوماً ما رجلاً بالغاً يشنق كلباً منهم رآه يقتل إحدى دجاجاته ملقيا جسدها نازعاً رأسها منه، أمسك به، لف الحبل على رقبته ولف الحبل على شجرة التوت وقام بسحب الكلب إلى الأعلى تتدلى أقدامه في الهواء يحاول العواء والاستنجاد، يرخيه لكي يتنفس الصعداء، ويعاود الكرة من جديد….كان الرجل يشعر بشعور لذيذ جداً، إنه ينتقم لدجاجته الميتة من هذا القاتل المسعور، قصص مخيفة تسمعها عن كلاب ليبية ماتت تحت التعذيب المرير، بعض الأطفال يقومون بسكب الكاز على الكلب عند الانتهاء من تعذيبه ويشعلون فيه النار، بعضهم يبيته ليالٍ ليحظى برحلة صباحية كل يوم صحبة الأصدقاء والسجين، أعرف رجلاً آخر يحب اصطيادهم ليقوم بمضاجعة الإناث منهم بعد أن يقوم بربطها من جميع الجهات ويلف فم الكلبة برباط حتى لا تقوم بعضه أو الهرب، إن عككز محظوظ جداً أن ينتهي به الأمر لأن يكون أليفاً وأن يحتضن أصدقائي الذين يزورونني بل أن يتحصل على إفطار وغذاء وعشاء يومياً بالإضافة إلى الاستحمام والدفء…الأشياء البسيطة التي يعامل بها كلاب البيوت والكلاب ذوات السلسلات النبيلة والأوروبية التي يتم جلبها إلى ليبيا، فما بالك برفاهية تامة حتى جعلته ينام بجانبي في الفراش، إنه يستحق ذلك”
” الأمر أنّ الناس في بلدي لا يهتمون كثيراً بالحيوانات، هناك القلة من يفعلون ذلك لا أنكر هذا، لكن السواد الأعظم لن يهتم كثيراً بكلب صدمته الحياة بأن يكون ضحية الميلاد في الأزقة، كائنات الأزقة والشوارع سواءً أناس أو غيرهم هم الدرجة الدنيا من مجتمعي، أما أنا فلا…إنني أرى أنّ لعككز حقوقاً مثلي، لماذا عليْ أن أشعر بالفوقية اتجاهه فقط لأنني أتكلم، أقود السيارة ويمكنني أن أضعه في السلاسل والظلمة؟ إن هذا أمر خاطئ…إنهم كائنات مثلنا، من لحم مثلنا، ينزفون مثلنا، يحبون الحياة والجنس والنجاة والنضال من أجل متابعة الحياة حتى ولو بثلاثة أقدام، تعلمتُ صحبة عككز الكثير…تعلمت أن هذا الكائن – وقد مسح مسعود رأس كلبه- مثل هذا الكائن- وضرب على صدره للإيضاح- يستحق حياة أفضل! لقد خضت صحبته مغامرة تعرفت فيها على الأشياء المشتركة بيننا، تعلمنا فيها أن لا يخاف أحدنا الآخر، أن لا يخشى أحدنا من الحرية، عندما علمته أن لا يخشاني تركت له باب المنزل مفتوح وأعطيته الحرية في الخروج، كان يخرج في الأيام الأولى ويعود مؤخراً في الليل، صنعت له فتحة يمكنه أن يدخل منها من خلال السور متى شاء….في إحدى الليالي سمعتُ عواء كلب، ذلك العواء الذي تسمعه عندما يخاف الكلب، نباح كلاب أخرى في الشارع، فتحت النافذة وألقيت نظرة، كان يمكنني تبين عككز محاصر من قبل مجموعة من الكلاب ” المسعورة” تلك التي كان يهيم صحبتها أو صحبة شبيهاتها من الجماعات يتعرض لهجوم منها، عليك أن تعرف أنه أصبح أكثر ألفة، لم يكن ذلك الكلب المسعور المتشرد ولم يكن ذلك الكلب المربى في الظلام، أصبح شيء كقطة، أسرعتُ أجري خارجاً للشارع أحمل عصاً لأهش الكلاب عنه….ومنذ أن رأت جرمي حتى اختفت، كان وحده واقفاً لا يتحرك، حضنته في خضم الليل وصمته وقمت باصطحابه في المنزل….منذ ذلك اليوم، أيقنت أنه لن يتمكن من الحياة هناك كثيراً خصوصاً أنّ قدمه عرجاء لا تساعده في الجري، بسببها لن يتمكن حتى من الدفاع عن نفسه، هذه المرة كانت كلاب مسعورة، المرة القادمة قد يعود مجموعة الأطفال التي كانت تطارده لتتخلص منه، أنا لستُ من ذلك النوع الذي يحب أن يجعل كلبه محبوساً طيلة اليوم، في ليبيا….لا يمكنك حتى من تمشية كلبك – خصوصاً كونه أعرج وذو أصول ليبية متشردة يمكن لأقل الناس معرفة بالكلاب هناك من تبين ليبيته- لا يمكن للكلب أن يخفي ليبيته، الملامح محفورة في الذاكرة الجماعية، هناك قصة تراثية في إحدى القرى الليبية في أيام المجاعة التي ضربت البلاد أربعينات القرن الماضي تقول أن مجموعة من الفتيان أكلوا لحم كلب وتعاركوا على من ينال الفخذ!”
ظل مسعود يغزل فرو كلبه، كان متحداً معه وكان الكلب يكاد يكون مستسلماً، أخبرني مسعود بقراره الذي اتخذه، في الأيام التي تلي تلك الحادثة قام بالبحث عن مهرب بشر عن طريق البحر يمكنه أن يحمل الكلب معه، كره الحياة في ليبيا كما قال لي، لم يعد يؤمن بالبشرية هناك، لن يتفهموا أن على عككز أن يحظى على الأقل بحياة كريمة بقية حياته، ” سيسخرون مني إذا عرفوا بقصتي، سأكون متابة مسباتهم ولعناتهم….ولكن لا يهمني ذلك، ما يهمني هو هو الحقيقة” أخبرني وقد أشعل سيجارة أخيرة من علبة سجائر المالبورو، ابتسم ناحيتي وقال لي ” جلبتها معي من ليبيا…. آخر السجائر من بلدي، سأستمتع بها” وظل يلاعب كلبه.
واجه رفضاً كبيراً من الكثير من المهربين ” لا يسمح بالحيوانات يا صديقي” إلا أنّه لم ييأس، بحث عن مهرب يمكنه أن يقبل بالكلب صحبته، قال لي أنه أراد أن يشتري منه مقعدين واحد له والآخر لعككز، رفض الرجل لكنه أعطاه فرصة للنفاذ إلى محاورة ومماكسة في السعر، وبعد جهد جهيد من قبل مسعود قام بشراء ” تذكرة” رحلة قيمتها عشرين ضعفاً من ” التذكرة” العادية له ولكلبه حيث أجر مركباً خاصا به.
البحر، واسع…وأن يكون في صحبتك كلب داخل الرحلة هو أمر مخيف، فأنت لا يمكنك أن تضمن أن الحيوان سيتمكن من أن يصبر حتى نهاية الطريق، جلب معه الكثير من طعام الكلاب، وأمضى الساعات داخل البحر يصلي لربه أن ينجو هو وعككز حتى نهاية الطريق، أمسك بكلبه، عانقه داخل المركب وانطلق بهم المهرِّب في رحلة موت إلى الشواطئ الإيطالية، أقلعا مع حلول الفجر، برد المياه كان آخاذاً، النسيم كان آخاذاً، القمر يظهر من بعيد في السماء المظلمة كان آخاذاً، الحرية القريبة كانت آخاذة.
” سأقول لك يا سيدي الصحفي، ستعتقد أنّ الأمر مجرد كليشيه يعاد…ولكن ما حدث وسط مياه البحر المتوسط كان مخيفاً، كنا نسافر على بساط من موت، خرجنا الشتاء….المتوسط في الشتاء لا يعد ذلك البحر المجنون الذي قد يقتلك داخل سفينة لكنه يمكنه أن يقلب الزورق الخفيف الذي تسير عليه فوقه، كنا سنموت….بطريقة أو بأخرى كنا سنموت، كنا أربعة في الزورق، أنا والمهرب ومرافق له والكلب رابعناً…أصحاب الزورق كنا، والساعات الست مرت كثلاثمئة عام أو يزيدون، أفريقيا كانت تنادينا…كانت تسحبنا كما تسحب جميع أبنائها إليها، إلى أفريقيا يعود الأفريقي ميتاً أو حياً، تعود عن طريق قوارب خفر السواحل الليبية الذين تأتيهم إخباريات التهريب من مهربين آخرين يريدون لأحدِ المنافسين السفلة لهم أن يتم القبض عليهم….الخفر الذي لا يأبه كثيراً بالمهاجرين غير الشرعيين أكثر من المهربين ذاتهم أو معاشاتهم التي يتحصلون عليها من خلال الدعم الأوروبي للحكومة تعود صحبتهم حياً، تعود إلى إفريقياً ميتاً غارقاً عائدين إلى السواحل الليبية منفوخ البطن مزرق اللون لا يُعرف وجهك من مؤخرتك، بالمناسبة هل تعلم أن الحضارات القديمة كانت تطلق اسم ليبيا على أفريقيا….على الأقل الجزء الذي عرفوه منها؟ معلومة غريبة، في ليبيا نؤمن أنّا مآلنا إليها دائماً حتى ولو مكفناً ستعود… إذا مضيت في عد طرق العودة لن أنتهي سيدي الصحفي، ولكني أقول لك….بالنسبة لي، الأمر لا يهم، المهم أن ينجو هذا الكلب، هذا الكلب الذي قدم لي خدمةً كبيرة، جعل مني إنساناً أفضلاً…إنّي مدينٌ له بحياتي هناك في ذلك الزورق، في تلك الأمواج التي كادت تقلب زورقنا، وسط المياه التي بدأت تملأ الزورق الصغير كنتُ أجن، كنت أخاف أن أموت، أن أعود إلى السواحل الليبية منفوخ البطن، عرف المهرب خطورة الموقف، صرخ قائلاً لي: عليك اللعنة سنعود! نعم في تلك اللحظة…تتجلى الأنانية الإنسانية عندما تلاقي الموت، الموت يخرج أسوء ما فينا، ولكنني ودعتُ الموت منذ ركوبي بالزورق، وليكن…سأعود منفوخ البطن قبل أن أعود مع عككز إلى الأراضي التي حطمت رجله وأفقدته هويته، قفزتُ مهتاجاً ومرتاباً وهلعاً على المهرب وأمسكتُ بخناقه، أصبحت أصرخ بهستيريا وسط العاصفة الشتائية التي كادت تقضم زورقنا، أصبحت أهزه وأردد كلمات غير مفهومة، كان الكلب واقفاً هناك مبلولاً بالمياه ينظر إلى المشهد جالساً على ثلاثة أرجل ورافعاً الرابعة، أذناه اللتان كانتا واقفتيْن لأول مرة أراهما هكذا… عيناه تحدقان فينا، تحدقان في هلعي، قفز عليْ رفيق المهرب وصفعني، أخرج سلاح كلاشنكوف….دائماً ما يخبئ هؤلاء سلاحاً ما حتى لو كانت الحمولة كلب ليبي يؤمنون أنّه لن يتحرك ساكناً، كلب ( سهسوكي) – تعني جباناً في اللغة الليبية- لا خوف منه، وضع السبطانة على رأسي وهددني بالموت في البحر، كانت جبهتي تقبلها فهوة البندقية، بدأ المهرب يهرف باللغة الأمازيغية مع رفيقه، تردد الرجل…كان ينظر إليْ بسوء لكن بتردد، كان يريد فقط إخافتي وردعي، كان المهرب ربما يريده أن يقتلني، أعرب عن ذلك قائلاً له بليبية واضحة: أقتله….ابن العاهرة! في تلك اللحظة….ودون سابق إنذار، وفي لقطة قد تقول عنها كليشيه قفز عككز على حامل السلاح، عضه… غرس أسنانه في يده فتخلى عن السلاح، هرعت قافزاً إلى السلاح ومياه البحر لازالت تلطمنا، هددتهما لم يكن لي سبيل آخر لفرض سيطرتي، رميتُ برصاصتيْن في السماء معلناً قدرتي على استخدامه ومعرفتي به، كان عككز لازال مسيطراً على الرفيق…قلتُ لهم موجها السلاح نحو المهرب: سنكمل المشوار!
“أنت تعرف بقية القصة….لأنني أنا هنا أمامك، كل ما أطلبه أن يمنح اللجوء لهذا الكلب، لقد عانيتُ كثيراً ليتخطى الحدود السويسرية، ناشدتُ خفر السواحل الإيطالي أن يتركوني وشأني، صرختُ فيهم بحقوق الحيوان، الخفر الإيطالي صعب التعامل معه، سلمني والكلب لهم المهرب حسب اتفاقنا السابق، دفعتُ له مبلغاً كبيراً لأصل إلى هنا، دفع لهم بعض المال وركبنا أخيراً في الزورق الإيطالي، لم نمكث كثيراً في إيطاليا…عرضتُ قضيتي على السلطات الإيطالية، التقيتُ بصحفيين طليان، قصصتُ لهم القصة، قبلوا بمساعدتي، أعطاني أحدهم معلوماتك الشخصية لأحدثك، قال لي…معه ستلقى أذاناً صاغية” قال لي مسعود، فرك رقبة كلبه… غمس أصابعه في فروه، كان بالكلب قصة أخرى تريد أن تحكي نفسها، تمنيتُ عندها أن أغور أسباره، هذا الكلب الليبي الذي نجح في الهجرة إلى سويسرا وقدم أوراق اللجوء منتظراً أن تنظر المحكمة في قضيته، هل ستقبل المحكمة منحه اللجوء؟ “.
انسكب قليلٌ من القهوة على فستانها، إنزعجت قليلاً، تذكرت رحلة لها إلى ليبيا أيام كان من الممكن لها أن تذهب، تذكرت مرشداً سياحياً يبتسم عندما حدث لها ذات الأمر مرة في مقهى شعبي بليبيا، قال لها: عندما تنسكب عليك القهوة عندنا، فهذا يعني أن خيراً ما سيأتي إليك! توقفت فابيين عن القراءة، ابتسمت، توقفت وتحركت نحو صنبور المياه شعرت بدغدغة في قدميْها وهي تحاول أن تهزم بقع القهوة بالماء والكد بالفوطة، كانت عود تلعب تحت أقدامها، أشعلت سيجارة أخرى…صبت كوب قهوة جديد، رفعت الكلبة إلى حجرها، قبلتها….ابتسمت والدمع ينهمر من عينيها، صممت على أمرٍ ما، تحركت نحو هاتفها….إنها تعرف الصحفي، إنه أحد أصدقائها، فابيان…كان يأتي إلى منزلها في حفلات الشراب التي تقيمها أحياناً، إنها تقرأ الصحيفة ذاتها بسببه، دائماً ما تستفتح بتقاريره العجيبة، ابتسمت عندما سمعت صوته من خلال سماعة الهاتف وقالت: فابيان…أنت دائماً ما تفاجئني! قصة الكلب الليبي الذي هاجر إلى سويسرا تبدو مثيرةً للإهتمام، أريد أن أقابله، علينا أن نتحرك….وبسرعة، اليوم، الساعة 6 مساءً…ما رأيك أن نلتقي بصاحب الكلب؟.
عادت فابيين لقراءة ما تبقى من صحف اليوم، أخبار عن الشرق الأوسط، انفاجارات، إنقلابات، مهاجرون غير شرعيون يصلون إلى السواحل الإيطالية، حروب، وزاوية صغيرة بها: من ليبيا يأتي الجديد!
رددت قائلة: من ليبيا يأتي الجديد!
“ليس جيداً أن تبقي كلباً في الظلام…إن لم يكن مسعوراً سيصبح كذلك، إن الناس في ليبيا يبقون كلابهم في الظلام لا يرون الشمس لأشهر إلا في أوقات الطعام حتى يتوحشون فيتمكنون من حماية منازلهم من اللصوص والمتلصصين “،
” الأمر أنّ الناس في بلدي لا يهتمون كثيراً بالحيوانات، هناك القلة من يفعلون ذلك لا أنكر هذا، لكن السواد الأعظم لن يهتم كثيراً بكلب صدمته الحياة بأن يكون ضحية الميلاد في الأزقة، كائنات الأزقة والشوارع سواءً أناس أو غيرهم هم الدرجة الدنيا من مجتمعي”
ما هذا يا رجل ؟ أستحضر قول الشاعر الفلسطيني وجيه مطر عندما تستنفذ الأساليب وتكون المعرفة بها مدعاة للصمت ، ألسنا نعتبر الصمت في هذه الحال أي بشرط المعرفة ، فنًا مطلقاً ؟
أضيف من لم تلامسه وتحركه هذه القصة فهو ميت حقاً رمزية الكلب هنا عميقة جداً
LikeLiked by 1 person