
اغتيال الفراشات| الورقة الثامنة
في زمنٍ ما كان عليها أن تمضي أرق أيامها في حي التوت، النزق الذي يحمله الحي بين طيات أزقته أرغمها على التشكل غصباً عنها بما لا تحبه، الجن العاشق، اختطاف الحكومة لها، نفسها المرتعدة والخائفة والتي ترقص هرباً من مشاكسة الحياة لها، فقر عائلتها وقلة حيلتهم، ألقت بكل ذلك تهماً اتجاه الحي، لعنت تبرك الناس بالمرابط المدفون تحت الشجرة، أخبرها والدها في طفولتها أن عائلتها تعود بطريقة ما إلى بركة الشريف الرجل الذي بنى الحيْ بعرقه، أحبته لفترة ما من حياتها، تبركت أمها به طالبة منه أن يشفي ابنتها من لعنة الجن، عين الحسود والشر المحيق بهم من أعين الجيران، من الحياة ومتاعبها وأرقها، لطخت رأس ابنتها بحبر الثمرات الذي اشترته لها أيام كانت أمها تعتقد ببركة السائل المستخرج منها، كان هناك سوق كامل داخل الحيْ بكل ما يتعلق بالشجرة، جذورها، أوراقها، فروع منها، شجيرات قيل أنها بناتها، ثمرات التوت المبارك، حبر التوت المقروء بالقرآن، لحافها، تربتها، حتى الحشرات التي نمت داخلها نالت حصتها من التقديس هي وبيض العصافير والحمامات التي تبني أعشاشها داخلها، بل إنها تتذكر بأن الشجرة في سنة من سنوات لم تكن مجرد مزار ديني يأتيه المسلمون من كل مكان فقط، بل مزاراً سياحياً، أضخم شجرة توت عرفها الإنسان لم تتوقف عن النمو، رأت سياح إيطاليون واسبانيون وأتراك يصورون بجانب الشجرة العظيمة، كانت هناك سنون شهدت هي على ازدهار الحياة في الحي بسبب السياحة الدينية أو الترفيهية للشجرة إلى أن حدث ما حدث، في البدء… غُيّبت هي عن العالم في السجن تأكل روحها الأيام وجسدها الصفعات التي تتلقاها من الغولة، وعند عودتها هجر الناس الشجرة، واحتلها ذلك الذي نبت من الفراغ يدّعي بأن الشجرة ملك لأجداده من قبل لتصبح دكّانه الخاص، تحولت الشجرة مزاراً للحشاشين، السكارى، المجرمين، شذاذ الآفاق، المنسلخين من الحياة، ضعفاء الأنفس وكل الراغبين في الربح السريع والفاشلين غير القادرين على مواجهة الحياة والملتويين، احتقرتهم جميعاً، احتقرته هو بالذات واحتقرت الشجرة، وعند انتشار رقعة الرواد والزوار حتى يتحول والدها إلى زيارة التاجر، والعجزة وكل الناس ليكونوا زبائنه، احتقرت الحيْ بأكمله ولم تطق أبداً بعد ذلك العيش داخل الحي، لذا…. فقد استطاعت أن تقنع عبدالسلام بأنه حان الآوان أن تخرج العائلة من الشعبية، من الحي لأبعد من ذلك، ليشتروا منزلاً جديداً ويبدأوا حياة جديدة، وعبدالسلام لم يكن ليرفض طلباً لأخته. كانت تمجده، كان يقدسها. إلا أن طفولتهما لم تكن دائماً بهذا الشكل الحميمي بينهما، ثمة حوادث شتى يبدوان فيهما وهما صغيران كالأعداء أقرب للأخوة، حادثة الحلوى مثلاً كانت أبرز ما مر بينهما من صراع، تمكن عبدالسلام بعد أن أفنى شهراً كاملاً من العمل فتى ” برويطة” يحمل الأمتعة والخضروات والفواكه عن المتسوقين في السوق الشعبي ويكرها إلى سياراتهم ليتقاضى أجره ديناراً، يقوم بالعملية ذاتها عشرات المرات، يتزاحم صحبة الفتيان الفقراء والأفارقة، كان قد سيطر على مجموعة منهم ونظم الأدوار بينهم مقابل نسبة من المال يدفعونها له يومياً، لولاه… لم تمكن الكثير منهم أن يحملوا أكثر من مرة واحدة، تمكن في أحد الأيام من شراء حلوى، كان في الثالثة عشر من عمره وتجده يمص الحلوى دائماً، لم يتخلى عن مصه للحلوى حتى بعد أن أصبح قائداً لكتيبة بأكملها، عُرِف بهذه العادة، وفي أحد الأيام التي اشترى فيها كمية هائلة من الحلوى، جلس في عتبة بيتهم يقضم القطعة تلوى الأخرى، كانت ملاك قد عادت لتوها من يوم دراسي مزعج – لم تكن تحب المدرسة-، ترتدي القرمبيول وتضع حقيبة الظهر وشعرها المنفوش يظهرها في شكل بهلواني بعد أن تعاركت مع إحدى الفتيات، كانت غاضبة كالبركان، رأته يمص الحلوى ويرمي تحت أقدامه العيدان، شعرت بأنّ حلوى واحدة من قطع أخيها قد تصلح يومها فطلبت منه أن يعطيها واحدة، كان ينظر إليها بلا مبالاة قائلاً:
- اشترِ لنفسكِ واحدة!
- ليس لديْ مال، أعطني واحدة.
- لا، اشتريتها بمالي. اغربي عن وجهي.
وأخذت أحد عيدان الحلوى وغرستها في عينيه اليسرى، ذلك اليوم فقدت عيناه دماءً لم يكن يعلم بوجودها داخلها، تعلم أنّ العين لا تبكي الماء فقط بل الدماء، كرهها، كاد أن يفقد عينيه لو انغرس العود كاملاً في عينيه إلا أنها أسقطت العود بعد أن لمس عينه، خافت واستغربت من قدرتها على إيذاء الناس، أقرب الناس إليها، بعد تلك الحادثة لم يشأ أن يأكل معها في صحنٍ واحد، بل عاملها بكل السوء الذي يمكنه أن يفكر فيه، كان يشد لها شعرها كل ما سنحت له الفرصة، ينعتها بصفات لا تحبها، يضايقها بمجرد رؤيته لها. استمر في التنمر ضدها لسنتيْن حتى مرضت، سقطت في أحدِ الأيام داخل الحمام مغشياً عليها، ركض يبكي يبحث عن والده في الدكان الذي يعمل به، جرى في الأزقة الترابية لحيْ التوت يدعو الله أن ينقذ أخته الصغرى ويعده بأنه لن يشاكسها أبداً ما عاش بل سيكون خير أخٍ لها، وعندما نهضت من فراش المرض. تغيّر كل شيء بينهما، اقترب منها قاب قوسيْن أو أدنى واشترى لها العشرات من الحلوى، وخصص دائماً جزءاً من غنيمته في العمل بالسوق لها، يشتري لها الملابس وتخرج صحبته للعلب والمرح والضحك، يدافع عنها ضد الفتايات الأخريات ويحرسها من أذى البعوض.
- مرحباً ملاك! هل عبدالسلام في البيت؟.
كانت تحب ذلك الفتى المسمى “حميد”، صديق أخيها منذ طفولتهما، يقف أمام الباب الحديدي ينتظر “العبسي” ليخوضا مغامرامتهما اليومية، فقبيْل انفتاح زهرة الشمس وقد تخللها جريد النخيل الأخضر في أزقة الحي، وقبيل انبعاث زغاريد القصبي الصباحية ناشرةً صخب الحياة اللذيذ فوق مستنقعات الصمت الذي كان يستبد بالحي طول الليل لتكنس عنها فقعات ذلك الصمت المُرعب الذي إن تخلله صوت فسيكون صوت الطيرة المزعومة أو ولولة سيارة إسعاف استيقظ قائدها على هدير حالة عاجلة أو عراك أحد الجيران مع زوجته، يتراكم صوت الأم صادحاً في أذنِ عبدالسلام.
– عبسي نوض وليدي .. مش بتمشي السوق اليوم ؟ .
يستنكر عبسي الصوت للوهلة الأولى، يتململ في فراشه، يتقلب ليوحي لأمه بالانزعاج، وبعد محاولات أمّه في إيقاظه يغالب نفسه، وينكمش بجسده، بحركات أفعوانية ينسلّ من الغطاء، بإيحاء صبياني رافعاً يده دون إدراك منه يشير لأمه بأنّه استيقظ تماماً، تتراجع الوالدة لكيْ تصنع النهار على مزاجِ أطفالها.
يغطسُ عبسي وجهه في حوض المياه، يطيل مكوثه في الحمام، يسمع ملاك تناديه من وراء الباب.
- عبسي … احميد جاك.
يسبُ احميد و يرطن بكلمات غير مفهومة تدل على عدم الرضا … يمسحُ وجهه، يصلي الصبح بسرعة خاطفة وكأنّما شبح الموت قد أعطاه مهلة ثوانٍ معدودة قبل أن ينهي صلاته الأخيرة، تنهره والدته، يتأفف في صمتٍ مقتضب. تبقى ملاك بجانب حميد تراقبه وتحادثه، لطالما كان حميد لطيفاً معها، يطمئنها أن عامها الدراسي هو أسهل أعوام السنة، وأنّ الاختبار الحقيقي عندما تدخل للصف التاسع، تقول له بأنّ علامتها جيدة لولا كراهيتها لأستاذة الحساب المزعجة الشبيهة بكلب الدوبرمان، تصف انزعاجها وخوفها من عصاها التي ربتها في حقيبتها لسنوات، ” أما أستاذة المجتمع الجماهيري…فهي مملة، كالحصة ذاتها”، يضحك حميد.
- صباح الخير.
يقولها متثائباً و شبح النوم لا زال ماكثاً على عينيه …
- صباح الخير وليدي، احميد يراجي فيك قدام الباب.
- تبي حاجة من السوق؟
- سلامتك، جيبلنا معاك خضرة بس، نديرلك فطور ؟
- لا لا … تو نفطر غادي.
يفتش في جيبهِ عن حلوى قد اشتراها بالأمس، يخرج واحدة أخرى لحميد ويضع حلواه في فمه، يبحث عن حذاءه، يلتهم الحذاء أرجله الصغيرة المتآكلة بفعل التحامها المتواصل بالرمل والصخور، يبحث هنا وهناك عن عربته، يجدها مدسوسة بجانب بعض الخردوات، يزيحها، عجلة غزاها الصدأ وتآكلت جوانبها، ذراعاها متصلان بحبل بلاستيكي أخضر اللون يكاد يغير في الجلد إذا مررته عليه، يمسك بالذراعين و بحرفية يرفعها حتى مستوى كتفيه ويخرج بها لملاقاة احميد، يحيه تحية جافة، يبتسم في وجهه بخفة، ينظر لأخته التي ظلت واقفة أمام الباب، يقول لها بمزاجه الصباحي:
- ادخلي البيت.
تتواطؤ هي لتودع ابتسامة أخيرة في وجه حميد اللامبالي، وتراقبهما يتخذان الطريق نحو شجرة التوت. ” شجرة التوت”، متى سيأتي موسم قطف ثمارها، ستتسلل هي وحميد وعبسي في القيلولة بعيداً عن أعين الناس، سيتسلق الصديقان الشجرة ليقطف لها الثمار، تصنع من قفطانها سلة يرميان فيه التوت، وستلعب مع حميد لعبة إصابة الهدف، سيرمي من الغصن فوق رأسها قطعة ليصيب فمها، إن فشل، ستأخذ جزءاً من حصته، وإن نجح، سيأخذ جزءاً من حصتها.
- حميد مات، في الحرب مع الكتائب.
لازالت تتذكر تلك الكلمات التي لفظ بها أخوها بلا مبالاة، ألقى عليها الخبر كأنّه يشعل سيجارةً من سجائره، ولم يخبو حبها وتقديرها له رغم زواجه بتلك الفتاة خارج الحي، “وجدان”، كان حميد كل ما أحبته في الرجال، يملك قوة أخيها ولطفه الخاص، وحتى بعد فراق الصديقيْن، لم يقل احترامها أو محبتها له، بل لم تخشى من الابتسام في وجهه وإلقاء التحية عليه كل ما مرت به، يسألها عن حال “عبسي” وما الذي يجري في حياته، وتسأله عن حال زوجته وما الذي تفعله به الأيام، تمر بها ذكريات المشاغبين الثلاثة التي كانوا فيها يغزون حي التوت بأكمله بضحكاتهم وألعابهم قبل أن يقرر حميد الرحيل عنه مع عائلته. وقبل أن يقرر عبدالسلام الرحيل عن صديقه نهائياً.
- لماذا لا تتزوج وجدان؟ قالت لأخيها.
- وجدان زوجة حميد؟
- نعم، لن يكون مناسباً أن تترك زوجته للأيام، خصوصاً أنها مع الثورة.
أراد حبها لحميد دائماً أن يبقى، لذلك كانت دائماً مستعدة للتسامح معه رغم كراهيتها لكل ما يمثله نظام القذافي، هذا التضارب والاختلاف في مواقفها، كان حميد قادراً دائماً على حله. أرادت أن تتسامح مع موته في سبيل إطفاء الثورة، رغم بكاءها المستمر على ذلك، رغم أنها شعرت بكرهها له وحقدها عليه بعد أن سمعت بموته في سبيل إطالة عذاباتها في السجن.
(( إلى أن… وجدت نفسها سجينة مرة أخرى، في زنزانة أكثر سوءاً من التي سبقتها، هدفها الوحيد الانتقام من أخيها هاهاهاهاها)).
الجذر الأول: أوراق التوت.
الثمرة الحادية عشرة
قررت أن لا أحاول، أن أستمتع بسجني هذا دخنتُ نبتة التاجر، بحثت في العُلية مجدداً عن أشياء قد تثير اهتمامي، الصور العائلية التي مررت عليها بسرعة بحثاً عن قصة ملاك أثارت اهتمامي مرةً أخرى، هاهو الطلياني يبدو سعيداً في طفولته جالساً على فخذي جده الذي يرتدي الجرد الليبي بشاربه الكث ينظر للكاميرا في تحدي، توجس وتخوف، الطلياني مرة أخرى يلعب بين أشجار الزيتون، صورة قديمة لفتىً يشبهه قد يكون والده، وصورة لإمرأة بها لمحة إيطالية حزينة، ” إنها جدته” قلت، ترتدي رداءً مزهّراً لا يتناسق مع سحنتها وشكل وجهها، فكرت في المرات التي ارتديت فيها شيء لا يشبهني، لا يمثلني، لطالما كان أخي جيداً في كل ما يرتديه راضياً به وفرحاً داخله، أما أنا فكنت نقيضه تماماً، حاولت دائماً أن أقلد أسلوبه في الحياة، لم يكن يكترث لشيء، هادئاً وتغطي وجهه ابتسامة، سمته إحدى العمّات بالضحوك، تنظر لي أنا فتتراجع كلماتها وتبحث عن أي شيء تتمسك به قبل أن تتورط في التواصل معي، كرهتها، اعتبرتها دائماً عجوزاً شمطاء، قبيحة، نذلة ومتملقة، كل عماتي وأعمامي اعتبرتهم متملقين، يلاعبوننا فقط لنيل رضى والدي ولم يكن أخي متيقظاً لذلك ولا والدي حتى، أحياناً كنت أشعر أنني فقط أضمر السوء للجميع وأبحث عن النوايا السيئة اتجاه كافة أفعالهم الجيدة وأبحث عن السم داخل كلماتهم الممزوجة بالياسمين، خذر البخور. لكنني سأنطبقُ على نفسي، أتشممُ أثر عرقي ، أنحني على دمعتي ، أسكبهما في كأسٍ من الكرستال المنبوذ ، أخمـّرهما، أعتقهما، من ثمّ سأغيب وسطَ هالاتٍ من السُكر و النشوة و اللذة اللانهائية. الإحساس بالانطباق سيفتعل في أشياءٌ ستحبذها نفسي، ربما سأحبُ أن أكره أو أكره أن أحب، ربما سأتمنى أنّي لو كنتُ قطرةً من هذا السُكر لأضيع في زجاجة تضيعُ في جوفِ حوت يضيعُ في البحر يضيعُ في النزوح، ربما سأخترق جِدار صوتِي وأتجرد من ملابسِي المشؤومة، أجلسُ عارياً إلا من نفسِي هناك في العلية، وأظلُ أبكِي، أتعرق، أسكبُ الخليط في الكأس وأسكر بما تبقى منّي، سأرفعني عالياً جداً، أهبط بي سافلاً جداً، أدوّرني، أكوّرني، أقرأ لي قصيدةً من شعرِ المتنبي، ثم سأروي لي حكاية من حكايات جُحا، أضحكُ … أبكي، أستمرُ في شرب القهوة، سيخطر ببالي أن أتنفسَ رائحة البنزين، هل يمكن أن أجد بنزيناً في العلية؟ فعلى كل حال فيها كل شيء، سأراقب سحنتِي المشبوبة بالأدران عند المرآة المتكسرة بجانب جلد النمر، أنتفخُ .. أنتفخُ … أنتفخُ، أتفجر، أتوزع على هذه الأرض، لأصبحَ في أرضٍ ما زهرة، في أرضٍ أخرى شوكة، في أرضٍ أبعد منهما ربما سأصبحُ كرةً من الروث المشبع بماءِ المطر، ربما سأكون شيئاً آخر غيري، ربما سأتحول لفراشة تتحول لملاك يمكنني بعدها أن أعرف قصة هذه العاهرة، هذه الجنيّة التي زارتني وأنا على قارعة من سُكر، هذا السراب المنطفئ يشعلُ في تُرهات غبية، يفتعل في الرغبة في الـ…. والـ….. وأشياءٌ أخرى أكثر ضراوةً على فؤادي، أرى الحياة قصيرةً جداً بقدر أنّ كوب شاي بالياسمين سيستغرق وقتاً أطوَل للاستمتاع بهِ منها، أتتبعُ غُرز جُرحٍ عميق يتكلل صدري به، أحـاول أن أفض الغُرز، ينسل الخيطُ البلاستيكي من بين جلدِي المُـتعفن بالارتباك ومع كل غرزة تُنتزع تختفي صورة من صورِ دنيايْ، صورة لطفولة كاذبة أو مرعبة، صورة لمراهقة ذهبت على عُجالة حتى أنني لم أتمكن من التقاط ذاكرة مميزة فيها، وصورة لشباب لم يكتمل … أو لم يشأ أن يكتمل فقفز بسرعة إلى شيخوخة أحقر من الشيخوخة، شيخوخة لا يمكنني فيها تذكر ما أكلت البارحة، ما رأيت البارحة. نعم! أتذكر ما رأيت البارحة، رأيتها بجناحيْها، هل يمكن أن أراها مجدداً؟! ما الذي فعلته حتى تظهر لي وترشدني إلى تلك الغرفة، حيث ضوء الشمس يخجل من معانقة جدرانها، حيث رائحة الدم والنزق والسرير الذي يبدو مفتعلاً، جلست على السرير، ترتدي فستاناً أبيضاً، شعرت بأنها تدعوني لأنيكها وإذا بي أقترب منها يتزوق جناحيْها بالسواد، وجهها صار أسوداً، هل هي مرام أريده أو ملاك يريدني؟
يجب علي التوقف عن تدخين عشبة التاجر، الحشيش، إنه يأخذك إلى مناطق سيئة جداً أو جيدة جداً بحيث لا تريد العودة منها لكنك مرغماً تجد نفسك قد عدت للواقع، الواقع الذي تعرف فيه أنك ما خرجت من العلية تبحث في حاجيات رجل مات عارياً في أوروبا، أن تموت عارياً في أوروبا أفضل من أن تموت مسكواً في ليبيا، تذكرت ما قاله لي التاجر، السعادة نسبية، بالتأكيد فإن فرعون كان سعيداً جداً عندما انتقم من كل كلمة عنصرية أو فعل عنصري أقيم ضده، وبالتأكيد فإن الطلياني رغم كل المال الذي جعله حزين فإنه مات سعيداً بعيداً عن عاره وعار جده وربما شعر بلذة الانتقام من كل الذين شكلوه، من جده ومن الحرب ومن نفسه حتى، لذا… يجب أن أكون سعيداً، أن أتحيز هذه الفرصة للعلب والمرح والضحك ولتذهب الكتابة للجحيم، كما فليذهب التاجر للجحيم الذي أتى منه، ” يمشي ينيْك”، ثم أنني يجب أن أمارس الحكمة التي تقول بالتخلي، فالتخلي يأتي بالأشياء تنجر وراءك كقطيع أغنام، ربما هذا هو أرقي: لا يمكنني أن أتخلى عن شيء. ولا يمكنني أن أبرهن حقيقة الأمر، فها أنا يُخيّل إليْ أنني تخليت عن ذكرياتي ولم تقبلني السعادة البتة، إذاً… هل تخليت عن ذكرياتي حقيقة؟ نعم كل ما أتذكره هو وجه أخي، ومحاولاتي لقتله، ما أتذكره تماماً كأنه يحدث أمامي. أما البقية، فلم أرى من أبي سوى أقدامه، كتفيْه، صدره وشعره، لم أرى من أمي سوى ساقيْها وفستانها الذي ترتديه، والبقية الذين أتذكرهم يشبهون كل الناس الذين أراهم في حي التوت. لا أحد يزرع في عقلك علامة مميزة له، كلهم كريهون، قذرون، أو مغلوبون على أمرهم.
جلستُ في العلية، أنظر للمرآة المتكسرة، راجعت محاولات قتلي لأخي، في مزرعة التوت، بالموسى وأنا أصنع الفليتشة، آه..(( يبدو أنك نسيت؟ ما رأيك أن أذكرك؟ انظر لجروحي، وستذكر كل شيء، انظر هذا الجرح قد أخذته عنك عندما كان أولئك الأطفال يتحرشون بك، ويحاولون سرقة فطورك، أنا من ضربتهم في الوقت الذي كنت فيه تبكي في الزاوية، أنظر إلى هذه العضة، لقد تلقيتها عنك، عندما أردت أن تؤدب ذلك الفتى السمين الذي أهانك، انظر لهذه الجروح في ذقني وظهري، أتذكرها؟ أنا من حملتها عنك نظراً لمعرفتي بمخاوفك، عندما كان ذاك الأحمق يطلب منك أن تذهب للظلمة، لم تنكسر أنت، أنا الذي انكسرت، انظر إلى أسناني المدمرة لأجلك، انظر لرأسي، آه….انظر لأصبعي عندما لم تكن تستطيع أن تفتح علبة الحلوى، فتحتها لك حتى جرح إصبعي، انظر إلى قلبي، إنه مثقوب…برصاصة، نتيجةً لتهورك، نتيجةً لخرقك، من أجل عظمتك… ها ها ها ها ها))، أشعر بألم في رأسي، لما يعود ذلك الصوت من الحلم مجدداً الآن؟ تباً له، تذكرت! كانت هناك تلك المرة التي اشترى فيها والدي شاحنة بحجم الله، أصريْنا عليه أن نركب في صندوقها بينما يقود بنا إلى البحر، الحر، الشمس، الرغبة اللذيذة في تذوق الجيلاطي، الغوص داخل البحر، فكرت أنني سأتمكن من ” تكزيز” أخي، ونحن جالسان على مقاعد الشاحنة، الغبيْ، الطريْ لا يعرف حتى العوم، إنه دائماً يشعر بالآمان صحبتي، سأنال منه في البحر، كان أبي يسرع في القيادة باتجاه البحر، في الطريق الترابي، ارتطمت دواليبها بصغرة فقفزت وتابعت سيْرها، قفزنا من مقعديْنا وعدنا إليهما، جاءتني فكرة جميلة، أخبرته ” ما رأيك أن نجلس على الباب؟”، أحس بالخوف، لكنني شجعته بأن جلست على الباب، الشاحنة ترتطم بالدواليب، حررت يديْ من الإمساك بالقضبان المعدنية، الحر، الشمس، الرغبة اللذيذة في تذوق الدم، الدوران، الغياب عن الوعي، ” ها أنظر لي، لا شيء مخيف”، اقتربنا للبحر، عليه أن يبتلع الطعم قبل أن أضطر لرفع سنارتي، “حسناً”، وحاول الوصول إلى الباب وتقليد ما أفعله، الطريق الوعرة، الشمس، الحر، والسقوط! بووووووم! ارتطم رأسه في الأرض، جريْت داخل الصندوق لأطرق زجاج مقصورة السائق وأشرت على أبي بالتوقف، “لقد سقط”. طاف رأسه على بحيرة الدم خاصته، على الأقل تحصل على فرصة العوم، لكن القذر، لطالما تمكن من النجاة بطريقة أو بأخرى. النجاة من النار، من الأدوية، من الحمى بعد تعرضه للبرد الشديد وهو يحاول مجاراتي في اللعب تحت البرد والمطر، من الرصاص إذ يتبع ثوريْتي الهوجاء، من شبح الموت الذي مراراً أردت أن يمسك به دون أن يكون لي تدخل مباشر.
ماذا يمكنني أن أجد في العلية غير شبحه وصور الطلياني؟ نزلت، شغلت جهاز الدي في دي لأول مرة، مجموعة ضخمة من أفلام هوليوود، شاهدتها جميعاً دفعةً واحدة، استمعتت بالحياة لأيام وليالٍ أدخن عشبة التاجر وأشرب شرابه وأصنع الطعام لنفسي حتى كدت أنتفخ، أجرب النوم في كل زاوية من الزوايا، بجانب الثلاجة، متكئاً برأسي على المرحاض، داخل حوض الاستحمام، في العلية، على الكنبة، على الأرض، فوق مصطبة الطعام في المطبخ، في زوايا الغرفتيْن، على السرير، تحت السرير، في السماء السابعة، تحت الأرض حيث يبيت هايديس، واضعاً رأسي على أطباق الطعام، على أوراقي الممزقة وأوراق قصة ملاك تحكي لفتاة أخرى ما عانته، داخل أفلام هوليوود التي أنهيتها، نمت في كل مكان وزمان، فوق المُزن نمت، بين الخراء نمت، نمتُ داخل المرآة، وماذا سيقوم به إذا لم أكتب؟ لقد برهنت أنه لن يقوم بأي شيء، سيتعين عليه تنظيفي وتحليق وجهي بينما أخوض في نومي، في راحتي واستجمامي وسكري وخذري.
- استيقظ أيها الأحمق، أعجبتك الإقامة؟
رأيت وجهها أخيراً، كنت داخل الحمام متكئاً على الحوض الذي غبت فيه ليلة الأمس، أوراق مبلولة بالماء والصابون على الأرضية، فارغة، قلم حبر، ويد تمسك بشعري. رأيتها، كانت ملاك، مرام؟ لا أعرف، تبدوان شبيهتان. بحثت خلفها عن الأجنحة التي تحلق بهما كل ليلة تأتيني فيها لأفرغ رغباتي ثم تختفي قبل أن يخرج منيي.
- لم أحصل على كل هذا الدلال مثلك. أيها المخنث!
صفعتني، أحسست بأن صفعتها لصقت في وجهي كالخيبة، كانت عارية، جناحيْها قد قُصفا. رأيت مرة فتىً يقصف ريش الحمام، أخبرني بأن الحمام لن يطير إذا قمت بقص ريشه، وعند ذلك سيتعين عليه أن يألفك تخطو بجانبه. حسناً، لقد ألفتني العاهرة، وبصقت في وجهي. ” عبر طريقه نحو الحقيقة”. سأجن أخيراً كالأمريكي، هذه هي نهايتي أن أمر بكل ما مر به أولئك الذين عرفهم التاجر، أرى أشباح لا وجود لها لأنني أعتقد بأنهم أبطالي. في داخلي شعرت أن ملاك كانت بطلتي التي تغلبت على السجن. شعرت أن الفرعون بطلي لأنه تمكن من الانتقام من هؤلاء الغجر، البربر، البدو. شعرت بأنّ الصايع بطلي بعد أن تمكن رغم سكره بأن يصدح بشجاعة أمام الخلق. شعرت أن الطلياني بطلي لأنه تمكن من أن يبصق على عائلته دون الهروب منها. كنت دائماً ما أهرب، لم أذق مرارة ما ذاقوه، حتى هذه المرارة التي شعرت بأنني أتذوقها داخل أسوار المنزل الأمريكي ستعد جنة الله في أرضه عند العديدين، ما الذي يحتاجه الكاتب غير العزلة؟ وهاهي بطلتي أتوهمها، تضربني، تبصق على وجهي، تناديني بالأحمق، المخنث. ها هل لديك مسبات أخرى؟ إنني أشعر بزبي يتحرك، إن مسباتك تثيريني. تعالي واقفزي في الحوض صحبتي.
- هيا تحرك، هل تعتقد أنه يسهر على راحتك؟ عليك أن تدرك بأنك لست إلا دمية أخرى من دماه، يحركك حيث يشاء. عديم فائدة مثلك، يمكنه أن يقتلك متى ما شاء. هل فكرت يوماً، لماذا لم يجد بُدّا من أن أغتصب؟ هيا تحرك وامسك القلم أيها التافه!
نعم أنا تافه، وعديم فائدة، زيديني بعض المسبات الأخرى وسأكون على ما يرام، وشدتني وجرجرتني من شعري، كان جناحاها ممزقان، يختلط الأبيض والأسود، يبدو أن الأجنحة أيضاً تشتغل شيباً لا شعر زكرياء فقط، جعلتني أرتدي ملابسي، وضعتني أمام طاولة الكتابة، أمسكت يدي بيدها وجعلتني أكتب رغماً عني.
- لا أريد أن أكتب، أريد أن أستمتع.
وحاولت أن ألتقم نهدها بعربدة مخفقة، إلا أنني كنت هزيلاً كفاية لترغم يداي على الكتابة.